5 نوفمبر، 2024 1:27 م
Search
Close this search box.

انقلاب بكر صدقي 1936

ترجمة – وليد خالد احمد
كتابة – مجيد خدوري
كانت هناك حركتا معارضة للوزارة مختلفتان اختلافاً شاسعاً كانتا تمتلكان القوة، إلاّ ان التمرد على الحكومة القائمة لم يكن ممكناً إلاّ اذا تظافرت الحركتان المختلفتان في الأفكار والتطلّعات، لتضعا حداً لطغيان وفساد نظام ياسين الهاشمي- رشيد عالي الكيلاني المزعوم. كانت الحركتان نتاج ايديولوجيتين مختلفتين وعملتا احداهما مستقلة عن الأخرى. تُعرف اولاهما باسم جماعة الأهالي، وتدافع عن الإشتراكية والديمقراطية، أما الأخرى فتتألف اساساً من ضباط الجيش وتنادي بالوطنية وتسعى إلى اقامة نظام دكتاتوري في نهاية المطاف. كان على جماعة الأهالي ان تعمل طويلاً قبل ان تطلب تأييد الجماهير، على الرغم من ان قادتها كانوا يتكلمون عادةً على مصالح الفقراء والبائسين. كان ضباط الجيش قد احرزوا مكانة اجتماعية راقية ويحظون بتأييد كل المنظمات الوطنية تقريباً.
عندما باشرت ادارت ياسين- رشيد عملها كان ضباط الجيش يؤيدونها تأييداً قوياً، ويُذكر ان ادارة ياسين- رشيد لم تتمكن من إسكات خصومها السياسيين إلاّ بقمع التمردات القبائلية في الفرات الأوسط بلا رحمة. وحين انضمت فئة صغيرة من زعماء الجيش إلى المعارضة سراً، اصبح مجلس الوزراء في وضع ميؤوس منه تماماً، لكنه لم يدرك بعد خطورة الوضع. كان شهر عسل الأهالي- الجيش هذا هو الذي دفع المعارضة إلى الحركة وترجم المعارضة السرية إلى تمرد مفتوح. ادى عمل هاتين المجموعتين إلى عواقب بعيدة المدى، ولذلك يجدر تفحّصه عن كثب.
جماعة الأهالي
أسست جماعة الأهالي عام 1931 فئة صغيرة من الشياب المتحمسين المُشبعين بافكار ليبرالية. كانوا جماعة احسّت بعمق ان السلطة السياسية كانت منذ زمن طويل بيد جماعة صغيرة من كبار السن حالت عمداً بينهم وبين نهوضهم بدورهم في حياة بلادهم السياسية. غير ان هؤلاء الشباب كانوا منقسمين على انفسهم انقسامات حادة ولذلك كانوا ضعفاء وعاجزين سياسياً. لم تكن تجمع بينهم خلفية اجتماعية كانت أم ثقافية، ولذلك كانوا منقسمين على فئات صغيرة. كانت هناك بالدرجة الأولى جماعة الذين تلقوا تعليمهم العالي في الخارج، وبالدرجة الثانية الذين تلقوا تعليمهم العالي في الداخل، ومعظمهم تخرج في كلية القانون ببغداد. اخفق شبان هذين المعسكرين، على الرغم من براعتهم وطموحاتهم في الإفادة من التعاون، بسبب عدم الثقة وغياب التواصل الحميم بينهم اساساً. لكنهم احسوا احساساً عميقاً بالحاجة إلى التقارب بينهم، وعليه فقد تشكّلت حفنة من هؤلاء الشباب عفوياً، واصبحت تُعرف باسم جماعة الأهالي، على اسم صحيفتهم اليومية. عندما انطلقت هذه المجموعة كانت تدافع بدايةً عن مبادئ الثورة الفرنسية والديمقراطية بصفتها شكل الحكومة المثالي. برزت الأهالي، صحيفة الجماعة فوراً لتكون اكثر صحف البلاد شعبيةً، لأن اعضاء الجماعة كانوا يتعاونون بينهم تعاوناً فعالاً في تحريرها ومدّها بمقالات كان لها صدى واسع في بغداد.
مرّت جماعة الأهالي بتغيير عام 1934. فتبنّت الإشتراكية، تحت تأثير عبد الفتاح ابراهيم ومحمد حديد بصفها اول مواد المعتقد. يبدو ان عبد الفتاح اصبح اشراكياً عام 1930 بسبب قراءاته عن الإتحاد السوفيتي عندما تخرّج في جامعة كولومبيا. أما حديد فقد تخرّج في مدرسة لندن للعلوم الإقتصادية والسياسية، وكان متأثراً جداً باتجاهاتها الإشتراكية الصريحة. وعلى الرغم من انه ينحدر من عائلة موصلية عريقة معروفة بثرائها ومحافظتها، إلاّ انه جلب معه إلى العراق مذهباً صدم اغلب مواطنيه. ولهذا السبب تحديداً فضّلت الجماعة الإشارة إلى ايديولوجيتها بمصطلح الشعبية، بدلاً من مصطلح الإشتراكية المعروف. الّف عبد الفتاح بمساعدة اصدقائه من الأهالي كتاباً صغيراً بجزأين شرح فيه افكار الجماعة ومُثُلها. كان الجزء الأول منهما مدخلاً إلى الثاني على الرغم من انه اكبر منه، ذلك انه تناول التاريخ السياسي منذ عهد الإغريق وصولاً إلى الثورة الروسية. أما الجزء الثاني الذي كانت جماعة الأهالي تقرأه بعناية وتركيز فقد رسم الخطوط العامة لمذهب الشعبية، واصبح برنامج الجماعة لكل النوايا والأغراض.
يسعى مذهب الشعبية إلى “رفاهية كل الناس” دون تمييز بين الأفراد والطبقات على اساس الثروة أو الأصل أو الدين، ويدافع عن الإصلاحات الإجتماعية في العراق. وانحى باللائمة على الشعب ككل لا على الأفراد، ودافع في الوقت ذاته عن حقوق الإنسان الأساسية كالحرية وتساوي الفرص والتحرر من الطغيان. ويضيف قائلاً ان على الدولة ان تعنى عناية كبيرة بصحة الفرد وتعليمه وتنظيم حقه بالعمل. وعلى هذا فان الشعبية تتألف من مبادئ كل من الديمقراطية والإشتراكية، حيث انها تعترف بالنظام البرلماني الذي يقوم على التمثيل الفعال. ومع ذلك فان الشعبية تختلف عن أي منهما؛ فهي تدافع، بمقارنتها بالديمقراطية، عن نوع من الجماعية؛ ولا تقرّ، بمقارنتها بالإشتراكية الماركسية، بوجود صراع طبقي في المجتمع، أو الإجراءات الثورية في التغيير الإجتماعي. كما انها تقرّ، مقارنةً بالإشتراكية الماركسية، بوجود مؤسستي الأسرة والدين. وتعترف الشعبية ايضاً بالوطنية بصفتها الف باء العقيدة، لكنها لاتعترف بالقومية لأنها غالباً ما تؤدي إلى الإمبريالية وهيمنة طبقة اجتماعية واحدة، في حين لاتلهم الوطنية الأفراد سوى الولاء للبلاد. “تاريخ القومية” يقول بيان الأهالي “حافل بالدم والطغيان والنفاق” بينما يفصح تاريخ الوطنية انه يؤيد عدم العدوان او التمييز الإجتماعي، ويقر باهمية كل فرد كاهميته لأرض اجداده.
مع ان جماعة الأهالي باتت نشطة واكثر نفوذاً عام 1934، فانها لم تشعر ان الوقت قد حان لتنظيم حزب سياسي. بل قررت ان تؤسس حلقة اجتماعية لنشر الشعبية. ومن هنا افتُتِح نادي بغداد في بواكير عام 1934 لكل الشباب ذوي التعليم الراغبين بالمشاركة في انشطته الإجتماعية. وعلى الرغم من حقيقة ان القوميين خربوا النادي، فان افكار الشعبية جذبت الكثير الكثير من الشباب واثارت نقاشات مفعمة بالحيوية. غير ان النادي أُغلق بعد بضعة اشهر بسبب المعارضة غير المباشرة للحكومة. لم تحقق افكار الشعبية تقدماً كبيراً لأسباب يعود معظمها إلى معارضة السياسيين كبار السن وإلى دعاية القوميين المضادة. فقد صرحوا بعنف ان الشعبية ليست سوى الشيوعين باسم آخر، وبالتالي فانها تناقض تقاليد العرب القومية والعمل على تقويض تعاليم الإسلام.
