23 نوفمبر، 2024 10:11 ص
Search
Close this search box.

رحيقُ الاندثار

اتساءل كيف يعنّ لمَنْ اندثروا أن يعودوا في اروقة الحلم ولديهم افكار يرومون طرحها علينا ؟ ومثل ايّ حلم رأيتهم ليلة امس في شريط طويل يتوقفُ حيناً أوانَ ذهابي الى المغاسل ، ثم يعودُ جريانُه حين اضع رأسي على الوسادة . انقطع الشريطُ ثلاث مرّات ، لكن التسلسل الحلمي ظلّ يتواصل . اذن انا في صالة كبيرة ، في احدى زواياها عيادة طبيب صديق “1” اعرفه،  كنا نتحاور ، وقد مضى على اندثاره اكثر من خمسة عشر عاماً .
، لكنه دائم الحضور يجيئني بين آونة وآونة في سربال رؤيوي . كنا نتحدّث عن ايام الشباب والقراءات التي كانت شغلنا الشاغل . لا ادري لمَ زرته ، حتماً ثمة امرٌ ينطوي على خبر كان يزمع أن يُخبرني به ، بيد ان امرأة اقتحمت عيادته تحمل طفلاً مصاباً بالصرع . تركني وخفّ نحوها ،افرغ سرير الفحص من اوراقه وأنام الطفل عليه . وعليّ ان اغادره . وقبل ان اترك المكان التقيتُ اخته الكبرى “2”، وعلمتُ انها طبيبة اعصاب وعيادتها في زاوية اخرى . امسكت بيدي وولجناها ، مليئة ٌجدرانُها ببوسترات المخ والجهاز العصبي ، استغربتُ امر قريبتي التي لمّا ازلْ احبّها لوفائها واياديها البيض عليّ في ساعاتي العصيبة الماضية . كانت تعمل معلمة ، ولعلها ثابرت وصبرت حتى تسنت لها دراسة ُالطب والتخصص في الأعصاب . اجلستني الى جوارها تحدثنا عن الماضي وهي سعيدة الآن في عملها . وقبل ان نكمل حوارنا  وجدتُني في بيتهم ، بيت لا يشبه ذياك البيت الذي ترعرعتُ معهم فيه . كان الأخ الأكبرُ نائماً على السطح “3” . اذن الوقتُ صبحٌ قبل ان يفطر الجميع ويذهبوا الى اعمالهم . المائدة تزدحم بالخبز والجبن والزبد والبيض والعسل واواني الشاي . احد اخوتها وهو طبيب اشعة جلس الى جواري وناولني كتاباً سميكاً “4” : انه لك ، اشتريته امس ، ينطوي على كتابات نقدية في الفن التشكيلي . تناولته مشكوراً ، لكن لم يُتح لي تصفحه فقد حضر الجميع وملأت الأخت الكبري كوبي بالشاي وجعلنا نتناول فطورنا . ابانئذ نزل اكبرُ الأخوة من السطح متذمراً ملقياً اللوم عليّ لأني أيقظته بصراخي . احتجّ طبيبُ الأشعة ، فردّعليه  : اصمتْ ، انا امزح ، ومشتاق لرؤيته فلم اره من سنوات .. انحنى عليّ وقبلني واختلطت رائحة نومه برائحة فطور الصبح .
انطفأت تلك اللحظة ُ الاستثنائية لأجد نفسي في حديقة البيت ، كنتُ ارفعُ يدي لألتقط عنقود عنب صغير . كان ناضجاً اصفر بلون صفار البيض . ولم اكد اخطو بضع خطوات حتى فوجئت بصديق من أيام التعليم “5”  توفي في حادث قصف ايراني على بيت حزبي كانوا مجتمعين في احدى غرفه . اخترقت القذيفة الجدار ومات جميعُ مَنْ كانوا معه . ترك وراءه طفلين وارملة شابة واماً كانت على حاشية الموت .
قال الصديق القتيل : جئتُ آخذك الى المدرسة وامنحك عشر محاضرات كلّ اسبوع في المدرسة المسائية . وقبل ان اجيبه اشرتُ اليه أن يقطف عنقود عنب . فلبّى طلبى . كان عنقوده أكبر من عنقودي ، وضع بضع حبات في فيه ، وصاح : يا الهي ، طعمها احلى من العسل . خرجنا معاً ولم أزل اتأبط كتابي . وقبل ان نزور المدرسة دفع باباً لنلج الى غرفة نوم اشبه بصالة صغيرة . كان شخصٌ لي معرفة قديمة به “6” جالساً على سرير النوم المزدوج ، يقلب عدداً من الأوراق . ومن دون أيّ طلب سحب القتيلُ كتابي من يدي وناوله الكتاب . كانت زوجته جالسة امام السرير تحتضن طفلها الصغير . غرفةُ النوم تعمها الفوضي ، لكن في جهة اخرى سريريان منفصلان لربما وضعا للضيوف ، وقبل ان أسأل نفسي : ايجوز مشاركة الضيوف غرفة نوم الزوجين ؟ لكزني القتيل : اصمت . جلستُ على مبعدة من صاحب البيت بينما جلس صاحبي على حافة السرير : ما اروعَهُ من كتاب ، فمَنْ يقرأه يكن ناقداً تشكيلياً عليما بحرفية الرسم واللون والخط . قال رجلُ السرير . لكن القتيل همهم : الم اقل لك أنّه يمتلك ذائقة نقدية وله كتابات رصينة ينشرها هنا وهناك . ردّ صاحبُه : انا اعرفه واقرأ له ، لذلك جمعتُ له هذه الكتابات المنشورة له في صحف خليجية لا تصلنا . مدّ يده يناولني اياها ، لكن الشريط الحلمي انقطع فجأة وذهب كل احد الى مثواه : الجالس فوق السريرِ وزوجته وطفلهما الى ملاذهم اللندني ، والقتيلُ الى طيات قبره . والالى التقيتهم في البيت والصالة الكبيرة غيّبتهم يقظتي وعادوا الى سحيق اندثارهم . وانا مازلتُ اتقلب على فراشي استعيد خيوط احلامي . احاول القبض على المستحيل المخفي منها .
لكني افلحتُ واقتنصتُ ابعاضها لأنسج منها هذه القصة .
 
