ما يجري في العراق اليوم مارثون بشع لإفساد كل شيء، وقلب للحقائق بأساليب فجة. وهذا ما فعله ويفعله الأشرار في عراق مطلوب محو ملامحه، وتعويقه بطريقة يصعب معها استعادة عافيته، لذا من الخطل ان ينتظر أحد اصلاحا منهم او تغييرا لسلوكهم الاجرامي والكف عن ثقافة الخديعة. فلقد بات معروفا للجميع، فان الانتخابات في العراق، ليست وسيلة لتشكيل حكومة وطنية يتولى ادارتها الفائز في الانتخابات، ويقبل الخاسر بموقع المعارضة، كما هي الحال في البلدان الديمقراطية في كل ارجاء المعمورة، وانما هي وسيلة لإنتاج حكومة عميلة، لحمتها المحاصصة الطائفية والعرقية، وسداها الفساد والفاسدون واللصوص. والا بماذا نفسر قتال المرشح بكل الوسائل غير المشروعة، وانفاقه عشرات الملايين من الدولارات، للفوز بمقعد نيابي؟ اليس من اجل جني الأموال الطائلة والانتقال من موقع الفقر الى موقع الثراء الفاحش بغمضة عين؟ ثم الم يعترف أكثر من نائب بهذه الحقيقة جهارا، دون حياء او خجل، او خوف من عقاب يناله؟
هذه الحقيقة وغيرها ولدت قناعة لدى العراقيين، بعدم جدوى الانتخابات، او الاعتماد عليها كوسيلة للإصلاح والبناء. وهذه القناعة هي التي دعتهم الى مقاطعة هذه الانتخابات بطريقة لا تقبل الشك او التأويل. وهي ذاتها التي افشلت كل الجهود التي بذلها، اشرار العملية السياسة، لأقناع المواطن البسيط بالاشتراك في الانتخابات. وخير دليل على ذلك، فان نسبة المشاركة في هذه الانتخابات لم تتجاوز 10 % من العدد الإجمالي للمصوتين. ودعكم من الأرقام التي أعلنت عنها المفوضية العليا للانتخابات، والتي وصلت الى 41 %. فالشمس لا يمكن تغطيتها بغربال.
اما الحديث عن نزاهة الانتخابات وشفافيتها وخلوها من التزوير. فقد فضحها اشرار العملية السياسية بأنفسهم. حيث صرح نوري المالكي زعيم دولة القانون، وهادي العامري رئيس قائمة الفتح وكذلك قيس الخزعلي وعمار الحكيم وحيدر العبادي، بان نتائج الانتخابات غير واقعية، وطالبوا بإعادة فرز الأصوات. في حين قال أياد علاوي زعيم القائمة الوطنية وخميس الخنجر، وكذلك يونا ديم كنه واسامة النجيفي وسليم الجبوري، بان النتائج كانت مزورة تماما. اما قادة ما يسمى بمحور المقاومة والحشد الشعبي، فقد هددوا بالنزول الى الشوارع واستخدام السلاح، في حال أصرت المفوضية على صحة النتائج المعلنة.
بالمقابل لم تنفع عملية تضميد جروح هؤلاء الأشرار، او التغطية على فضيحتهم، لا من قبل مرتزقتهم واتباعهم واعلامهم المأجور، ولا من قبل ذوي النيات الحسنة من المغفلين. فالادعاء بان سقوط قادة من الاشرار في هذه الانتخابات، مثل قيس الخزعلي وهادي العامري وعمار الحكيم وحيدر العبادي، قد تم بفضل مشاركة العراقيين في الانتخابات، فهذا ما لا أساس له من الصحة. فسقوط بعض الأشرار، قابله صعود اشرار اخرين في العملية السياسية، اشد شرورا من العامري وقيس. فعلى سبيل المثال لا الحصر، حصل نوري المالكي، الشرير الاول على 37 مقعدا أي بزيادة 17 مقعدا عن الانتخابات السابقة. وارتفع عدد مقاعد الشرير الاخر السيد مقتدى الصدر من 54 مقعدا الى 71 مقعدا.
