من اصعب اللحظات التي يعيشها الانسان تلك اللحظات التي يشعر فيها المرء ان كل احلامه قد تلاشت في الفضاء بكلمة واحدة يتفوه بها شاب لازال في ربيع العمر الى رجل مسن قد وصل الى سنوات السفر الى العالم الاخر ..او صار على قائمة الانتظار للرحيل في اي لحظة تمر عليه. شاب يشغل مقعد متواضع في القاعة رقم – 36 – القاعة التي تتوسط – ساحة الوثبة – التابعة لهيئة التقاعد الوطنية في قلب العاصمة بغداد . سحبتُ خطواتي المتثاقلة لأصل مع الوافدين في ساعات الصباح الاولى بوابة البناية الشاهقة في ساحة الوثبة انتظر مع كبار السن اللحظات الاولى لفتح الباب الحديدي الضخم – حيث يقف خلفه شرطي يشعر بالملل لهذا العمل الروتيني كل صباح. كان جميع الوافدين بعمري او اكبر مني بقليل – يتدافعون كأطفال يريدين الدخول الى صفهم في مدرسة ابتدائية في قرية بعيدة على ضفاف الفرات – كما كنت افعل مع زملائي الصغار قبل اكثر من خمسين عاما- حيث مدرسة اليرموك الابتدائية في حامية المسيب عام 1966. لا اعرف لماذا تواردت الى ذهني تلك الخاطرات او الخواطر وانا اشاهد بوضوح تلك الاجساد الذابلة تتدافع للوصول الى داخل البناية. شعرتُ بالقرف من كل شيء في تلك اللحظة – القرف من عدم مراعاة قواعد النظام او الانتظام ..القرف من كل هذه المعاناة في بلد كان من المفروض ان يكون جنة الله على هذه الارض بكل ماتعنيه هذه العبارة من معنى. صاح رجل مسن يقف بقربي وكأنه يحمل كل هموم العالم على كتفه ” ستدخلون كلكم ..وستصلون الى النوافذ التي ستقفون عندها كل ساعات النهار ..
وستعودون الى بيوتكم منهكي القوى تلفكم كل علامات الحزن والبؤس والشقاء دون ان تحققوا اي شيء كنتم قد حضرتم من اجله ” . ارعبتني تلك الكلمات بصدق ..تراجعت الى الوراء وقررت مع نفسي ان ادخل آخر شخص الى تلك البناية حيث – توجد تحت سقفها ملايين الحكايات التي تجعل كل من يسمعها لاينام الليل دهرا من الزمن. دخل الجميع وبقيت وحيدا انظر الى الطرف الاخر من ساحة الوثبة . صاح الشرطي ” الا تدخل حضرتك ياعم..ام غيرت رأيك….” . كانت انفاسي تتلاحق بشدة وانا اتسلق الطوابق الثلاثة .. طريق طويل كـأنه طريق بغداد – البصرة في الثمانينات حينما كنت التحق الى وحدتي العسكرية في زمن كان قد سحق كل سنوات شبابي وشباب الاف البؤساء على شاكلتي…والنتيجة هذه المعاناة ..لحظات خلتها ان الزمن قد توقف وان حركة الحياة لم يعد لها وجود. في تلك اللحظة شعرت بصدق ان الانسان العراقي ليس له قيمة في هذه الحياة – واقصد البؤساء على شاكلتي – فالأغنياء ليس لهم علاقة بقانون حياتنا نحن الفقراء. ادركتُ في تلك اللحظة ان كل حركات التحرير في العالم وكل اهداف الأحزاب في العالم وكل الذين يدعون انهم مناضلين من اجل حقوق الطبقات المسحوقة هي مجرد اوهام يسخرون بها من الاخرين ويتخذونها هزوا للوصول الى الدرجات العليا في الحكم ومن بعد ذلك ينسون او يتناسون كل شيء ويشرعون في بناء امبراطورياتهم المالية وسحقا للبؤساء على شاكلتي. معادلة مخزية لاتجلب الا العار والخذلان للشعوب في كل العالم. الحمد لله لم يكن هناك اشخاص كثيرون في القاعة 36- قسم الرجال – وهذه ظاهرة جميلة اشاهدها لأول مرة منذ سنوات . كانت القاعة تخص الرجال فقط وهناك قاعة اخرى تحمل نفس الرقم مخصصة للنساء فقط. كانت هناك مقاعد جديدة يجلس عليها عدد قليل نسبيا وشاهدت جهاز تبريد – واووو – اي نعمة هذه التي يعيشها المتقاعد ..