 
1 – هو اصغر مني بثلاث سنوات ، بيد أنّه خشن ، متين البنية ، تخرّج طبيباً قبلي ، فأنا فصلت من الجامعة مدة سنتين . لكننا ننام في غرفة واحدة ، نقرأ ونتردد على صالات السينما معاً . وربما شاهدنا / نهر بلا عودة ،هيلين بطلة طروادة ، بعض افلام ستيف ريفز ، كاري كوبر ،كيركوري بيك، كيرك دوكلاس ، توني كيرتس ، افا غادنر، سوزان هيوارد، جين سيمونز ، اودري هيبورن وغيرهم . ظللنا صديقين أكثر من كوننا قريبين . تغيّر كثيراً بعد ان افترقنا وبعد أن تزوج . لكنه كان يستعين بي في حاجات ثقافية وكتب ومعاجم لأولاده . وكنتُ آخذ اولادي الى عيادته احياناً . ولا حظتُ عنده شيئاً من الغرور والتعالي معي احياناً ومع ذوي مرضاه من الأطفال ، وقد لمتُه مرة على تصرفه فما اكترث برأيي .مع ذلك بتُّ ازوره ويزورني .حين تغربت انقطعت علاقتنا وسمعت نبأ وفاته بداء البروستات . استغربت الأمر كيف يموت الطبيب بهذا المرض ولا يشعر به قبل أن يستفحل . آلمني غيابُه . ثمّ ابتعدنا عن بعض أنا وعياله .لكنه ظل كينونة راسخة في ذاكرتي لا يُنسى .
 
