مراجعة اصل الكلام الذي يستعمله السياسيون العراقيون وكشف عوراته، ضروري للحالة الماساوية التي يمر بها العراق منذ ستة عقود، افتقد المجتمع خلالها استخدام السياسيين لغة واضحة خالية من الغموض والكذب والنفاق والتأويل. اذ طرأت على المشهد السياسي العراقي احداث خطيرة، كان على الاحزاب والساسة التصدي لها بطريقة سياسية “قيمية” متناغمة اخلاقيا مع مبدأ الصراحة والمسؤولية الوطنية في جانبيها الاداري والمجتمعي. بمعنى آخر ان تكون منسجمة مع المباديء المختبرية المتعلقة بالمسألة “الوطنية” وبناء الدولة المدنية الحديثة، وليس “تغليب” مصلحة الحزب على المصالح الوطنية كما هو دارج لدى مجمل الاحزاب داخل السلطة وخارجها. يقودنا ذلك الى التساؤل: كيف يحصل التقارب الموضوعي بين المجتمع والطبقة السياسية اذا لم تستطع هذه الطبقة “الحزبية” الجمع بين مفردات “لغتها السياسية” بشكل واضح وصريح لصالح الوطن ومجتمعاته؟ وماذا يميّز كل هذه الاحزاب عن بعضها، عقائديا وتنظيميا، وهي جميعها غير صادقة امام المجتمع ولا تدين بالولاء الا للحزب وللطائفة والعشيرة وليس للوطن كما تعزو اليه وقائع اهدافها الاستراتيجية العملية والتثقيفية ؟.
يشير “علم السيميائيات” الى ان اسلوب اللغة “الكلام ـ السردي” في الحياة السياسية العامة، قدرة لاذكاء الغموض والتأويل والتسويف لغايات سياسية تتيح للاحزاب الآيديولوجية ـ العقائدية سحب البساط من تحت اقدام المجتمع وتضليله باشكال نمطية مباشرة او غير مباشرة. وهي اساليب تتقنها وتتميّز بها الاحزاب السياسية العراقية ومنتسبوها داخل المحيط الحزبي وخارجه، على قاعدة ما علينا الاستفادة منه لصالح الحزب، ليس بالضرورة كشف دلالاته للعلن. ويبدو كما تشير الوقائع والاحداث المتعلقة بالحياة العامة على المستويين الوطني والمجتمعي وما يحيطهما من مشهد سياسي واداري واقتصادي وقانوني وامني مرتبك لاكثر من ثمانية عشر عاما عجاف، ان العديد من الاحزاب وقياداتها الفاعلة على الساحة العراقية، داخل السلطة وخارجها، لم تتعلم ان لم نقل، لم تتقن مهنة فن السياسة او قادرة لان تتصالح مع ابجديات “اللغة السياسية” موضوعيا وواقعيا بالقدر الكافي من الصراحة والمصداقية والوضوح. فالممارسة السياسية في اطاريها النظري والعملي في الشأن العراقي مليئة بالتناقضات والتبريرات الساذجة.. فعلى سبيل المثال لا الحصر، انتشرت في الآونة الأخيرة على لسان بعض الساسة المتنفذين حزبيا وسلطويا، تصريحات وادعاءات، استهجنها المجتمع وتعرض لها الاعلام بشكل واسع. كشفت عن عورة الاحزاب الآيديولوجية ونفاقها العقائدي فيما يتعلق بموقفها من ” الدولة والمصالح الوطنية”، القضيتين المركزيتين اللتين سعى السياسيون لاغراض حزبية مقايضتهما بـ “السلطة ومصالح الحزب” رديفا لـ “الدولة ومصالحها”، بمعنى آخر الاستحواذ على “السلطة” لصالح “الحزب” على حساب “الدولة” الوطنية. فالاحزاب دون استثناء تتحدث بانها الى جانب الدولة وحفظ امنها “الجيوديموغرافي”، لكنها من الناحية العقائدية، لا تدين الا بالولاء للحزب ومصالحه.
مصالح الدولة
انه لمن المؤكد اذا ما انسلخ الحزب وقادته لاسباب آيديولوجية، عن احترام مصالح الدولة والمجتمع ومقايضتها بمصالح الحزب، فسيخسر القاعدة الجماهيرية ولم تعد له مكانة مؤثرة بين الاوساط السياسية والشعبية، كما ويفقد ثقة المجتمع به وعجزه عن انتاج الاساسيات الخاصة بتطوير الحياة السياسية وتفاصيلها المجتمعية في كل مناحي الحياة في العراق.
يفترض من الناحية الموضوعية والمبدئية، ان يمارس، الحزب، اي حزب، “لغة حكيمة”، واضحة وصادقة تجتمع على اساسها كل اعتبارات المجتمع وليس العكس الذي تعمل به أغلب الاحزاب العراقية، التي اصبح وجودها وصوتها مجرد ضوضاء، بسبب ما اقترفته من مآثم وطنية ومجتمعية وكذب وتسويف وتغليب “مصالحها الحزبية” على المصالح العليا للدولة والشعب الذي يفترض على الاحزاب من ناحية المبدأ خدمته وصيانة حياته بإعتباره مصدر السلطات واساسها الحقيقي.