في هذه الأثناء قررت الجماعة استخدام وسيلة تروق اكثر للمجتمع العراقي. تم التخلي عن مصطلح الشعبية وتخلت الجماعة عن الأفكار الأكثر راديكالية في الوقت الراهن. وعليه فقد كان ممكناً توسيع عضوية الجماعة بضم قلة من السياسيين كبار السن الأكثر ليبرالية. فانضم كامل الجادرجي، العضو السابق في حزب الإخاء، إلى الجماعة عام 1934. وجد الجادرجي الذي ترك حزب الإخاء عندما تولى رشيد عالي الكيلاني السلطة عام 1933 ان الحزب لايتلائم وافكاره الأكثر ليبرالية، فنشر مناقشة تحفيزية عن السيادة والديمقراطية دافع فيها عن ضرورة مشاركة عموم الجماهير في الحكومة. كانت افكاره اكثر تقدمية نوعاً ما من وجهة نظر حزب الإخاء، ولذلك كان من الطبيعي ان يتمرد عليه الجادرجي وينضم إلى جماعة الأهالي. وبتأثير الجادرجي كسبت جماعة الأهالي جعفر ابو التمن وحكمت سليمان فتحسنت مكانتها الإجتماعية وقوتها. يُذكر ان جعفر ابو التمن كان قائد الحزب الوطني. كان معروفاً باخلاصه واستقامته؛ كان شخصية وطنية محترمة، ومؤمناً راسخ الإيمان بالمؤسسات الديمقراطية. غير ان اختلاط ابو التمن بشتى السياسيين القوميين في الماضي اصاب ابو التمن بخيبة امل، ولذلك مال إلى اليسار. ومن هنا كان انضمامه إلى جماعة الأهالي موضع تقدير عالٍ، ثم اصبح زعيم الجماعة. وكان حكمت سليمان عضواً سابقاً في حزب الإخاء ايضاً. ويُذكر انه كان المبادر إلى اجتماعات الصليخ، إلاّ ان اختلافه مع جماعة ياسين- رشيد جاء به هو ايضاً إلى جماعة الأهالي.
توسّعت جماعة الأهالي ابان عامي 1934- 1935 ولو انها اصبحت، وما تزال في حالة تقلّب وتغير متواصل. لكن وصول حزب الإخاء إلى السلطة في آذار 1935 جعل الجماعة تدرك ذاتها وتعمل بنشاط اكبر للوصول إلى السلطة. فشُكلت لجنة تنفيذية تتألف من ابو التمن وحكمت سليمان والجادرجي وحديد وعبد الفتاح ابراهيم. باشرت اللجنة اتصالات بسياسيين كبار السن، لاسيّما اعضاء جمعيات غير سياسية كجمعية مكافحة الأمية. كانت اجتماعات جمعية الأهالي سريّة، وكان الذين يشاركون فيها يُستجوبون ويقسمون على الإخلاص لمبادئ الجماعة قبل قبولهم فيها. ولكن لم تعد الشعبية تُذكر، وكأنها هُجِرت كلياً، واصبح الشعار الرئيس المناداة “بالإصلاحات” عموماً. ولكن كان دائما ثمة جناح يساري اكثر اهمية ضمن الجماعة يتعلق بافكار اكثر راديكالية. وكبار اعضاء هذا الجناح هم عبد القادر اسماعيل و محمد حديد وعبد الفتاح ابراهيم. كان اولهم ماركسياً صريحاً يدافع عن الشيوعية بوضوح وبساطة، فيما اكّد الآخران على مبادئ الشعبية.
عند هذا المنعطف اقترح بعض الأعضاء تحويل جماعة الأهالي إلى حزب سياسي تعترف به الحكومة ودعوا إلى معارضة علنية للنظام القائم عبر القنوات القانونية. عارض الفكرة حكمت سليمان وابو التمن، مفضلين تحشيد القوة عبر الإتصالات الشخصية بالمسؤولين الحكوميين وضباط الجيش، فيما عبّر عبد الفتاح الذي دافع عن فكرة تأسيس حزب سياسي عن عدم موافقته، وهكذا تهرّب من السلطة ساعة اقتراب النصر منسحباً من الجماعة التي عمل من اجلها بكل جد واجتهاد.
واصلت جماعة الأهالي تصعيدها المعارضة عن طريق هجومها العنيف على الحكومة في صحيفتها، غير ان مواجهة هذه الهجمات كانت سهلة عن طريق سيطرة الحكومة الشديدة على الصحافة. وإلى ذلك فان الحكومة قمعت كل عناصر المعارضة بالقوة؛ فقد القي القبض على الشيوعيين، وفُصل الموظفين الحكوميين المشكوك بهم. قدّم بعض السياسيين الليبراليين الأكبر سناً التماسات إلى الملك احتجاجاً على طغيان وزارة ياسين- رشيد، لكنها ذهبت ادراج الرياح.
سرعان ما بات مفهوماً انه لايمكن الإطاحة بالحكومة إلاّ بتمرّد عسكري، وانه لايمكن ترتيب مؤامرة كهذه قبل ان يتخلى الجيش عن ولائه للحكومة. كانت جماعة الأهالي قد بدأت فعلاً باقامة اتصالات سريّة مع نفر من ضباط الجيش. برز حكمت سليمان بطلاً في هذه المؤامرة وبفضل جهوده وحده امكن كسب الجنرال بكر صدقي، قائد الفرقة الثانية، إلى صفوف الأهالي. لابد ان حكمت سليمان، الأخ الأصغر لمحمود شوكت باشا، مغامرة اخيه البطولية الفذة يوم سار في اسطنبول على رأس الجيش التركي المتمرد في تموز 1909 مطالباً السلطان عبد الحميد الثاني بالتنحي عن العرش. مستذكراً هذه الأحداث اقنع حكمت بكر بقيادة تمرد في جيش العراق ليُجبر وزارة ياسين- رشيد على الإستقالة. وذكر البعض لمؤلف هذا الكتاب ان بكر صدقي لم يحضر سوى اجتماع سري واحد لجماعة الأهالي لخشية حكمت سليمان من ان كثرة اللقاءات ببكر صدقي تثير شكوك الحكومة؛ ولذلك تطوع للعمل كضابط ارتباط بين بكر صدقي وجماعة الأهالي. وبالمقابل جاء بكر صدقي بمؤيد آخر، الجنرال عبد اللطيف نوري، قائد الفرقة الأولى، وبفضل هذين الضابطين العسكريين بالدرجة الأساس تم تنفيذ التمرد بهذه الطريقة البارعة.
بصرف النظر عن عدم ولاء بكر وزميله عبد اللطيف، لابد من الإشارة إلى ان حرارة ولاء ضباط الجيش للوزارة كان قد بدأ يفتر منذ امد طويل. كانت الوزارة كثيراً ما تستخدم الجيش في الحقيقة لإسكات معارضين سياسيين، وبدأ شعور يتنامى بين ضباط الجيش ان الوزارة تستخدمهم كاداة ضد معارضيها السياسيين لا ضد اعداء البلاد الخارجيين. وبالتالي فقد أُضعِف نظام العراق السياسي وكان ثمة شعور عميق لدى ضباط الجيش بالحاجة إلى حكومة “قوية”. وذُكر ان ضباط الجيش غالباً ما كانوا يرون وجوب ان يتولى الجيش نفسه حكم البلاد ليهيئ القوة اللازمة للإصلاح اسوة بالحال في تركيا وفارس. وستتناول فقرة اخرى هذه الروح المتنامية بتفصيل ضافٍ، ولكن لابد من ملاحظة عابرة هي ان عدم ولاء بكر صدقي وزميله كان له مبرر كافٍ في تغيّر موقف ضباط الجيش.