2- هي تكبرني بسبع سنوات ، لكنّها كانت تكنّ لي مودة اكثر من الآخرين في البيت .رأيتها اول مرّة عام 1954 عندما زرتهم ، جلستُ في الصالة اتحدث مع الأم ومرتْ الى جواري مثل نسمة عطرة بثوبها الأصفر من دون أكمام ، كانت ممتلئة ذات عينين متخمتين بالحنين . منذئذ احببتها كأم أو اخت كبيرة . هي وحدها خلال الأعوام اللاحقة باتت شغلي الشاغل . ولأني افتقدتُ حنان الأم منذ طفولتي فقد شغفتُ بها ايّما شغف . كما أنها ظلت تعاملني كما لو كنتُ ذياك الطفل الفقير الذي زارهم في احد الأيام قبل اكثر من خمسة عشر عاماً .كنت عهدئذ فتى لم ارتد ثياباً جديدة مثل الأطفال الآثرياء . تغرّبتُ وابتعدت ،عدتُ وانا متزوج ولي اولاد ثلاثة الا انها ظلت تحتفظ بذلك الوجدان النقي تجاهي . قبل أن تموت بيوم نزلتْ من غرفتها في الطبقة الثانية لملاقاتنا أنا وزوجتي واولادي . ارتدت اجمل ثوب لها . اطلت علينا في الصالة مُتعبة تنوء بالوجع ، لامتها اختاها على ترك فراش المرض ، لم تكترث بهما تمددت قبالتنا ، فخففنا نحوها انا وعيالي نقبّلها . كانت مرتاحة لوجودنا ، وربّما كان ذلك آخر امنية لها . وذي هي تعود من غور اندثارها طبيبة اعصاب . الهي كيف استطاعت ان تتبوّأ هذا الاختيار الصعب ؟ لكن المصادفات اللعينة لا تُعيننا على التعايش طويلاً في سدف الأحلام . وابتعدنا ثانية .
3 – هو أكبرُ الأخوة ، بيد ان لهم أخاً غير شقيق يعيش منفصلاً عنهم في مشتمل ملحق بالبيت لا يتحدّث الا مع الشقيق الأصغر الذي تكلمتُ عنه في الفقرة الأولى . بل سجّل كل امواله باسمه قبل أن يموت . الأخ النازل من السطح كريمٌ عظيم الخلق ، كان طوال حياته يمنح ما يملك الفقراء َواصدقاءه المعوزين . وان انسَ لا انسى كرمه تجاه المطرب البغدادي حسن خيوكة الفقير العاطل عن العمل مبتدأ ستينيات القرن الماضي .كنتُ طالباً في الثانوية وقررتُ زيارته . كان يتبوأ رئاسة الكتّاب في المحكمة الشرعية . طرقت الباب ووقفتُ قبالة مكتبه ، استغربني بدءاً ، هو انيق حليق الوجه ذو شعر اسود سلس يُمشطه الى الوراء . مدوّر الوجه بدين البنية . سمعته يقول : تفضل ابني . اجبته أنا ” ….” نهض من مكانه وعانقني وقبلني ، سألني عن والدي واخوتي . وطلب لي استكانة الشاي . كما حثني على أن ازورهم في البيت . وحين هممتُ بالخروج مدّ يده الى جيبب سرواله واقتلع ما فيه من النقود ووضعه في جيبي ، وودعني حتى الباب ، وقبل ان يُغيّبني الباب خارجاً همس :عليك ان تزورني وتزور البيت …… أخيرأً بات أعز صديق وأب ونديم . من مكتبته تزودتُ بثقافتي . كانت مكتظة بعيون الثقافة والفلسفة . قرأتُ منها رواية الأم والأخوة كرامازوف وعناقيد الغضب وبابلوف وفرويد ونيتشة في / هكذا تكلم زرادشت / وابن عربي والحلاج وآخرين كثراً . كنتُ اتمددُ على البلاط الكاشي ساعات طويلة ، وقد لامني يوماً :  /ستخيسُ من القراءة  / حين تزوجت تكدرّت علاقتي بهم . تزوّجتُ بعد وفاة شقيقتهم الصغرى باشهر ، كان عليّ ان ْانتظر حتى تمرّ سنة . وخللَ عشر سنوات لم نلتق . بيد انه كان يتصل بي كلما جاء الى البصرة ، نلتقي ونتعشى معاً ،اقتني له كتباً جديدة ، اعرف انه لا يستطيع أن ينام الا بعد قراءة نصف كتاب . مات وانا في دولة الكويت . لم احزن على فقداني أحداً كما حزنت على وفاته . الهي كيف يموت مَنْ كان مثله ؟؟؟
 