اما التباهي بفوز عدد من المستقلين والملتحفين زورا بعنوان ثوار تشرين، مثل الدكتور علاء الركابي، فان ذلك لن يغير من مسيرة العملية السياسية السوداء قيد انملة. بل سيمحو سخام الخيانة والفساد والمتاجرة بدماء العراقيين ملامح وجوههم، شان كل من دخل الى برلمان بول بريمر وارتضى ان يكون طرفا في عملية سياسية إجرامية، خط قواعدها محتل بشع.
لكن هذا ليس كل شيء، فالحديث الذي اعتبر سقوط بعض الأشرار، إشارة واضحة لتوجه امريكي، نحو تغيير الوضع في العراق الى الأفضل، فهذا حديث ساذج، او كذبة مفضوحة أو نكتة سمجة. اذ كيف للمحتل الأمريكي، الذي دمر البلاد والعباد، ان يقدم على انهاء دور هؤلاء الأشرار، وهم بمثابة المعول الذي به تم تهديم العراق؟ أليست هذه الطغمة الشريرة، قد نمت وتغولت تحت سمع هذا المحتل الغاشم وبصره؟ أليست هذه هي الأدوات، التي اعتمدها المحتل لتامين السيطرة على العراق من جهة، والوقوف بوجه أي انتفاضة او ثورة شعبية تندلع ضده وضد عمليته السياسية من جهة اخرى؟ ثم هل يصلح تراجع مكانة العامري او الخزعلي في المجلس النيابي الجديد دليلا على صحة التوجه الأمريكي المزعوم؟
على الجانب الاخر، فالتطبيل لفوز مقتدى الصدر والتغني ببرنامجه الإصلاحي الذي أعلن عنه في خطاب ناري، هو الاخر لن ينقذ هؤلاء الأشرار من مازقهم. لان الصدر أصبح بالنسبة للمواطن العراقي موضع تندر وسخرية، لكثرة تقلب مواقفه وتغريداته المتناقضة. فهو بالأمس القريب، وعلى وجه التحديد بعد فوزه بالانتخابات السابقة، قد القى مثل هذه الخطب النارية وأطلق الوعود الوردية بالإصلاح والقضاء على الفساد، ونزع سلاح المليشيات وحصره بيد الدولة. لكن ما حدث عكس ذلك تماما. فبدلا من الوفاء بوعوده تلك، قام بتشكيل تحالف مع حيتان الفساد والمحاصصة الطائفية مثل، هادي العامري وعمار الحكيم وقيس الخزعلي، للفوز بالكتلة الأكبر وتشكيل الحكومة. بل ذهب الصدر ابعد من ذلك ووافق على تنصيب مرشح المحتل الأمريكي والإيراني عادل عبد المهدي رئيسا للحكومة، مقابل منحه حصة كبيرة في الحكومة والمناصب المهمة والدرجات الخاصة.
ومع ذلك دعونا نغير الاتجاه قليلا، ونفترض جدلا بان مقتدى الصدر، تمكن من تشكيل حكومته الصدرية، على حد تعبيره، ترى هل سيسمح له الاخرون من حيتان الفساد وقادة المليشيات المسلحة التفرد بقيادة البيت الشيعي والسلطة معا، لينال حصة الاسد ويرمي الفضلات لهم؟ ام انهم سيجبرونه على العودة الى بيت الطاعة والاكتفاء بحصته من مغانم عملية الاحتلال السياسية؟ وإذا قبل هؤلاء الحيتان واكتفوا بما سرقوا؟ فهل سيسمح المحتل الأمريكي ووصيفه الإيراني، بالإصلاح وبناء عراق وطني مستقل؟ ام ان هذا يتعاكس مع مخططهم بتدمير العراق دولة ومجتمعا. خاصة وان مخطط تدمير العراق لم يكتمل بعد؟
لسنا في عجلة من امرنا إذا قلنا، بان ما ذهب اليه مقتدى، يدخل في خانة الاوهام المريضة، وانه سيفيق منها حتما. فزعامة البيت الشيعي وقيادة العراق دفعة واحدة، يتطلب منه الدخول في حرب ضد المليشيات المسلحة وضد إيران، التي يخشاها مقتدى وترتعد فرائصه منها. وإذا تجاهل مقتدى هذه الصعوبات، او حاول نسيانها، فانه ليس بمقدوره نسيان صولة الفرسان، التي قام بها نوري المالكي، وولى هاربا امامها. اما حلفاؤه الجدد، مصطفى الكاظمي وحكام امارات الخليج العربي، وفي المقدمة حكام السعودية، فانهم سيقفون متفرجين بانتظار جلاء غبار المعركة. فتورط الاحزاب الحاكمة وميلشياتها المسلحة بحرب فيما بينها، يعد عز الطلب بالنسبة للحلفاء الجدد لأسباب معروفة.