دور حكمت سليمان
بدأ الإتصالات بين جماعة الأهالي والجيش. حكمت الذي نهض بدور ضابط اتصال بين بكر صدقي، بعد ان اقنعه بقضية الأهالي، وجاعة الأهالي. ايديولوجيتا الجيش والأهالي بعيدتان عن التماثل، إلاّ ان مظهر قائدي الحركتين، حكمت وبكر، كان نفسه تقريباً، ولذلك فان تعارض الأيديولوجيتين كان ثانوياً بالنسبة إلى رغبيتيهما. كان لإرتباط حكمت- بكر اهمية كبرى في وصول تعاون الجيش مع الأهالي إلى نهاية ناجحة؛ لكنه يبيّن ايضاً مدى هيمنة الشخصيات على الأيديولوجيات في الحركات السياسية في العراق. وعليه فان دراسة شخصية حكمت تلقي الضوء على الموضوع، وللسبب نفسه ستتناول فقرة اخرى شخصية بكر.
يُذكر ان حكمت سليمان كان عضواً سابقاً في حزب الإخاء. ومن بين كل السياسيين العراقيين كان حكمت معروفاً بشجاعته وروح المغامرة عنده، بسبب صراحته واستقامته. اصبحت له شعبية بين الشباب لأنه بدا لهم سياسياً تقدمياً مسناً. وبعيداً عن هذا فان اهميته تعتمد على نفوذه الكبير على قبائل ديالى وبعض قبائل الفرات الأوسط.
بعد خلافه مع حزب الإخاء عام 1935، انضم حكمت إلى جماعة الأهالي وعمل على تطوير انشطتها. وكان اصلاً على علاقة وثيقة بجعفر أبو التمن وكامل الجادرجي، وهما عضوان سابقان في حزبين معارضين ايضاً، ولهذا فقد وجد الجماعة الجديدة ملائمة له. ولأنه سياسي مسن واكثر خبرة في سياسات الحزب، اصبح العضو الأكثر قوة في الجماعة.لكن حكمت لم يصرّح قط انه اشتراكي؛ اعتقد انه يكفي ان يشير إلى نفسه بصفته “اصلاحياً” بالتوازي مع الحركة الكمالية في تركيا. كان يشارك زملاءه وجهات النظر في ضرورة تحسين اوضاع جماهير الفلاحين الذين كان يراهم في وضع بائس. كما دعم مبادئهم في السيطرة الحكومية على الصناعات الناشئة حديثاً في العراق وضروة تأسيس صناعات اخرى. وعلى كل حال فان خلفيته الإجتماعية والإقتصادية لم تكن تقوم على قراءة ماركس وانجلز، اسوة بحال زملائه، وانما على فهمه الخاص للنظام الكمالي التركي.
امضى حكمت عام 1935 بضعة اشهر في تركيا. زار بعض مصانعها وتعرّف على تطورات البلاد الإجتماعية والإقتصادية. تلقى حكمت تعليمه في اسطنبول وكان دائم المديح للأتراك، لكن هذه الزيارة تركت فيه اثراً عميقاً اذ كان قادراً على مقارنة التقدم في ظل الحركة الكمالية بالنظام العثماني تحت حكم السلاطين. عاد حكمت إلى العراق في كانون الأول 1935، وشوهد سائراً في شوارع بغداد معتمراً قبعة- علامة على تأثير زيارته إلى تركيا عليه. واجرى عدداً من المقابلات الصحفية بصدد التطورات الحديثة في تركيا، إلاّ ان اهم تلك المقابلات نشرته صحيفة البلاد، احدى الصحف العراقية الرائدة. اجرى رافائيل بطي، محرر البلاد وعضو سابق في حزب الإخاء، مقابلة شخصية مع حكمت سليمان وكتب ثلاثة مقالات مهمة في صحيفته بسط فيها افكار حكمت.
بدأ حكمت مقابلته بالإشارة إلى ان اكبر حاجات العراق هي الإصلاحات، ولكن كيف ينبغي تنفيذ هذه الإصلاحات؟ “الإصلاحات” يقول حكمت، “لايمكن ان تنفذها سوى حكومة مستنيرة، وافراد معروفين بآرائهم التقدمية وكفاءتهم وقوتهم”. ويضيف حكمت، ان ظروف العراق الحالية بدائية جداً، ولا يعرف الناس عن كيفية استغلال امكانيات بلادهم الإقتصادية سوى القليل. فلو كانت في العراق حكومة مستنيرة، للفتت الإنتباه إلى استغلال امكانيات كهذه. وقدم الكثير من الأمثلة على التطورات المعاصرة في تركيا الحديثة.
ولكن حكومة مستنيرة كهذه، يقول حكمت، تحتاج استقراراً. كانت ثمة تغييرات حكومية متوالية في العراق، تقوم بالدرجة الأساس على مواضيع شخصية. وقد نسفت حلقة صعود الحكومات وسقوطها النظام السياسي في العراق. يقول حكمت، يمكن مقارنة صعود الحكومات وسقوطها “بدولاب هواء” ذي ثمان مقصورات يشغلها ثمانية وزراء. وتحت الدولاب ثمة دائماً خمسة عشر إلى عشرين وزير سابق ينتظرون توقف الدولاب بفارغ الصبر؛ فاذا توقف الدولاب، ترك الوزراء الثمانية مقصوراتهم، وسارع ثمانية من الوزراء السابقين المنتظرين بالقفز إلى الدولاب واحتلال المقصورات الشاغرة. عندئذ يستأنف الدولاب حركته الدائرية، فيما يتعاون بقية الوزراء السابقين والوزراء الثمانية الذين تركوا مقصوراتهم للتو في سبيل غايتهم المشتركة، وهي ايقاف دولاب الهواء مرة اخرى ليحظى كل منهم بفرصة اخرى. ومن الواضح انه فبما تستمر هذه الحركة الدائرية، لن يظل للوزراء الذين في السلطة وقت للعمل، بل محض وقت للدفاع عن انفسهم من هجمات الوزراء السابقين التي لاهوادة فيها. وفي هذه الظروف لايُنجز عمل بناء، وهذا هو ما يُفسّر ان العراق لم يحقق سوى النزر اليسير من التقدم، إن كان ثمة تقدم على الإطلاق.
ضباط الجيش
كان ثمة اهتمام كبير منذ بداية الحكومة العراقية بتنظيم جيش وطني حسن التدريب على النمط الأوربي، للمحافظة على النظام الداخلي والإستقرار. وابان حقبة الإنتداب، دُربت قوة صغيرة وتخرجت مكتسبةً خبرة عملية في القضاء على عدد من الإنتفاضات الكردية. واثبت الجيش العراقي، على الرغم من بعض مواقف عصبة الأمم المتشككة بالتأكيدات البريطانية، قدرته على المحافظة على النظام في الدولة الناشئة التي ستُمنح استقلالها.
بعد نيل العراق استقلاله، لم يعد الجيش بالتشكيل الذي كان عليه يومئذ كافياً لسد حاجات العراق الوطنية، لأنه كان يُعدّ ضرورياً لحراسة استقلال البلاد، كما انه اداة للمحافظة على النظام الداخلي. سعت الحكومة العراقية قبل انهاء الإنتداب بمدة طويلة إلى فرض الخدمة العسكرية الإلزامية، ولكن اعترضت عليه كل من العصبة، على سبيل المبدأ، وبريطانيا العظمى على اساس ان هذا الإجراء قد يورط العراق بعمليات عسكرية ضد القبائل التي كانت تعارض التجنيد الإلزامي. ولكن حين كانت ساعة الخلاص من الإنتداب تأزف عام 1931، بدأت الحكومة العراقية باعداد لائحة قانون التجنيد الإلزامي التي مُرِّت اخيراً عام 1934 بعد التغلب على بعض الصعوبات في البداية.
كان الجيش العراقي علىى قدر توقعات البلاد حين تعامل في آب 1933، بعد عام واحد من نيله الإستقلال، مع القضية الآشورية بسرعة وكفاءة بحيث قيل عنه يومئذ انه حفظ كرامة العراق. وبرز بكر صدقي، قائد القوات التي قضت على الإنتفاضة، بروزاً مفاجئاً بصفته بطلاً وطنياً لايُشق له غبار. وبُذكر انه بقيادة الجنرال بكر صدقي قُمعت على انتفاضات قبائلية لاحقة في الفرات الأوسط بنجاح. علّمت هذه النجاحات الضباط العراقيين المحافظة على قوتهم، كما علمت الأمة العراقية النظر إليهم برهبة وتبجيل.
