عنوان القصة مثير جدا للقارئ الروسي , وغير الروسي ايضا , اذ ان القارئ ( اي قارئ) يتوقع ان يجد هناك ( احداثا ذات نكهة باريسيّة طريفة ! ), والاحداث الباريسية دائما ( تثير!) الخيال ضمن الأجواء الذاتية , والخيال الباريسي يعطّ طبعا بكل تلك المغامرات , وهو ( اي الخيال) مثل النفس (الامّارة بالسوء!), رغم ان هذا السوء (جميل ورومانتيكي !!!), الا ان قصة تشيخوف القصيرة ( الى باريس) لا تتضمن ابدا احداثا باريسية ورومانتيكية من هذا القبيل لا من قريب ولا من بعيد , بل هي قصة ترسم صورة ساخرة (وقاتمة ومؤلمة جدا في نفس الوقت , ولكن ليس بشكل مباشر وصريح ) للواقع الروسي المرير آنذاك ليس الا ( وهو واقع لم يتغيّر كثيرا بمسيرة الزمن , ولازالت سماته وخصائصه واضحة المعالم الى يومنا الحالي ) , وفي هذه النقطة بالذات تكمن روعة تشيخوف , وسرّ ديمومة ابداعاته الفنية لحد الآن في روسيا اولا , وخارج روسيا ايضا , بما فيها عالمنا العربي طبعا , وهذا ما نحاول الكلام عنه بايجاز في سطور مقالتنا هذه عن قصة تشيخوف القصيرة – ( الى باريس ).
نشر تشيخوف قصته – ( الى باريس ) عام 1886 , وكان عمره حينئذ 26 سنة ليس الا , وقد تخرّج لتوّه في كلية الطب بجامعة موسكو . لم ينشر تشيخوف هذه القصة باسمه الصريح , بل باسم مستعار هو (تشيخونتيه) , وقد ظهرت القصة في مجلة روسية فكاهية من الدرجة الثانية ( ان صح التعبير ) اسمها ( اسكولكي ) اي ( الشظايا) , والتي أطلق عليها أحد الطلبة العراقيين المرحين في كليّة الفيلولوجيا بجامعة موسكو في ستينيات القرن العشرين تسمية عراقية طريفة جدا , وهي – ( واحدة من المجلات القرندلية في الامبراطورية الروسية !) .
ترتبط هذه القصة بحدثين تاريخيين محددين , الحدث الاول روسي بحت , والثاني عالمي بحت , وهذا شئ نادر جدا جدا في مسيرة تشيخوف وابداعه , اذ ان نتاجاته عموما تتناول عادة احداثا اعتيادية جدا , والتي تجري في مسيرة الحياة الانسانية اليومية بغض النظر حتى عن الانتماء القومي للانسان . الحدث الروسي في تلك القصة هو ما اعلنه عضو الاكاديمية الروسية (غروت ) حول كتابة بعض الحروف باللغة الروسية , هذا الاعلان الذي أثار ضجة وردود فعل مختلفة في الاوساط الروسية , وكان تشيخوف ( ومعظم المثقفين الروس آنذاك ) ضد ذلك الاعلان , اما الحدث العالمي , فهو افتتاح المعهد الخاص بعلاج داء الكلب في باريس , والذي يرتبط باسم العالم الفرنسي الشهير لوي باستور . لقد ذكر تشيخوف هذين الحدثين باسلوب غير مباشر( و دون ان يركّز عليهما بشكل خاص) , ولكنه مع ذلك , أشار اليهما معا في قصته المشار اليها في هذه المقالة , دون ان يلاحظ القارئ الاعتيادي حتى تلك الاشارة الدقيقة , ولا زالت قصة تشيخوف هذه تذكّر القارئ الروسي بهذين الحدثين , رغم ان من المفروض ان يكون الامر عكس ذلك تماما , وفي هذه النقطة طبعا يكمن دور الفن واهميته في مسيرة المجتمع الروسي وغير الروسي ايضا .
مضمون القصة بسيط جدا (مثل معظم نتاجات تشيخوف) , فهناك اثنان يعودان الى البيت ذات مساء وهما في حالة سكر , احدهما معلم , وكان يتحدث لصديقه بشكل تفصيلي عن كيفية كتابة نهاية الاسماء في حالة المضاف اليه حسب المقترحات الجديدة لكتابة حروف الهجاء الروسية , وكان الثاني لا يستمع لهذا الحديث , لانه كان مشغولا بمراقبة مجموعة كلاب تعوي في الشارع , واراد ان يطردها , فعضوا اصبعه , وكذلك مؤخرة المعلم نفسه , وفي اليوم التالي نصحهم أحد معارفهم ان يعالجوا انفسهم من عضة الكلب في باريس بالمعهد الخاص بداء الكلب , وهكذا قررا السفر بالقطار الى باريس , ولكن شاهدوا احدهم وقد رجع بعد يوم فقط , وأخبرهم , انهما توقفا في مدينة كورسك , ووجدا ان المطعم غالي , فذهبا الى مكان ارخص , وهناك شربا حتى الثمالة , ونفذت نقودهما , وهكذا رجع الاول الى البيت , كي يرسل للثاني نقودا ليرجع هو ايضا الى البيت . وهذا كل مضمون تلك القصة .
قال تشيخوف مرّة , انه يكتب ( للقارئ الذكي ) , الذي ( تكفيه الاشارة !) كما يؤكد مثلنا المعروف , وقد اطلعت على تعليقات أحد القراء حول هذه القصة , ومن الواضح انه ليس ضمن القراء الاذكياء( ولا ارغب ان اسميّه بشكل آخر !) , ويقول هذا القارئ , ان القصة ( التي تقع بصفحتين !) لا تستحق القراءة بتاتا , لانها ترسم صورة لاثنين من التافهين, وان الحياة بالنسبة لهما تكمن بالادمان على الكحول ليس الا, وتذكرت قول مكسيم غوركي , الذي كتب ما معناه , ان التفاهة في المجتمع هي العدو الاكبر لابداع تشيخوف .
قصة تشيخوف ( التي تقع بصفحتين ! ) ترسم لنا التفاهة فعلا , وتجعلنا نضحك عليها , والضحك هو شجب للتفاهة , قصة تشيخوف تجعلنا (نضحك!) على التفاهة , وتجعلنا في نفس الوقت ( نلطم !) ايضا , لان التفاهة موجودة في حياتنا اليومية ……