4 – طبيبُ الأشعة اكبرُ سناً مني ومن أخيه طبيب الأطفال ، توفي قبلَ بلوغه الستين بمرض القلب ، قال : نحنُ ورثنا هذا الداء اللعين، كان أيضاً قريباً جداً مني ، يُفضي اليّ بكلّ اسراره ، أحبّ طبيبة من عائلة بغدادية عريقة ، الا ان اخواته وقفن دون اقترانه بها ، فضاع الحبّ والأمل . بقي عسكرياً قرابة عشر سنوات ، ثم هجر العسكرية وتعين مديرَمستشفى في أقصى شمال الوطن ، وانتقل غبئذ ٍ الى بغداد . كان عطوفاً واميناً ، اذكر انه كان يفحص في عيادته الخاصة بعد وقت الدوام فقراء مدينته الشمالية ويمنحهم الدواء مجاناً. فقد فتح صيدلية داخل العيادة . الا أنّ انسانيته حالت بينه وبين الربح . كنتّ اعرف كلّ اصدقائه من العمال وسواق الباصات والموظفين البسطاء .لم يركب غروره أبداً . وقد ربّى اولاده وفق طبيعته وطيبته . حين توفي كنتُ مرافقه الوحيد من اهله ، جلستُ جوار سائق شاحنة البيكب فيما كان مسجى ورائي داخل حوض السيارة الخلفية ، احسستُ اننا ما زلنا نتحاور ونمزج ، ثم وري التراب امام عينيّ .
 
5 – هو صديقٌ كنتُ اعرفه عن بعد ونلتقي خلل مصادفات عابرة . بيد اننا نقلنا من مدرستينا الى المعهد معاونيين . انا اكبرُ منه سناً ، كان اريحيّاً ومُنكتاً وطيّباً . تزوج احدى قريباته ، وانجبت طفلين . كانت امّه عجوزاً شبه عمياء . أمضينا اوقاتاً طيّبة بعد الدوام في مقاهي الكورنيش وفي مطعم علي بابا . يُشاركنا احياناً مديرنا وبعض زملائنا . الجلوس معه متعة فلا تطرق مجلسنا همومُ الحياة وشواغل العمل . صباحاً اذهب الى بيته لأوصله الى المعهد وكذا حين العودة عصراً . لقدعملت في دولة الكويت ابان الحرب الدائرة بيننا وبين ايران . وقبل عودتي بفترة ترامى اليّ نبأ مقتله خلل سقوط قذيفة على مكان اجتماعهم الحزبي وقُتل مَنْ كان معه . زارني مرّة واحدة في الكويت ، فله اقرباء كثر فيها ، تغدّى معنا في البيت في نهار صيفى ساخن ومُغبر . كان مليئاً بالتفاؤل الذى انقطع شريطه فجأة . بعثتُ معه بعض الكتب المُترجمة لقصائد اليوت وسان بيرس الى صديقنا محمود البريكان . حين ودّعته امام المبنى الذي نسكنُ فيه لم يخطر ببالي أن هذا هو آخرُ لقاء بيننا .
 
6 –  هو صديقٌ أيضاً ، كان مُديرَنا ، ترسخت علاقتنا الأخوية ، زرته في بيته وزارني في بيتي . تعرفنا على زوجته الجزائريه ، انّه من النوع الذي لا يُظهر مشاعره خلال وجهه ، بل تلاحظها في الكلام والسلوك . لم أره يضحكُ ابداً كان يبتسمُ وحسبُ .. احياناً نذهب الى الكورنيش او الى علي بابا ، نحتسي القهوة او نتغدّى . زملائي لم يفقهوا طبعه ، هوغامضٌ وحسب فلا يُظهرُ عاطفة لأحد . بل يوزن كلّ احد وفق بديهة رصينة لا تُخطيء . فجأة سافر الى لندن في زيارة اخيه خلال العطلة الصيفية .وربّما تخلصاً من اوزار الحرب القائمة بيننا وبين جارتنا . كانت أيامُ الحرب خطراً عصيباً علينا، تُقصف البصرة ُ مراراً في اليوم الواحد ، وتطول القذائفُ المُعادية احشاء المدينة أسواقاً وحارات ومعاهد . تُخلفُ وراءها مئات الضحايا فضلاً عن الخراب الذي تتركه . كنت اوانئذ احاضر في المعهد بضعَ ساعات في الأسبوع . وبعد أن شغر مكانه تعيّن صديق من اصدقائي له تأريخ يساري عتيد ، حتى ان سعدي يوسف كتب قصيدة باسمه .
 منذئذ ٍ لم اسمع عنه شيئاً … .

أحدث المقالات

أحدث المقالات