ولهذا كان من الطبيعي ان تدفع مكانة الجيش الإجتماعية والمركز المرموق الذي احتله في حياة العراق الوطنية، شتى المجموعات الأيديولوجية إلى الإقتراب من ضباط الجيش لكسبهم إلى جانبهم. ولكن من الأمانة القول بان القوميين، ولا سيّما القوميين المتطرفين كانوا الجماعة الأكثر نفوذاً في الجيش، لأنهم كانوا منذ وقت طويل قادرين على الهام الجيش بافكار القومية العربية.
في اعمال الحكومة العراقية الكثير من التبريرات لتمسك ضباط الجيش بالمُثُل والتطلعات وازدراء النظام السياسي في العراق. فقد كان ضباط الجيش يشعرون انه فيما كانوا يؤدون واجبهم في قمع الإنتفاضات القبائلية باخلاص، كان السياسيون في بغداد بتشاجرون ويحيك احدهم الدسائس للآخر بحثهم هذه القبائل على التمرد. ولا شك ان نظام الحكومة العراقية اخفق في نيل اعجاب الجيش، وفقد السياسيون مكانتهم الإجتماعية بسبب دسائسهم. انعكست خيبة امل الضباط العراقيين في تعبيرهم عن بعض شكاواهم من قبيل استخدام الجيش استخداماً مفرطاً في القضاء على انتفاضات قبائلية مدفوعة، بينما يجني الساسة ثمار النصر. وكان ضباط الجيش يتهامسون في مابينهم: لِمَ لايضع الجيش نفسه حداً لمنازعات السياسيين ورذائلهم ويحكم البلاد بدكتاتورية عسكرية؟
في هذه الأثناء كان ضباط الجيش يناقشون في اغلب الأوقات وضع النظام السياسي في العراق ويقارنوه بنظامي تركيا وفارس المجاورين. وكانوا يرون انه مالم يقوّى الجيش فان العراق سيظل ضعيفاً وعاجزاً عن تحقيق الأماني الوطنية. وهكذا توصلوا إلى انه على الجيش ان يحكم البلاد ويساعد على خلق حكومة قوية ومستقرة. وكما قضى النظامان العسكريان في تركيا وفارس على السيطرة الأجنبية ونفذوا اصلاحات، على ضباط الجيش العراقي حكم بلادهم ليقضوا على اي اثر للهيمنة الأجنبية ويخلقوا آلية سياسية ويحرروا اخيراً البلدان العربية الشقيقة التي ماتزال تناضل من اجل الحرية والوحدة.
كان الضباط الأصغر سناً، لا الأكبر سناً العناصر الأكثر حماسة وطنية. وبسبب الموقف السلبي للضباط الأكبر سناً، كان الضباط الشباب ينظّمون انفسهم في مجموعات صغيرة ويناقشون طرق واساليب تحقيق تطلعاتهم. كان بكر صدقي الوحيد من الضباط المسنّين الذي تمكّن ان يحوز اعجاب الضباط الشباب ممن هم تحت امرته بطاقته الحيوية وشخصيته الآمرة. كان بطبيعة الحال ثمة قلّة من الضباط الذين شكوا بنوايا بكر صدقي وانتهازيته الشخصية؛ لكن بكر، بدعم الضباط المسنّين والشباب على السواء، برز بصفته الجندي الوحيد الذي استطاع فرض احترام الجيش كله. لايمكن المبالغة في تقدير دوره في الجيش العراقي. وعليه فان دراسة شخصية بكر، بصفته الضابط الأقوى في الجيش، قد تضيف فهماً حقيقياً لدور الجيش في سياسة العراق الداخلية.
الجنرال بكر صدقي
على الرغم من ان بكر صدقي لم يبرز بطلاً قومياً إلاّ مؤخراً، فانه كان يراقب الأوضاع السياسية في العراق منذ زمن طويل بعين ثاقبة. كسب سمعته بصفته جندياً قادراً وشجاعاً إبان القضية الآشورية 1933؛ يدين سحق الإنتفاضة بقسوة لجسارته وجرأته حقاً. وهكذا فقد ظهر منقذاً للبلاد في زمن القلاقل. وعند عودته إلى بغداد كان الناس يحيّونه بحماس في شوارع بغداد الرئيسة وهو يجلس في السيارة بجانب رئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني.
يُذكر ان حكمت هو الذي شجع بكر على اتخاذ المسار الذي اخذه في الإنتفاضة الآشورية. في مقابلة مع مؤلف هذا الكتاب، اشار حكمت إلى ان بكر نال اعجابه بقدرته واصبحا صديقين حميمين. وذكر حكمت ان صداقتهما بدأت حين زاره بكر في بغداد قبيل العمليات ضد الآشوريين بوقت قصير واجريا محادثة طويلة بصدد الوضع في الشمال. لايتذكر حكمت تفاصيل المحادثة، لكنه صرّح انه منذ ذلك الوقت اخذ كل منهما الآخر موضعاً للثقة.
يبدو ان بكراً بعد القضية الآشورية بدأ يتأمل في امكانية تدخل الجيش في السياسة ليساعد على تحقيق طموحات العراق الوطنية. المح بكر إلى هذه الحركة في خطاب علني القاه امام الناس في الموصل عند استقبال الجيش العائد بعد سحق الإنتفاضة الآشورية قال فيه: “شكراً لكم… شكراً اقدمه كتعهد بما يعمل الجيش على تحقيقه في المستقبل، في انجاز الواجب العظيم الذي شعر الجيش وما زال يشعر بوجوب اعداده للتطبيق. وعليه، دعونا ننتظر، جيشاً وامة، ذلك اليوم”.
اصبحت العلاقات اللاحقة بين حكمت وبكر اكثر حميمية، لكن حكمت كان يومها مايزال عضوا فعالاً في حزب الإخاء، ولم يكن نقل ولاء بكر من ياسين إلى رشيد موضع سؤال. لم تتناول محادثات بكر وحكمت بخصوص الجيش سوى استكشاف الطرق والوسائل الكفيلة بتعزيز قوته بصفته الضمانة الوحيدة لإستقلال العراق. وكانت تركيا الكمالية انموذجهم ومصدر الهامهم، فذلك البلد، كما يريان، لم يستطع المحافظة على استقلاله إلاّ بتنظيم جيشه. وافق طه الهاشمي، رئيس الأركان العامة وشقيق ياسين، على افكار حكمت وطلب مساعدته لتعزيز قدرات الجيش وتقويتها.
حين وقع الإنشقاق بين حكمت وياسين بعد تشكيل الأخير وزارته عام 1935، اخذ طه بطبيعة الحال جانب اخيه. استمر مدح بكر لحكمت، إلاّ ان ولاءه للحكومة لم يكن موضع شك البتة، وقد نهض فعلاً بدور فعال في سحق الإنتفاضات القبائلية في الفرات الأوسط. ولكن بكر سرعان ما ادرك ان رئيس اركانه العامة، طه الهاشمي، على الرغم من قدرته وحرصه، لم يكن في الحقيقة ميالاً جداً إلى تعزيز قدرات الجيش واعادة تنظيمه. ربما اراد بكر، بعد نجاحاته المميزة في الفرات الأوسط، ان يكون هو رئيساً للأركان العامة. لكن طه شقيق رئيس الوزراء لم تكن ازاحته امراً وارداً. وهكذا توصّل بكر شيئاً فشيئاً إلى قناعة بأن مستقبل الجيش يعتمد على وصول حكمت إلى رئاسة الوزراء. ألمع حكمت إلى مؤلف هذا الكتاب ان بكراً توصّل إلى هذه النتيجة وحده، ولكن مما لاشك فيه ان حكمت رسخ وجهة النظر هذه.
وُجه اللوم إلى بكر لخيانته ياسين ورشيد ولإلتماسه التعاون مع حكمت وسيلةً لمجده الشخصي ليس إلاّ. لاحظ منتقدوه ساخرين انه رأى حكام جيرانه، تركيا وفارس، ووجد ان كليهما ارتفع من رتبة عسكرية متواضعة ليصبحا حاكمي بلديهما وينفذا اصلاحات في ظل نظامين عسكريبن. ربما كانت المماهاة الشخصية قد دعمت تغيير بكر موقفه من وزارة ياسين- رشيد. وقد ذُكر فعلاً ان بكر كان يتوقع بعد قضائه على الإنتفاضة الآشورية اعترافاً وتقديراً اكبر من ادارة ياسين- رشيد. وإلى ذلك فان حاشية بكر في الجيش كانت تشعر بقوة انه جدير برئاسة الأركان العامة، وان ترقيته ستكون مفيدة له ولأصدقائه على السواء. ولابد ان بكراً واصدقاؤه كانوا يتوقعون تعويضاً اذا اعانوا حكمت على تسنّم السلطة. واثبتت الأحداث اللاحقة ان هذه التوقعات كانت مُبرَّرة.