قبل ان يتولى منصب رئاسة جمهورية العراق العربي، قام برهم صالح بالتصويت على الاستقلال عن العراق، بل خرج عن قواعد احترام الجميل واحتقر العراقيين بالقول (أنا اتمضمض لانظف فمي عندما اذكر اسم العراق)، والآن وهو ما زال رئيسا للعراق ويطمح لولاية جديدة، عسى ان يتمضمض لغسل فمه من آثام النفاق والانتهازية التي افضت الى عدم ولائه للعراق ومصالح شعبه، بل احتقاره حتى اسم العراق!. ولعل من الضروري بمكان الاشارة الى ان اغلب الاحزاب القومية الكردية والسياسيين الاكراد يتحدثون علانية وبقناعة مطلقة بأن (مصالح الكرد وكردستان أولا، وعملهم على المستوى العراقي غاية ووسيلة لتحقيق مآربهم الكردية) أنه خيار ضمن الدعاية الموجهة لصالح الطبقة الحاكمة وليس لصالح الشعب الكردي. في اواسط تموز 2021 بثت قناة العراقية الفضائية خمس حلقات مقابلة مع مفيد الجزائري، ادعى وهو القيادي والوزير السابق عن الحزب الشيوعي العراقي في الجزء الخاص بمجزرة “بشتاشان عدم معرفته بالجريمة التي ارتكبها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بحق العشرات من المناضلين العراقيين ضد نظام صدام. ليس غريبا بعد مرور عقود على تلك الحادثة الأثيمة ان تغيب الذاكرة، لكن الغرابة ان يجهلها قيادي يفترض ان يعرف أدقّ التفاصيل التي تمر على حزبه، وان لا تصيبه شحطات فكرية وآيديولوجية وسياسية مثيرة للسخرية بسبب عقدة لسانه لقول الحقيقة.
لجنة صياغة
وفي مقابلة اجراها معه قبل اسابيع الاعلامي المعروف نجم الربيعي، صرح الوزير السابق والقيادي في المجلس الاسلامي الاعلى باقر جبر صولاغ بان كل عضو من اعضاء لجنة صياغة الدستور قد تلقى مبلغ 150 الف دولار مقابل توقيعه على اقرار الدستور على علاته.. الغريب في الامر ان لا احد من احزاب السلطة وممثليها في لجنة الصياغة “الشيعة والسنة والكرد” قد انتقد تصريح صولاغ واتهمته بالكذب، الا النائب السابق عضو اللجنة القاضي وائل عبد اللطيف عن العراقية وعضو اللجنة والنائب السابق عن الحزب الشيوعي العراقي حميد مجيد موسى.
ليس مهما ان عبد اللطيف القاضي المخضرم او حميد مجيد القيادي الشيوعي او غيرهما من الأعضاء في لجنة الصياغة قد استلم مبلغا تافها 150 الف دولار من بريمر مقابل التوقيع على اقرار الدستور الذي جاء به الاحتلال وخبير يهودي وضعه.
الخطير كيف سمح هؤلاء لانفسهم “وهم دعاة الوطنية؟” التغطية على نوايا الاحتلال وتضليل شعبهم لقبول دستور يحتوي على الكثير من التأويل والثغرات القانونية التي تضر بمصالح العراق والعراقيين ومستقبلهم. الا كان الاحرى بهم الخروج آنذاك في وسائل الاعلام للوقوف دفاعا عن وطنهم بوجه تمرير الدستور وكشف مساوئه وخطورته امام الشعب العراقي؟. وكيف لهم ان يكونوا شهود زور آنذاك بامتناعهم عن قول الحقيقة من أنّ ما سمي بـ “الاستفتاء” الشعبي على الدستور لم يكن الا مسخرة. والحقيقة التي يعرفها القاصي والداني، ان سلطة الاحتلال فرضت على مجلس الحكم ابان الانتخابات التشريعية الاولى باعتبارها استفتاءا على الدستور على الرغم من ان نسبة المشاركة لم تكن تتعدى الـ 30% من اصوات الناخبين!
لعنة “اللغة” وليس لعنة “التاريخ” فحسب، ستلاحق الاحزاب وقادتها السياسيين ـ الحكوميين منهم والحزبيين، الذين شاركوا على مدى ثمانية عشر عاما في خداع الشعب العراقي وايقاع الضرر به وبمصالحه الوطنية والمجتمعية، وانتهاكهم الحقيقة وحفظ الامانة وخراب الوطن ونهب خيراته والمتاجرة باراضية وحرمته الجغرافية، واستخدام ما يسمى بـ “العملية السياسية” لصالح الطبقة الحاكمة ـ التي حولت التنافس السياسي الشريف الى صراع مصالح ونفوذ، من الصعب وضع حد له او التمرد عليه لصالح الشعب والدولة ومصالحها المقدسة..
انه من أسوأ الخطايا التي ارتكبتها وترتكبها الاحزاب العقائدية وقادتها جرف نظام “الطاعة للحزب” نحو الهيمنة الكاملة على حرية “الابداع الفكري والمجتمعي”، الذي من شأنه ان ينهض بالكادر الحزبي ليصبح فاعلا وطنيا في الحياة السياسية واصلاح الاوضاع العامة وتطويرها، ليحل محله مفهوم “قداسة الحزب” وجعله منهجا لتحقيق مآرب الحزب وقياداته الحزبية للهيمنة على احتكار السلطة والدولة معاً.