حقا ان هذا لشيء عجيب. تقدمتُ نحو الموظف الشاب – ربما اصغر من ولدي الكبير- وشرحت له قضيتي التي جئت من اجلها …القضية التي كانت تراود احلامي وآمالي ثلاث سنوات او ربما اكثر بقليل. سنوات خلتها لن تنتهي ابداً . وجاء اليوم الموعود لأتلقى ضربة قصمت ظهري – معنويا – ومزقت كل لحظة من لحظات الاحلام التي كنت اعيشها – حرفيا – في سنوات الانتظار الثلاثة . حينما شاهد الموظف الشاب حيرتي نظر نحوي بطريقة كأنه ينظر الى مخلوق جماد لاينتمي الى صفة البشر وراح يتحدث بطريقة ميكانيكية وكأنه يطلق رصاصة الى قلبي مع كل كلمة يتفوه بها ” …اسمع ياعم..لايوجود هناك استقطاع من راتبك..انتهى الاستقطاع منذ شهرين.. انت طلبت اضافة الخدمة العسكرية قبل ثلاث سنوات.. قطعنا ثلاثة ملايين من راتبك كل شهر ثمانون الف دينارا .. اصبحت خدمتك التقاعدية 31 سنة وثمانية شهور.. لاتوجد اي اضافة على الراتب..الاضافة على سنوات الخدمة وليس الراتب.. انتهى الامر ….اللي بعده ” . لم اتحرك من مكاني ..لم ادع اي شخص يقترب مني .. كانت نبضات قلبي ترتفع وتهبط بطريقة كمن يريد الصعود الى حبل المشنقة او ينتظر طلقة الرحمة عليه في ساحات الموت عند الروابي البعيدة. هكذا..بهذه البساطة. قلت بصوت مضطرب ..هكذا..ولماذا اردت انا اضافة الخدمة ؟؟ الم اكن احلم بزيادة قليلة على الراتب التقاعدي ولماذا قبلت دفع هذه الثلاثة ملايين …لو كنت وفرتها الان منذ ذلك الوقت لأشتريت الان – ستوتة ..او فتحت دكانا صغيرا من البيت….” ابتسم الشاب بطريقة تهكمية واشار الى ان هذا هو القانون وليس له دخل في ذلك. لايمكن اضافة اي شيء على رواتب الحد الادنى ولايمكن اضافة الشهادة الجامعية او الزوجية…” انتهى الامر الذي فيه تستفتون….افسح المجال الى الاخرين ” .
تراجعت الى الوراء لأنني شعرت انني اتحدث مع صخرة والصخرة لاتفهم معاناة الروح والقانون احيانا لايصب في شيء اسمه المنطق بكل ماتعنيه العبارة من معنى . نصحني بمقابلة
مقابلة استاذ
المدير العام الاستاذ – اياد – وشرح له ما اريد ان اشرحه هنا لان الكلام هنا لايصب في اي فائدة مهما حاولت ان اتحدث عن الموضوع . لا اعرف هل ساذهب لمقابلة الاستاذ اياد كمدير عام ام كأنسان اشرح له معاناة انسان لايفهم كيف حدث هذا له في غفلة من الزمن كما حدثت اشياء اخرى مأساوية ضمن مسيرة الحياة التي امتدت منذ يوم الولادة حتى هذه اللحظة. سحبت اقدامي هابطا الطوابق الثلاثة وانا لا اشعر بحركة اي انسان ذكر او انثى يمر قربي ..توجهت الى مقهى قريب في الطرف الاخر من ساحة الوثبة وجلست في ركن من اركانها وطلبت قدحا صغيرا من الشاي . كانت البناية الشاهقة التي تضم القاعة 36 امامي واضحة. وضعت – سماعة اذن صغيرة ربطتها في هاتفي الذكي ورحت استمع الى موسيقى حزينة اكثر حزنا مني..