التمرّد في الجيش والمسير إلى بغداد
يُذكر ان حكمت كان ضابط الإرتباط بين بكر وجماعة الأهالي، غير ان الحقيقة انه لم تكن ثمة ارضية مشتركة بين بكر وهذه الجماعة، وما من اتصال كافٍ بينهما ليكوّن لهما مظهراً متماثلاً. ويبدو ان محادثات حكمت الحميمة مع بكر كانت لمحض استعمال الجيش ضد وزارة ياسين. ومن المحتمل ان حكمت لم يُفشِ فحوى هذا الأمر لجماعته حتى ازف اجراء الجيش مناورات خريف عام 1936.
في تشرين الأول 1936 كان طه الهاشمي يتمتع باجازة في تركيا، وعُين بكر قائماً باعمال رئيس الأركان العامة مكانه. كان طه قد خطط لتنظيم مناورات عسكرية واسعة النطاق في المنطقة مابين خانقين وبغداد في مطلع تشرين الثاني، إلاّ ان بكراً، القائم باعمال رئيس الأركان العامة، قرر ان ينتهز الفرصة ويقود تمرداً ليجبر الوزارة على الإستقالة. كانت خطته المسير إلى بغداد قبل ان تبدأ المناورات.
في سياق مقابلة مع مؤلف الكتاب، ذكر عبد اللطيف نوري ان بكراً لم يكشف له الخطة السرية للإنقلاب العسكري إلاّ قبل اسبوع واحد قبل حدوثه، أي انه في 23 تشرين الأول 1936 حينما بدأت الإستعدادات لمناورات الجيش المزعومة. في 25 تشرين الأول زار بكر عبد اللطيف في وزارة الدفاع، وهناك اجرى القائدان محادثات سريّة بشأن تفاصيل المؤامرة.
غادر بكر بغداد في اليوم التالي إلى مقرّه في قرة تبة، في منتصف طريق السكك الحديدية بين بغداد وكركوك. كشف خطته لعدد من الضباط الذين يثق بهم. وتقرر ان تتولى الفرقة الثانية الهجوم على بغداد اثناء المسير، اما الفرقة الأولى المتمركزة على راس قناة الروز الواقعة على احد جداول ديالى شمال شرقي بغداد، فتظل خلف الفرقة الثانية كاجراء دفاعي. أجريت كل الترتيبات اللازمة بسريّة تامة بين 26 و28 تشرين الأول. في 27 تشرين الأول زار بكر عبد اللطيف نوري الذي كان في مقره في الروز، واستعرضا الموقف اجمالاً ووافقا على التحضيرات. وانما في هذا اللقاء وقع القائدان رسالة (على هيئة التماس) إلى الملك يطالبان فيها باقالة وزارة ياسين- رشيد. ارسلت الرسالة سراً إلى حكمت ليحملها شخصياً إلى الملك. وامر القائدان بطباعة “اعلان” إلى اهالي بغداد بحضورهما يوقعه بكر صدقي نفسه. كما تقرر تسمية القوات المتجهة إلى بغداد “قوة الإصلاح الوطني” ووضعها تحت إمرة بكر نفسه.
قبل ان يقرر بكر اخيراً تنفيذ مؤامرته السرية، اطلع حكمت جماعة الأهالي على الأخبار واوضح ان ضباط الجيش توصلوا إلى استنتاج ان ادارة ياسين- رشيد لاتُطاق وانهم قرروا التمرد. لاشك ان حكمت جاء إلى زملائه الأعضاء باخبار مهمة ولكنها خطيرة. والمح إلى ان بكر وعبد اللطيف اطلعاه على خطة الإنقلاب العسكري ؛ واشار إلى ان قرار الجيش منح الجماعة الفرصة المناسبة لتنفيذ الإصلاحات، وان عدم قبول الخطة لن يحول دون تنفيذها. ناقشت الجماعة القضية بالإجمال، ويبدو انه كانت ثمة مخاوف من ان يتولى ضباط الجيش ادارة الحركة بالكامل. وطرح ابو التمن والجلبي وحديد تساؤلات عن مخاطر تأسيس دكتاتورية عسكرية في نهاية المطاف. حاول حكمت ان يُقنِع زملاءه بانه ليس لدى الجيش نوايا كهذه وان بكراً اكد له انه ما ان تسقط الوزارة حتى ينسحب الجيش تاركاً الإدارة إلى وزارة جديدة. ودليلاً على حسن النية، اشار حكمت إلى ان بكراً طلب ان تضع جماعة الأهالي نص الإعلان والرسالة المقدمة إلى الملك. ازاء الأمر الواقع وحُجج حكمت المقْنِعة قررت الجماعة ان تشترك في مؤامرة الجيش. وعلى الفور بدأ جعفر ابو التمن والجلبي وحديد باعداد نصيّ الإعلان والرسالة إلى الملك. وقّع بكر على الإعلان بصفته رئيس قوة الإصلاح الوطني، ووقع كل من بكر وعبد اللطيف على الرسالة بصفتهما قائدا الفرقتين الأولى والثانية في الجيش العراقي.
في 28 تشرين الأول غادر عبد اللطيف مقره إلى بغداد ليتأكد ما اذا كانت انباء المؤامرة تسربت. التقى حكمت، وسلّمه الرسالة الموجهة إلى الملك بتوقيع القائدين. وسُلِّمت نسخ من الإعلان إلى ضباط جيش يُعتمد عليهم لتوزع في اليوم التالي على اهالي بغداد. وطُلب من محمد علي جواد، قائد القوة الجوية العراقية واحد اصدقاء بكر الأكثر حميمية ان يُرسل بعض الطائرات إلى مقر بكر في قرة-غان، مزودة بالقنابل والوقود.
ليل الأربعاء 28 تشرين الأول 1936 تحرك بكر وقوة الإصلاح الوطني سراً إلى بعقوبة، مدينة في ضواحي بغداد الشمالية، وتمركزوا هناك استعداداً للتحرك إلى العاصمة صباح اليوم التالي. واعلن صباح اليوم التالي ان المدينة تحت احتلال قوة الإصلاح الوطني العسكرية. ومن هنا امر بكر في الساعة 7:30 من صباح الخميس ان تبدأ “مسيرتها إلى بغداد”.
لابد ان قادة جماعة الأهالي امضوا ليلتهم قلقين خشية ان تكتشف الحكومة المؤامرة، لكنهم وجدوا صباح الخميس ان الحياة طبيعية في بغداد. عقد القادة مساء الإنقلاب اجتماعاً في بيت حكمت دُعي إليه جميل المدفعي؛ ولكن عندما اخفق الأخير بالحضور، كُلِّف ابو التمن بالتلميح إلى جميل بالخطة. وحين زار ابو التمن جميل في مساء اليوم نفسه والمح إلى جميل بالمؤامرة، لم يفهم جميل فحوى ملاحظته. اجتمع القادة صباح الخميس مرة اخرى في بيت ابو التمن انتظاراً لتنفيذ مؤامرتهم البارعة. حكمت لم يكن حاضراً طبعاً لأنه كان في طريقه يحمل رسالة الجيش إلى الملك. وصادف ان احد اعضاء الأهالي، عبد القادر اسماعيل، الذي كان منذ مدة طويلة تحت رقابة الشرطة بسبب دعايته المزعومة للشيوعية، كان مطلوباً لتحقيق الشرطة معه في وقت مبكر من ذلك الصباح. رأى اسماعيل عبثية اجراءات الحكومة القمعية وعرف انه سيكون حراً في غضون ساعات قلائل.