يسيء لنفسه قبل الإساءة لعقول الاخرين، من يروج لغير حقيقة الأوضاع في بلدنا الجريح. فالعملية السياسية والانتخابات أداة بيد المحتل، ومقتدى الصدر، والأحزاب الطائفية الأخرى أدوات رخيصة للنفوذ الايراني، وان الخلافات التي تدور بينهم ستنتهي بمجرد وصول إشارة من الولي الفقيه علي خامنئي. اما دعوات الصدر وبرامجه الإصلاحية، فهذه ليست سوى شعارات يدغدغ بها عواطف الناس لتحقيق اوهامه وتخيلاته، او “عدة الشغل” كما يقول العراقيون. فمقتدى يعلم أكثر من غيره، بان نتائج هذه الانتخابات والحكومات التي ستنتج عنها، لن تكون سوى نسخة طبق الاصل من الانتخابات التي سبقت.
ما تقدم، لا يعني ان المحتل سيتمسك بهذه العملية السياسية كما هي، دون اجراء تعديلات عليها، خاصة في هذا الوقت بالذات. حيث ما زالت ثورة تشرين ترعبهم نهارا وتقض مضاجعهم ليلا. يضاف الى ذلك، ان الإصرار على ذات التوجه سيزيد من نقمة الشعب العراقي من جهة، ويعزز من مشروعية ثورة تشرين من جهة اخرى. وبالتالي لا نستبعد ان يرغم المحتل هؤلاء الأشرار على تشكيل حكومة تختلف عن سابقاتها الى حد ما، تقوم بتقديم عربون للعراقيين، الذين ضاقت بهم سبل الحياة وزادت معاناتهم جراء القهر والحرمان، على امل منح الحكومة المرتقبة فرصة جديدة. وقد يشمل هذا العربون، القيام ببعض الاصلاحات الخدمية المحدودة، وتحجيم الفساد المالي والاداري قليلا، ووقف السرقات المفضوحة لفترة معينة، وربما تقديم بعض الفاسدين من الدرجة العاشرة للمحاكمة ككبش فداء. الامر الذي قد يحرم الثورة من وقودها الدائم، ويصبح من السهل لاحقا عزلها واضعافها، ومن ثم اجبارها على القبول بأنصاف الحلول. بمعنى اخر، فان مثل هذه الإصلاحات المؤقتة، ستعرقل، في حال عدم فضح هدفها الشيطاني، عملية تصعيد ثورة تشرين، وتضع العقبات امام انتشارها، ليشمل لهيبها عموم الناس والمدن العراقية كافة.
وفق هذا السياق، فان الحل الوحيد للإصلاح وتخليص العراق من محنته، وتنظيفه من مخلفات المحتل وادواته، يحتم علينا، دعوة الناس للالتحاق بثورة تشرين العظيمة، لتمكينها من تعزيز التحضيرات التي يعدها الثوار لانطلاق الموجة الثالثة من ثورة تشرين، والتي ستحقق هذه المرة اهداف الثورة كاملة غير منقوصة، وفي مقدمتها اسقاط العملية السياسية برمتها، وتشكيل حكومة وطنية مستقلة، تأخذ على عاتقها بناء العراق الجديد فعلا.
لقد قدم لنا أطراف العملية السياسية فرصة ثمينة للإجهاز عليها، والتخلص من شرورها، فلا يجوز تجاهلها او السماح بضياعها. فالتاريخ ليس كريما على الدوام في منح مثل هذه الفرص الثمينة.