بلا تردد اخرجت دفتري وقلمي ورحت اكتب بلا وعي وانا انظر الى البناية الشاهقة كأنها الجهة المسؤولة عن كل حزني هذا الذي اعيش فيه الان ……” هل سيموت الليل قريبا ..ام ستظل حشرجات الروح تصارع كل قوانين الحياة …بئر مهجور ..وغصن مبتور..وآثار لم يعد لها بقايا… داستها اقدام الطيور.. حولي تاريخ اعمى ورياح بلا امطار وثورة لم يعد لها الا اسماء مرسومة على جدران ساحة التحرير تسخر من المارة …تئن كأسطورة.. سكين يغمد في قلبي ودم يقطر من صورة ..سيارات النجدة وباصات ساحة النصر واصوات الباعة تهرب من حولي مذعورة..هل حظي نصيب غراب ام سراب سحاب ..اشعر ان روحي مقبورة تبحث عن سر مدفون في صورة …هل سيهدأ صدري ام يسكن في ظلام قبري ..الرقم 36 يرش على جرحي ملحا احمر ..لا …لا يغمد في روحي خنجرا مكسورا ينشد دمي الاحمر..آه..حتى الافاعي تهرب مذعورة…تخاف ان تتفجر..هل سيحل عليَّ الفجر من جديد وافرح كما يفرح الاطفال في العيد….ام ستموت الروح كما يموت الظلام في الوادي البعيد…يا ضحايانا ويا قتلانا ويا ساحة التحرير الذبيحة …. يا احلامنا الفسيحة ويا مدننا الجريحة …هل هناك امل ينثال منه النور ام سنظل نرقد في سباتنا نتلظى بسعير الحزن ومرارة التنور …” . شعرت بالأختناق حقا وخرجت الى الشارع المزدحم ابحث عن اي سيارة اجرة تلقفني الى البيت هناك حيث ادفن روحي واسبح في دموعي بلا سبب بلا حاجة للمواساة . صاح سائق اجرة يقف بالقرب من المقهى ” تروح ….. وين تروح ” ؟؟ نظرت اليه مليا لا اعرف ماذا اقول ..وفي لحظة لا اعرف كيف حدثت قلت له ” اذهب الى عالم ينشد الضياع ..ينشد مكانا ليس فيه فسحة ليس فيه بشراً ولا قواعداً للمرور..اريد ان اسافر الى مكان ليس فيه اي علامة من علامات التحضر ..فالحضارة صارت مرتعا لأحزانٍ ليس لها قرار ” …نظر نحوي بتعجب وقال ” هل انت شاعر …؟؟ نظرت اليه بطريقة لا اعرف هل هي تهكم ام استرحام وقلت هل تعرف معنى كلمة شاعر ؟ ضحك وقال بصوت جميل ” …من هنا من سجني الكئيب في المدينة البعيدة ..اكتب اليك حبيبتي الحزينة ..الليل حولي موحش غريب تشربه مقابر المدينة والريح تصفع الجدار وتسرق الصدى وتاكل البذار وتشرب النهر …وراء سور السجن في مدينة الغجر وتحصد النجوم وتزرع الغيوم في سمائنا الصغيرة وتدفن القمر…..وانتِ ياحبيبتي في عشنا وحيدة تحكين للصغار حكاية جديدة عن عربي مسافر بلا هوية بلا وداع هو رقم ضائع في زحمة المدينة البعيدة مدينة الاسوار والسجون – وساحة الوثبة المستديرة ” صُعقت من كلامه واحتضنته بكل قوة …قال أنا احفظ الشعر والكلام الجميل . دون ان يكمل اعطيته مبلغا يكفي لنقلي الى مدينتي برفاهية واندفعت مبتعدا عنه لا اريد ان اسمع كلاما اخر..شعرت بالضآلة امام كلماته . ركض خلفي ومنحني كارت صغير وهو يقول ” هذا رقمي وعنواني ” . وضعت الكارت في جيبي دون ان اتفوه بكلمة. وانا في سيارة الباص متجها الى ساحة النصر اخرجت الكارت فقرأت ” فلا الفلان كاتب وشاعر يسكن المنطقة الفلانية ” . شعرت بالحزن والفرح لأسباب لا اعرف ماهي . واصلت طريقي الى البيت دون ان اشعر بأي شخص حولي…….كانت لحظات لاتنسى وحلم تمزق على جدار الانتظار.