في الثامنة من صباح اليوم نفسه (29 تشرين الأول 1936) زار حكمت ، رؤوف الجادرجي، احد اصدقائه القدامى المقربين وكان صديقاً لرئيس الوزراء ياسين الهاشمي ايضاً، قبل ان يتخذ طريقه إلى البلاط الملكي لتسليم رسالة الجيش. كان رؤوف الذي يسعى إلى التوصل إلى تفاهم بين حكمت وياسين مسروراً بزيارة حكمت واخبره ان رئيس الوزراء كان تواً يناقش معه امكانية التصالح. لكن حكمت ردّ ساخراً “طالما ان ياسين يريد ان يحكم البلاد عشر سنوات، فلماذا يرغب بالتصالح مع المعارضة؟” في الساعة 8.30 كان حكمت قلقاً ومشى إلى الخارج ليرى ان كانت ثمة اي اشارة إلى طائرات قادمة. وفجأة سمع هدير الطائرات فوق بغدادد، فسارع إلى الدخول ليودّع رؤوف، مضيفاً: “اراد ياسين ان يحكم البلاد عشر سنوات، لكنه والله لن يستطيع ان يحكم لا عشرة ايام ولا عشر ساعات ولا عشر دقائق!” غادر بيت صديقه مباشرةً ليؤدي دوره في المأساة التي بداً تواً. شوهدت خمس من طائرات القوة الجوية الملكية العراقية تطير فوق بغداد وتلقي منشورات تتضمن الإعلان بتوقيع بكر صدقي بصفته رئيس قوة الإصلاح الوطني وتخبر اهالي بغداد ان الجيش طلب من الملك ان يقيل ياسين ويكلف حكمت بتشكيل وزارة جديدة. ونص الإعلان هو:
إلى الشعب العراقي الكريم
ان الجيش العراقي، الذي يضم ابناءكم قد نفذ صبره بسبب الوضع الذي تعانونه نتيجةً لسياسة الحكومة التي لاهدف لها سوى تحقيق مصالحها الشخصية دون ادنى اهتمام برفاهية العامة. وعليه فقد طلب الجيش من جلالة الملك ان يقيل الوزارة وتشكيل وزارة جديدة من رجال مخلصين بقيادة حكمت سليمان الذي يتمتع بمكانه عالية في عيون الأمة والمحترم لمسيرته المهنية النبيلة. وحيث انه لاهدف لنا سوى رفاهيتكم وتعزيز موقف البلاد، فلا نشك في دعمكم لإخوانكم في الجيش بكل ما اوتيتم من قوة، فقوة الشعب اكبر سند في وقت حاجة البلاد الماسّة.
وانتم ايها الموظفون العموميون، اخواننا وزملاءنا في خدمة البلاد- التي نعمل جميعاً لتمكينها من خدمة مصالح الشعب- نتوقع منكم ان تؤدوا الواجب [الوطني] نفسه الذي دفعنا إلى ان نطلب من الملك العمل في سبيل مصلحة البلاد، وتحديداً، مقاطعة الحكومة الجائرة بمغادرة مكاتبكم وتظلوا حاضرين حتى تتشكل حكومة [جديدة] تفخرون بالخدمة فيها. قد يُجبر الجيش على اتخاذ اجراءات مادية ومعنوية لابد منها ربما تُلحق الضرر بمن لايستجيب لرجائنا المخلص.
القائد بكر صدقي العسكري،
رئيس قوة الإصلاح الوطني
في الوقت نفسه كان بعض ضباط الجيش يوزعون نسخاً من الإعلان، فيما اخذت قلة من الشرطة توزع نسخاً منه في المقاهي وللمارة وعابري السبيل. وكان الملك قد اطلع على نسخة منه اعطاها له رستم حيدر رئيس البلاط الملكي. قرأه بمشاعر مختلطة. ولكن لابد ان مخاوفه لم تهدأ حين تسلّم برقيةً من بكر وعبد اللطيف تؤكد له ولاء الجيش للعرش، فيما اخذت قوة الإصلاح الوطني تقدمها من بعقوبة باتجاه بغداد.
كان ياسين الهاشمي الذي غادر بيت رؤوف قبل وصول حكمت بدقائق في بيت جميل المدفعي حين سمع لأول مرة بالمؤامرة. لم يكن مهتماً بسقوطه الوشيك، بل كان يشعر بعد الراحة فخصومه السياسيين، وكان يسعى من دون ان يفلح في اقناع جميل بالإنضمام إلى وزارته. اثناء محادثتهما كانت الطائرات تلقي الإعلان الذي اخذ العاصمة على حين غرة؛ وعندما وصلت الأخبار إلى ياسين قطع محاثته فوراً وهرع إلى مكتبه في السراي. تكلم إلى بكر عبر هاتف المسافات الطويلة، وحاول اقناعه بايقاف حركته، إلاّ ان بكراً أسرّ إلى ياسين ان “الحركة بعلم الملك وموافقته”. فدعا ياسين فوراً إلى اجتماع لمجلس الوزراء. يبدو انه لم يُتخذ أي قرار عندما دعا الملك ياسين إلى حضور اجتماع في البلاط.
موقف الملك من الإنقلاب العسكري
فور اطلاع الملك غازي على مؤامرة الجيش اتصل هاتفياً بالسفير البريطاني السير ارشيبالد كلارك كير Sir Archibald Clark Kerr (اصبح الآن لورد انفيرتشابل Lord Inverchapel) للتشاور. وصل السفير قصر الزهور الساعة 9.45 صباحاً فوجد الملك في حالة عصبية. سأله ان كان يريد مقاومة الحركة. ردّ الملك انه لم يوافق على الحركة ولا طلب من وزرائه التحقق منها. وعليه فقد نصح سفير جلالته الملك غازي ان يدعو وزراءه للتشاور. كما نصحه بعدم تدخل الجيش في السياسة.
وعليه فقد دعا الملك وزراءه إلى اجتماع في البلاط برئاسته. حضر رئيس الوزراء ياسين الهاشمي ووزير الخارجية الجنرال نوري فوراً. كان نوري عصبياً فيما كان ياسين هادئاً. ووصل الجنرال جعفر العسكري متأخراً نوعاً ما. اما رشيد عالي، وزير الداخلية ففضل البقاء في مكتبه للمحافظة على النظام واصدار التعليمات إلى المتصرفين (حكام المقاطعات) بصدد كيفية التعامل مع الموقف.
كان النقاش في قصر الزهور محتدماً شديد السخونة. لم تدووّن محاضر حرفية ولذلك لم تُسجَّل اقوال الذين حضروا ذلك الإجتماع الفعلية. لكن مؤلف الكتاب استطاع ان يجري مقابلة مع كل من الجنرال نوري واللورد انفيرتشابل، الحيّان الوحيدان من بين الذين شاركوا في المداولات، ولذلك صار بمقدوره اقتفاء التيارات العامة للمناقشة. اقرّ ياسين وهو يستعرض الموقف السياسي بوجود معارضة لوزارته، إلاّ ان التمرد العسكري كان آخر امر قد يفكر فيه، لاسيما من جانب بكر صدقي. وذكر انه قبيل حضوره إلى البلاط كان على اتصال ببكرالذي اكد له ان “الحركة بعلم الملك وموافقته”. نفى الملك فوراً هذه الشائعة. واقترح ياسين الذي كان متردداً في الإستقالة مقاومة الحركة واعتقد انه بالقوات التي في المقاطعات سيكون قادراً على التحقق منها. لكن الملك غازي ظل صامتاً ولم يعقّب على مقترح ياسين. ولذلك استنتج ياسين ان الملك لم يؤيد المقاومة، ولذلك لاخيار امامه سوى الإستقالة. عند هذه النقطة اقترح السير ارشيبالد كلارك كير دعوة حكمت إلى الإجتماع لمناقشة الوضع معه. اصبح السير ارشيبالد واثقاً الآن ان المسألة باتت بين يدي الطرفين، ولذلك انسحب، لكنه طلب من كل من ياسين ونوري ان يوافياه في السفارة البريطانية بعد انتهاء الإجتماع.
فيما كان اجتماع قصر الزهور ينعقد، كان حكمت الذي غادر بيت رؤوف عند سماعه هدير الطائرات في طريقه وهو يحمل رسالة القائدين كُلّف بتسليمها شخصياً إلى الملك. وهكذا حضر حكمت إلى البلاط فيما كان النقاش جارياً. وحين دُعي لحضور الإجتماع رفض، واكتفى بمحض تسليم الرسالة إلى رستم حيدر رئيس الديوان الملكي بحضور عدد من ضباط الجيش اشار إليهم حكمت كشهود. غادر البلاط فوراً بعدئذ. ونص الرسالة كما يأتي:
لا شك ان جلالتكم على علم بالسياسة التي تتبعها الحكومة الحالية المشبعة بالمحسوبية المبالغ بها والتي ادت إلى تدمير الرفاهية والمصالح الشعبية العامة وتقويضها. كما ادت بعبثيتها إلى انتهاك [سلطات] التاج وربما كانت تتطلع إلى المزيد.
