تحرر من ماضيك بالمسامحة
بقلم : عمار عبد الكريم البغدادي
شهرزاد : تحدثنا في المرة السابقة عن (المرض الصديق) ، لكن ألا ترى أن هنالك صدمات تترك أثرا سلبيا مضاعفا ، وتجعلنا نصدق الكذبة التي طالما سمعناها في طفولتنا ؟.. كلمة مثل أحمق أو غبي ترن في آذاننا من جديد حينما نفشل في تجربة عمل ،أو حب ،أو صداقة.
شهريار : يحصل ذلك كثيرا لكننا في هذه الحالة مازلنا نعلق إخفاقاتنا على شماعة الماضي ، عجبا أننا نعرف معنى أن يكون الشيء ماضيا بلا رجعة لكننا متمسكون بكل صغيرة وكبيرة فيه !، وكما أسلفنا فأن الكثيرين يركنون الى كهف مظلم في عالم الذكريات ليضمنوا سلامة زائفة ، ويقينا أن الصدمات تترى مادمنا ننظر الى الخلف دائما .
شهرزاد : وهل من مفاتيح آخرى غير الصدمات للتحرر من التركيبة النفسية القديمة والتصورات الذهنية التي أقحِمَتْ في عقولنا الباطنة منذ عقود؟ .
– المفاتيح كثيرة وكلها متعلقة بالمحبة ، فالعشق وحب الشريك والأجواء الأسرية الحانية مسببات لإستحضار الماضي والتحرر منه .
على مدى 18 عاما الأولى كنا نقمع مشاعرنا الأليمة ، نجد صعوبة في إيصال آلامنا الى الوالدين ،أو الأخ الأكبر ،أو المعلم المتسلط ،أو حتى بائع الخضار وهو يسخر من سوء إختيارنا لبرتقالات في دكانه ، والنتيجة مزيد من القمع والتجريح وسوء المعاملة ،والمفاهيم الخاطئة عن حقيقتنا وقدرتنا على النجاح .
حينما نحب وتتدفق مشاعرنا كسيل عارم فنحن نتحرر ، وتتكسر قيود الماضي من خلال إحساسنا بالحرية ، لذلك نحن نشعر بألم مفاجئ ونحن في غاية السعادة .
نحن نعيش بين عمقين في تلك اللحظات ، فان إستطعنا ان نستحضر أسباب الألم القديم ونصارح بها أنفسنا والمحبين من حولنا إستطعنا بدعمهم أن نطفو على السطح مجددا ،ونمحوها من ذاكرتنا الى الأبد ، وإنْ غابت الأسباب زادنا ذلك الألم غرقا بينما تطفو سلوكيات سلبية تطيح بلحظات السعادة وتؤذي المقربين منا .
يقول جون غراي : (لو أن مشاعرنا الداخلية ونحن أطفال قد سمعتْ باستمرار ،ونالت التأييد بطريقة ملؤها الحب عندها لن نَعلَقَ بانفعالاتنا السلبية كراشدين،ولكن معظمنا لم يكونوا يتلقون الدعم بهذه الطريقة وهم أطفال، ومن هنا فإن علينا أن نقوم بذلك بأنفسنا) .
نعم ياشهرزاد ذواتنا الراشدة تستطيع أن تتحرر بمصارحة النفس ، وسواء كان ذلك بحديث صريح او برسالة حب، كما يسمها (غراي) ، نكتب فيها ما يعتلج في صدورنا بعد أن استشعرنا آلام الماضي في لحظات حالمة ، وكم كنا نتمنى لو أننا وجدنا آذانا صاغية في حينها لنعبر عن إستيائنا وعن حقيقة غابت عن أذهان من أساء لنا بكلمات جارحات مازالت ترن في آذاننا ، أو بسلوك عنيف أرتجفت منه أبداننا حتى هذه الساعة .
إن تلك المصارحة تحتاج الى شجاعة كما أسلفنا ، وإنها أعظم شجاعة يتحلى بها الإنسان الصادق مع نفسه ، وإن كانت تزيد من الألم في ساعتها لكنها تصل بنا الى أعظم درجات البر بالوالدين .
نحن نحب أباءنا وأمهاتنا بوصل رباني بدأ في ساعة نفخ الروح لدرجة تمنع تحررنا من قيم زرعت فينا ونحن صغار ، وإنْ كنّا ندرك أنها خاطئة منذ عقد او عقدين من الزمن ، لكن علينا أن نعلم أن آثارها السيئة الظاهرة على سلوكياتنا وإخفاقاتنا تشعرهما بالذنب ، ولو قدر لهما العودة بالزمن الى الوراء لتجلت لديهما النية الصادقة بإستخدام مفردات وعبارات وسلوكيات أفضل تمنع ما نشعر به من مرارة وإنكسار بعد بلوغنا سن الرشد .
ولو وجهنا محبتنا لوالدينا على هذا الأساس ،وتذكرنا دائما أنهما لم يبيتا النية يوما لزرع مفاهيم خاطئة في ذواتنا لأدركنا ضرورة التغيير ، وأجد أعظم بر بهما أن نصحح ماكانا سببا فيه عن غير قصد ، وهنا نصل الى المعنى الاعظم ..التسامح .
أن التسامح في مفهومه العام أن نغفر لمن أساء الينا يوما، فنحرر ذلك المخطئ من عقولنا ونشعر بالراحة ، وهنا أسأل: أي إنسان على وجه الأرض أحق بالمسامحة من الأب والام؟ ، الأب هو الإنسان الوحيد على الأرض الذي يتمنى أن يكون ابنه أفضل منه ، الام هي الوحيدة التي لا تتوقف عن العطاء حتى آخر نفس في حياتها .
لأجد بِراً أعظم من القول : أسامحكِ أمي ..أغفرُ لك أبي .. من اليوم سأكون الإنسان الذي طالما حلمتُما به ، ناجحا محبا معطاءً مجتهدا في تربية أولاده على الحب والقيم العليا ، وسأنصت لصغيرهم قبل كبيرهم ، وأستشعر آلامهم وآمالهم قبل أن تتحول الى إحساس بالقمع قد يمتد الى عقود .
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة
للتواصل مع الكاتب : [email protected]