كما ان جلالتكم على علم بان الجيش الذي كان قادته وجنوده مخلصين في طاعتهم لأوامر [الحكومة] لأنها صادرة باسمكم. حتى اصبح الوضع لايُطاق ويزداد تدهوراً على الدوام بسبب القلاقل المتواصلة، وحيث انه لايُحتمل ان تتغير سياسة الحكومة، وحيث انه لم تَعد العدالة تُحفظ، والفاقة والتعصب الأعمى يعمّان البلاد لا لغرض سوى إثراء فئة معينة قادتها في الحكومة الحالية- فان الجيش الذي يعي مصالح البلاد ويرغب بدعمها وتقويتها، لن يظل صامتاً ازاء هذا الوضع الخطير الذي يؤدي دون ريب إلى الدمار.
ولهذا فان الجيش يتقدم إلى جلالتكم برجاء انقاذ البلاد من هذا الوضع المتردي باصدار امر بحل الوزارة الحالية وتعيين وزارة جديدة تتألف من ابناء هذه الأمة المخلصين بقيادة حكمت سليمان في غضون ثلاث ساعات [من استلام هذا الإشعار]، وفي حال عدمك اذعان الوزارة لأمر جلالتكم في حدود الوقت المعيّن، فان الجيش- الذي ما زال موالياً لجلالتكم وللبلاد- سيؤدي واجبه تجاه المصلحة العامة، [بحركة] لاشك في انكم ستؤازرونها.
القائد عبد اللطيف نوري
القائد بكر صدقي
كان على ياسين اذ اخفق في التوصل إلى تفاهم مع قادة التمرد اما ان يقاوم الحركة بالقوة أو ان يستقيل. بقي الملك معارضاً للمقاومة: لم يكن يستطيع تجربته المرّة السابقة مع رئيس الوزراء. أما الآن وقد تمرد الجيش، فقد التمس فرصة التخلص من ياسين ورشيد عالي. لم يكن لدى ياسين أي خيار فقدم رسالة استقالته. ونص الرسالة كما يلي:
سيدي
ان جلالتكم على علم بان الوزارة الحالية عملت كل مابوسعها للمحافظة على النظام في عموم البلاد وبذلت اقصى جهودها عبر كل الوسائل المتاحة لرفع مستوى البلاد وتحقيق طموحاتها قدر ما تسمح به الظروف خارج العراق. ولكن يبدو ان عدم الخبرة والجشع قادا بعض الرجال إلى الضلال [عن واجب] الدفاع عن البلاد والإتجاه إلى فعل سيؤدي، كما اظن، إلى نتائج شريرة. تدارست الموقف مع زملائي وقررنا تجنب قيادة البلاد إلى اضطراب داخلي؛ وعليه فاني اسارع إلى تقديم استقالتي إلى جلالتكم، واعتقد انكم بقبولها ترفعون عني عبء الوزارة. ادعوه تعالى ان يحفظكم من الإضطراب للدفاع عن مصالح البلاد.
يلاحظ على هذه الرسالة ان ياسين يظهر مطيعاً وموالياً للملك والبلاد، غير انه لم يقدم استقالته إلاّ متردداً تحت تهديد الجيش لا لأن الملك يرغب باستقالته. وافق الملك فوراً على استقالة ياسين ودعا حكمت إلى تشكيل وزارة جديدة.
ادى موقف الملك إلى نظرية آمن بها اصدقاء ياسين ورشيد، هي انه طالما لم يكن قلقاً من التخلص من نظام ياسين- رشيد فانه كان متحالفاً مع قادة التمرد. وعلى قدر ما استطاع مؤلف الكتاب ان يتأكد منه، فان الملك غازي لم يكن على علم مسبق بالمؤامرة. صحيح انه كان لدى الملك العديد من الأصدقاء بين ضباط الجيش، وغالباً ما كانوا يلمّحون له انهم على استعداد عند حاجته إليهم. وحيث ان الملك كان مغتاظاً من ياسين ورشيد، فقد كان من المسلّم به لدى بكر وزملائه ان موقفه سيكون في كل الأحوال متعاطفاً معهم. ويُذكر ان بكراً اشار إلى الجيش بالتحرك إلى الملك صباح يوم 29 تشرين الأول وطمأنته على ولاء الجيش للعرش. ربما كان هذا الإتصال هو ما دفع بكراً ليقول لياسين ان هذه الحركة “بعلم الملك وموافقته”. أما عن علم الملك المسبق بالحركة، فان المؤلف يميل إلى الإعتقاد بأن قادة التمرّد عدّوا كشف سر الحركة إلى الملك الشاب قبل ان تبدأ غير ضروري.
اغتيال وزير الدفاع
باستقالة ياسين يبدو ان الأزمة انتهت. لكن حادثةً مفجعةً وقعت كان لها تأثيرات مؤسفة على الأحداث اللاحقة. لم تكن تلك الحادثة اقل من قرار بكر المفاجئ وغير المتوقع باغتيال وزير الدفاع، جعفر العسكري.
قبل المضي إلى قصر الزهور لحضور الإجتماع كان جعفر قد اصدر بمبادرة منه بصفته وزير الدفاع اوامراً متناقضة ومربكة مصممة اساساً لإيقاف التقدم نحو بغداد والإطاحة بالمؤامرة. كان احد الأوامر إلى قائد القوات المدرعة بانتظاره في شهربان، والأمر الآخر كان لقائد المدفعية بالتوجه إلى بغداد على ان لا يفعل شيئاً حتى يلتقيه؛ وكان الأمر الآخر إلى قائد المشاة بالتحرك إلى بغداد ايضاً، وامر آخر إلى عبد اللطيف نوري بايقاف أي حركة حتى يلتقيه. فسّر بكر هذه الأوامر على ان المراد منها خلق فوضى في الجيش والحيلولة دون الإنقلاب. سُلمت اوامر جعفر إلى احد الضباط وطُلب منه تسليمها شخصياً إلى القادة المعنيين. وحين ذهب ذلك الضابط إلى المتمردين وسلمهم الأوامر، واطلع عليها بكر، اكتشف فوراً في جعفر عدواً لحركته. ويُتقد انه لو وصلت تلك الأوامر إلى القادة المعنيين لكانت سببت مشكلة لبكر بسبب الشعبية التي يحظى بها جعفر بين ضباط الجيش.
لكن هذا لم يكن كل شيئ. فحركة جعفر اللاحقة كلفته حياته. فبعد ان اصدر جعفر الأوامر إلى الضباط ذهب إلى قصر الزهور وشارك في مداولات الوزارة. يُذكر انه كان مع استقالة الوزارة، وانه لم يكن في الحقيقة مؤيداً قوياً لياسين ولا لسياسته. لكنه لم يجد مبرراً لتقدم الجيش نحو بغداد طالما قررت الوزارة الإستقالة. وعليه فقد طلب من الملك ان يعطيه رسالة شخصية إلى بكر ليوقف تقدم الجيش. كانت خطوة جريئة ولم يستطع الملك الشاب ان يستشرف العقابيل الشريرة. ولا يبدو ان جعفراً قد استشرف ان خطوته المبكرة لخلق انشقاق في الجيش قد تغدو معروفة وتقلب قادة الجيش عليه. لكنه كان مصمماً على تنفيذ مهمته وذهب لتسليم رسالة الملك إلى بكر شخصياً. نص الرسالة كما يأتي:
عزيزي بكر صدقي
هذه الرسالة [سوف] يسلمها لك السيد جعفر العسكري الذي يأتي إليك بحالة خاصة وسيناقش [معك] الموقف. أُخبرت تواً ان ثلاث [هكذا في الأصل] قنابل القتها بعض الطائرات [على بغداد]؛ وقد تفاجأت كثيراً بهذا الخبرلأني اعلمتك عن طريق الهاتف بضرورة ايقاف أي حركة اخرى حتى [اتمكن] من التعاطي مع الموقف الراهن. لابد ان يكون لأي حركة اخرى [من جانب الجيش] اسوأ العواقب على مستقبل البلاد وسمعة الجيش، اذ لاضرورة ابداً لحركة كهذه. سيحيطك جعفر بتفاصيل اخرى.
غازي
القائد العام
29 تشرين الأول 1936
وصل خبر مغادرة جعفر إلى بكر قبل وصوله هو ،فُسِّرت هذه الحركة السلمية على انها محاولة اخرى لمعارضة الإنقلاب. تعصّب بكر فجأة وقرر التخلص من جعفر. طلب متطوعين من ضباط الجيش يعترضون سبيل جعفر ويقتلوه. لم تكن لدى احد الشجاعة لقتل وزير الدفاع المحبوب، لكن هذا لم يوقف بكراً- فاعطى اوامره فوراً لأربعة من ضباط الجيش الملزمين بطاعة قائدهم. اقترب الضباط الأربعة من جعفر وهو في طريقه للقاء بكر، اوقفوه، ثم اقتادوه في طريق جانبي واطلقوا عليه النار. أُخذت الرسالة التي كانت مع جعفر إلى بكر، فقرأها مشمئزاً، جعدّها ورماها جانباً.
انتُقدت حركة جعفر على خلفية انه كان عضواً في الوزارة التي تمرّد عليها الجيش، وعليه فقد كان الذهاب للقاء الجيش المتمرّد من الخطورة بمكان. لاشك ان جعفر كان يثق بشعبيته بين ضباط الجيش، ولكن هذا ليس بالأمر الكافي حين تتصاعد المشاعر. بالنسبة إلى بكر وضباط الجيش كانت المسألة مسألة حياة أو موت، ولذلك لم يستبعدوا احتمال الخيانة، لاسيما في حالة اوامر جعفر المتناقضة السابقة.
مؤلف الكتاب مع الرأي القائل بان بكر، كان على خطأ باستبعاده امكانية التواصل الدبلوماسي، ولكنه يرى ان الرسالة كان يجب ان تُرسل بيد ضابط صغير الرتبة لابيد جعفر نفسه الذي اثار بفعله هذا شكوكاً لاموجب لها. وحيث ان جعفراً لم يكن مؤيداً متحمساً لوزارة ياسين- رشيد ولا اعتذر عن سياستها ابداً فان اغتياله كان خطأً سياسياً فاحشاً من جانب بكر. لم يصبح اقرباء جعفر واصدقاؤه اعداء الداء لحكومة الإنقلاب فحسب، بل ان الحادثة منذ بدايتها وصمت مؤلف الحركة التي ادعت انهاء طغيان حكومة مستبدة بالجريمة السياسية. انها لمفارقة تاريخية ان يكون جعفر الذي كان اول وزير دفاع للعراق عام 1921 وعمل بجد واجتهاتد لخلق جيش وطني، اول ضحايا الجيش حين تمرّد.
دخول الجيش إلى العاصمة
على الرغم من كل الجهود التي بُذلت للحيلولة دون توجه الجيش الى بغداد، اصرّ بكر على دخول العاصمة على رأس قوته للإصلاح الوطني المنتصرة. وسرت شائعات بأن وزارة ياسين- رشيد كانت خططت، بدعم من الشرطة، لمواجهة المتمردين عن طريق اثارة الإضطرابات. ولا شك ان الإشاعات طرقت مسامع بكر الذي اراد، بناءً على ذلك، ان يقضي على أي محاولة للمقاومة. لكن بكر، الذي عمل بكل الوسائل كي ينجح الإنقلاب كان يطمح إلى دخول العاصمة وسط ترحيب الشعب وتهليله والهتاف باسمه بصفته منقذهم. دخل بكر وبعض من قواته بغداد الساعة 5 مساءً وتجول في شوارعها الرئيسة. كان الجيش مبتهجاً متحمساً واشر هذا الفعل نهاية الأزمة، كما انه وضع حداً لشائعة احتمال حرب اهلية. توجه بكر إلى وزارة الداخلية حيث التقى حكمت واتباعه لمناقشة الوزارة الجديدة للمرة الأخيرة.
تشكيل وزارة الإنقلاب
دُعي حكمت إلى تشكيل وزارة جديدة بعد تقديم ياسين استقالته مباشرةً، إلاّ انه طلب ان يوجَّه له كتاب رسمي من الملك لهذا الغرض، ولو ان رسالة دعوة شفوية كانت كافية وفقاً للممارسة الفعلية في العراق. اشار حكمت إلى الملك ان الظروف “غير طبيعية” ولذلك لابد من دعوة تحريرية لتفنيد اي احتمال بادعاء ان الحكومة الجديدة التي ستعلن غير دستورية. وإلى ذلك فان حكمت حينما سمع بتوجه جعفر للإلتقاء ببكر شكّ بهذه الحركة ورفض في تلك اللحظة تشكيل وزارة جديدة. وعليه فقد استمرت الأزمة بضع ساعات اخرى حتى اتضح الموقف ودخل الجيش العاصمة عصراً. لكن حكمت ظل مصراً على ان تكون الدعوة التي ستوجه إليه كتاباً رسمياً تحريرياً بتوقيع الملك قبل ان يوافق على تشكيل وزارة جديدة.
بدأ حكمت مع اتباعه من الأهالي والعسكر عند استلامه تلك الدعوة باختيار افراد الوزارة الجديدة. وذُكر لمؤلف الكتاب ان مناقشةً لأفراد الحكومة كانت قد تمت مؤقتاً الذي نقل فيه حكمت الأخبار إلى جماعة الأهالي بشأن قرار الجيش لمباشرة التمرد. وقد تم الإتفاق على ان يكون حكمت رئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية، وابو التمن وزيراً للمالية والجلبي وزيراً للإقتصاد والأشغال العامة، وعبد اللطيف وزيراً للدفاع، ويوسف عز الدين ابراهيم وزيراً للمعارف. ولم يتم الإتفاق على حقيبة وزارة الخارجية. وذُكر ان ضباط الجيش كانوا يأملون تعاون الجنرال نوري السعيد وجعفر العسكري، لكن اغتيال الأخير افسد الخطة وخلق معارضة للنظام الجديد منذ اللحظة الأولى.
ذُكرت اسماء بعض السياسيين المسنّين، واستقر الرأي اخيراً على ناجي الأصيل، الدبلوماسي الذي مثّل ذات مرة الحسين ملك الحجاز في لندن، وكان وكيل وزارة الخارجية في العراق سابقاً. ومع انه كان محايداً سياسياً، إلاّ انه كان يُعدّ متعاطفاً مع جماعة الأهالي. بقي تخصيص محفظة العدلية. اراد حكمت عضواً شيعياً آخراً في وزارته (كان ابو التمن العضو القيادي في جماعة الأهالي الشيعي الوحيد لحد الآن). عُين صالح جبر وزير ومتصرّف كربلاء سابقاً، ومعروف بلا حزبيته واستقامته بناءً على اقترح الجادرجي. لم يكن صالح جبر في البداية مهيأً للإنضمام إلى الحكومة، ولم يقبل الإنضمام إليها إلاّ بعد الحاح حكمت، وبعد ان استشار ياسين فنصحه بقبول المنصب.
يُلاحظ ان بكر صدقي الذي نهض بدور كبير جداً في نجاح الإنقلاب لم يطمع بمنصب وزاري، بل اكتفى بمنصب رئيس الأركان العامة الأدنى مكانة. وذُكر ان حقيبة الدفاع عُرضت على بكر لكنه رفضها لمصلحة زميله عبد اللطيف نوري.
في السادسة صباحاً اقيمت مراسم تشكيل الحكومة الجديدة، والقى حكمت خطاباً قصيراً جاء فيه:
أود ان اشكر جلالة الملك [لثقته]، وليس لدي ما اقوله الآن سوى ان اطلب من شعب العراق الكريم الذي وضع ثقته بنا، ان يعودوا إلى الحياة الطبيعية. كما اطلب من الموظفين اداء واجباتهم اداءً صحيحاً وادعو الله ان يعيننا ان شئنا تحقيق الأهداف التي وصلت إلى السلطة من اجل تحقيقها.
*المادة:الفصل الخامس من كتاب – العراق المستقل : دراسة في السياسات العراقية منذ عام 1936 –لمؤلفه مجيد خدوري ،الذي نشره عام 1951،برعاية المعهد الملكي للشوؤن الدولية،لندن .المترجم : وليد خالد احمد
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات