العرب اكتشفوا أن التهديد الإيراني حل محل التهديد السوفياتي او الفرنسي او الايطالي
ساهمت إيران في إنهاء عزلة إسرائيل في العالم العربي وقربها من الدول الإسلامية، رغم أن المرشد الإيراني، علي خامنئي، قد لا يرغب في الاعتراف بهذه الحقيقة.
ويكتب دوغلاس بلومفيلد، الذي عمل لتسع سنوات كمدير تشريعي ورئيس جماعات الضغط في لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية، في صحيفة جورزليوم بوست، أن رغبة طهران في تدمير ما تسميه “النظام الصهيوني الإجرامي”، ونشر ثورتها الشيعية عبر الإطاحة بدول الخليج السنية، أعطت معنى للمثل القديم “عدو عدوي صديقي“.
ويشير الكاتب إلى أن الأنظمة العربية السنية اكتشف منذ مدة طويلة أن الإسلاميين يشكلون تهديدا أكبر من الصهاينة.
ووفق الكاتب، فإن الأحداث في 2020 ساهمت في خروج العلاقات الدبلوماسية والأمنية والتجارية الطويلة الأمد من سريتها إلى العلن.
ويقول الكاتب إن وزير خارجية الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، ألكسندر هيغ، كان من بين أول من دعا إلى تحالف عسكري بين إسرائيل ودول الخليج العربية.
وأوضح أن هيغ كان متبصرا حينها، إذ سرعان ما حل التهديد الإيراني محل التهديد السوفياتي، وهو ما جذب الاهتمام العربي.
واتجه جيران إيران السنّة إلى التحالف مع إسرائيل، وهي قوة عظمى إقليمية تملك أسلحة نووية، وتتوفر على استخبارات قوية أثبتت جدارتها من خلال التسلل إلى داخل إيران قبل عامين وسرقة كنز من وثائقها النووية، وفق الكاتب.
وخلص بلومفيلد إلى أن الإيرانيين كانوا وراء السلام بين العرب والإسرائيليين، وعليهم الآن أن يتعلموا إصلاح علاقاتهم مع إدارة أميركية جديدة، ورغم أن لا أحد يتوقع السلام، يضيف الكاتب، إلا أن الاستقرار سيكون في صالح الجميع.
يذكر أن إيران ردت على مقتل عالمها النووي، محسن فخري زاده، يوم الجمعة الماضي، شرقي طهران، بسنّ قانون لتعزيز تخصيب اليورانيوم إلى مستويات أقرب إلى الوقود المستخدم في صنع الأسلحة، وتعليق عمليات التفتيش التابعة للأمم المتحدة، في حال لم تسحب واشنطن عقوباتها في أوائل فبراير 2021.
أخرجت النخبة الدينية والعسكرية في إيران ما في جعبتها من خطب رنانة اعتراضا على الاتفاق المفاجئ بين الإمارات وإسرائيل، خصم طهران اللدود، لتطبيع العلاقات.
محتجون يحرقون علما أمريكيا وأخر اسرائيليا أمام سفارة الامارات احتجاجا على تطبيع العلاقات مع اسرائيل في طهران يوم 15 أغسطس آب 2020. (صورة لرويترز من وكالة أنبا غرب آسيا).
لكن الأمر جعجعة بلا طحين على ما يبدو.
فقد وجهت السلطات الإيرانية انتقادات شديدة للاتفاق الذي أُعلن عنه الأسبوع الماضي وتوسطت فيه الولايات المتحدة، وحذر بعض المسؤولين الإيرانيين من أن الإمارات وإسرائيل بتودد كل منهما إلى الأخرى تخاطران بانفجار الوضع في الشرق الأوسط. وأطلق آخرون تهديدات مستترة ضد دول الخليج العربية.
لكن ذلك كل شيء حتى الآن. فلم تستدع طهران القائم بأعمالها في الإمارات أو تقطع العلاقات معها، مثلما فعلت بعض الدول الأخرى.
وقال مسؤول كبير قريب من كبار صانعي القرارات في إيران “دائما ما تفضل القيادة الإيرانية السلام وليس التوتر، خاصة مع جيرانها”.
وقال “نتصرف دائما على أساس مصالح إيران الوطنية. لن تتخذ طهران أي إجراء عدائي ما دامت مصالحها لم تتعرض للخطر”.
وفي ظل وجود علاقات تجارية مع إيران ترجع إلى أكثر من قرن من الزمان، تمثل دبي، التي لا تبعد عن الجمهورية الإسلامية سوى 150 كيلومترا فقط عبر الخليج، إحدى بوابات إيران الرئيسية إلى العالم الخارجي.
وقال محللون إن طهران لا يمكنها تحمل أن تخسر دبي كطريق للتجارة، خاصة بعد أن قلصت العقوبات الأمريكية بشدة صادراتها النفطية وتسببت في مزيد من التعقيد لتجارتها الدولية.
وقال المحلل سعيد ليلاز الذي يعمل من طهران “لن يقطع قادة إيران أبدا فرع الشجرة الذي يجلسون عليه” مشيرا إلى أن دبي تظل أحد أبواب إيران الرئيسية إلى العالم الخارجي.
وفي يونيو حزيران، نقلت وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الرسمية (إرنا) قول مسؤولين إيرانيين إن الإمارات، وهي الشريك التجاري الثاني لإيران بعد الصين، ستواصل التعامل مع جزء ضخم من واردات طهران وصادراتها.
وقال مسؤول إيراني آخر إن القادة الدينيين لإيران قرروا، تجنبا لزيادة عزلة بلادهم، الامتناع عن اتخاذ نهج عدواني تجاه التغير الجيوسياسي للمنطقة.
وقال المسؤول الذي طلب هو الآخر ألا ينشر اسمه بسبب حساسية الموضوع “لن تستفيد طهران من أي إجراء متسرع لأن الدول الأخرى مثل سلطنة عمان والبحرين والسعودية يمكن أن تقوم أيضا بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل.
تحتفظ إسرائيل والإمارات منذ أمد بعلاقة غير سرية تتعلق بمصالح مشتركة، لكن هذا الاتفاق يعزز المعارضة لإيران، وهي قوة إقليمية ترى الإمارات وإسرائيل والولايات المتحدة أنها تمثل تهديدا.
وقال مائير جافيدانفر المحاضر في مركز هرتزليا متعدد التخصصات بإسرائيل “إمكانية رفع العلم الإسرائيلي في الإمارات، وهي شريك تجاري في غاية الأهمية لإيران، تمثل انتكاسة كبيرة للنفوذ الإيراني في المنطقة”.
ويخشى بعض الإيرانيين العالمين ببواطن الأمور من أن يجعل ضبط النفس مع الإمارات الجمهورية الإسلامية تبدو ضعيفة أمام حلفائها السياسيين والمسلحين في المنطقة الذين وسعوا نفوذها في السنوات العشرين الماضية.
وقال مسؤول إقليمي إنه لهذا السبب، فمن غير المستبعد أن يعبر وكلاء إيران عن عدم رضاهم عن الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي بشن عمليات على نطاق محدود.
وأضاف “لا تندهش إذا شهدت حدوث تفجيرات على نطاق بسيط، قنبلة أو طائرة مُسيرة أو هجمات صاروخية، في المنطقة خلال الأسابيع المقبلة”.
وقال دبلوماسي إيراني سابق إن بعض العناصر الأكثر تشددا في الجناح المحافظ قد تنظر إلى الأمر على أنه استفزاز كون أن الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي يعني أن مصالح رسمية إسرائيلية ستتركز علنا قرب حدود إيران في الخليج.
وعلى أي حال، فمنذ الثورة الإسلامية عام 1979 تمثل المواجهة مع إسرائيل أحد ركائز سياسة إيران الخارجية. ودعا المسؤولون الإيرانيون مرارا إلى القضاء على إسرائيل.
تمثل المعارضة لإسرائيل جزءا من التماسك الذي يوحد إيران مع شبكة إقليمية من المتشددين والجماعات الحليفة التي تسهم في دفع المصالح الإيرانية، من العراق إلى لبنان واليمن إلى سوريا.
وتشعر إسرائيل بقلق خاص إزاء ما يُشتبه بأنها مساع إيرانية لتطوير أسلحة نووية، وهو ما تنفيه طهران.
لكن على الرغم من حدة الخطاب في أزمات سابقة، فإن المسؤولين الإيرانيين والإسرائيليين لم يشيروا مطلقا إلى أي اهتمام بالدخول في حرب شاملة.
ومع تعرض اقتصادها لضغط شديد بسبب العقوبات الأمريكية وأزمة فيروس كورونا، فإن حشد الوكلاء سيفرض كلفة مالية وسياسية بالغة على إيران، حيث يشعر كثير من مواطنيها بالفعل بالاستياء من الطموحات الإقليمية للمؤسسة الحاكمة.
ومع تنامي الإحباط يقول محللون إن إيران في خضم اضطرابات شعبية بسبب المظالم الاقتصادية بالبلاد. وقد أثار الوضع المتدهور للاقتصاد الإيراني احتجاجات واسعة النطاق منذ أواخر عام 2017.
يجري اليوم العمل على قدم وساق للانتقال بمسلسل التطبيع الذي بدأ إنتاجه رسميا عام 1978 بعد التوقيع على معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وأميط اللثام عن حلقات أخرى منه في أسلو ووادي عربة، للانتقال به إلى حلقات أكثر خطورة، تلعب فيها دول وقوى وازنة دورا محوريا.
وفي مقدمة هذه الدول المملكة العربية السعودية، ونظرا لما تحوزه السعودية من رمزية إسلامية عظيمة، فمن شأن ذلك أن يفتح شهية المخرجين لاستكمال عملية الإنتاج لاحقا دون تجشم عناء كبير.
كانت إيران في مربع المطبّعين قبل ثورتها عام 1979 في عهد الشاه، وبعدها انتقلت إلى المربع المناهض، ولم تكتف بالرفض الكلامي، بل اتخذت موقفا عمليا بقطع العلاقات مع مصر احتجاجا على توقيع معاهدة السلام مع الاحتلال الإسرائيلي.
وتقف ثلاثة أسباب وراء الموقف الإيراني الرافض للتطبيع مع الكيان الصهيوني، هي:
– أولا، الموقف الإيران المبدئي الإيديولوجي والسياسي من وجود إسرائيل أساسا وطبيعة الصراع الدائر في فلسطين المحتلة والقضية الفلسطينية عموما، باعتبارها قضية إسلامية مركزية. ترى طهران في التطبيع تهديدا لإيديولوجيتها الثورية الخارجية، والقضية الفلسطينية، معتبرا إياه محاولة تآمرية لتصفية القضية، كما صرّح بذلك الناطق باسم الخارجية الإيرانية وقادة إيرانيون أكثر من مرة.
من أسباب رفض إيران للتطبيع مع إسرائيل؛ موقفها المبدئي الإيديولوجي والسياسي من وجود إسرائيل، وطبيعة الصراع الدائر في فلسطين المحتلة ونظرتها للقضية الفلسطينية عموما، باعتبارها قضية إسلامية مركزية
وفي ذات السياق، أكدت طهران على لسان قائد الحرس الثوري الجنرال محمد علي جعفري أن قرار دونالد ترمب القاضي بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني يستهدف تدمير المسجد الأقصى المبارك وإنهاء القضية الفلسطينية. وفي معرض تناوله عملية التطبيع، اتهم الرياض بالمشاركة الفعلية في الإجراء الأميركي ضد القدس، بقوله: “نحن على علم أن هذا القرار كان نتيجة مداولات وتوافقات وتنسيقات وراء الكواليس مع دول عربية، خاصة السعودية، وهم كانوا مطلعين على القرار قبل عدة أشهر.”
– ثانيا، مخاطر التطبيع على الأمن القومي الإيراني، تثير قلاقل لدى الإيرانيين، حيث من شأن أي تقارب خليجي إسرائيلي أن يسمح بوصول الكيان الإسرائيلي إلى الحدود الإيرانية الجنوبية، بعد اقترابها في الشمال بسبب العلاقات الوطيدة بين باكو وتل أبيب. هذا القلق كان حاضرا أيضا في الحسابات الإيرانية عندما تبنت موقفا رافضا قاطعا من استفتاء إقليم كردستان العراق، والعمل على إفشاله.
– ثالثا، آثار التطبيع على التوازنات الإقليمية، حيث ترى طهران في ذلك محاولة أميركية إقليمية لتغيير موازين القوة في المنطقة ضدها، لاسيما في ظل التصعيد الكلامي الأميركي، وتعاظم احتمالات ترجمته عمليا على ضوء الإسترتيجية التي أعلنها الرئيس دونالد ترمب في مواجهة إيران في الثاني عشر من أكتوبر/تشرين أول الماضي، وخاصة في مرحلة ما بعد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
هنا يجدر القول إنه بالرغم من محاولات البعض التسويق للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي عبر توظيفه في الصراع مع إيران، وتبرير الاحتماء بهذا الكيان سعيا لدرء خطر يقولون إنه الأكبر، فإن قليلا من التمعن والدراية، يكشف أن التطبيع ثمن، فرضته إسرائيل على السعودية مقابل نجاح وساطتها لدى الولايات المتحدة في إقناع الإدارة الأميركية بولي العهد الحالي كخليفة لوالده، وتغييب الأمير محمد بن نايف، الذي ظل الخيار المفضل لدى الأميركيين حتى آخر عهد أوباما. لذلك فإن التطبيع ليس لمواجهة إيران كما يقال، وإنما العكس صحيح، إذ يتم استغلال الصراع معها لأجل التطبيع وتمريره.
على مدى العقود السبعة الغابرة كانت ومازالت القضية الفلسطينية خافضة رافعة؛ تترتب على طبيعة الموقف منها، نتائج مختلفة ربحا أو خسارة، بقدر الدُنُوّ منها أو البعد عنها. هذا هو الحال من أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى يومنا هذا. وعليه، فإن إيران وحليفها حزب الله اللبناني حصدوا نفوذا ناعما بين الشعوب العربية والإسلامية بفضل موقفهم المتقدم من القضية الفلسطينية، إلا أنهم خسروا جزءا كبيرا من هذا الرصيد بسبب الموقف من أحداث سوريا بعد أن وصلت إليها شرارة الربيع العربي.
وفي حال نجحت عملية التطبيع وتوجت بعلاقات رسمية تحالفية، فهي بقدر ما يمكن أن تضع إيران في طابور المستهدفين المتضررين إلى جانب القوى المقاومة والدول التي تناصر الشعب الفلسطيني في نيل حقوقها، ولو على قدر دعم تشكيل دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، تأتي بمنافع ومكاسب كانت غائبة عن الحسابات الإيرانية تماما، وأصبحت تحصيل حاصل لإيران، دون قصد أو عناء.
أهم تلك المكاسب هي: أولا، أن التطبيع يفقد المطبعين ما بقي لهم من رصيد شعبي، وفي المقابل يعيد لإيران جزءا مما فقدته من رصيدها في العالمين العربي والإسلامي خلال السنوات الماضية، أما عملية استرجاع الرصيد بالكامل فستأخذ وقتا طويلا بسبب عمق الجرح والشرخ.
التطبيع يفقد المطبعين ما بقي لهم من رصيد شعبي، وفي المقابل يعيد لإيران جزءا مما فقدته من رصيدها في العالمين العربي والإسلامي خلال السنوات الماضية، أما عملية استرجاع رصيدها بالكامل فستأخذ وقتا طويلا بسبب عمق الجرح والشرخ
وفي هذا السياق، ليس غريبا أن يؤكد وزير الخارجية الإيراني على عروبة القدس، أو أن يشترط الرئيس روحاني قطع السعودية علاقاتها مع اسرائيل لتحسين العلاقات معها، لإحراجها أكثر أمام الرأي العالم العربي والإسلامي، ووضعها في موقف لا تحسد عليه.
– ثانيا، يخدم التطبيع نظرة إيران لأسباب أحداث المنطقة منذ 2011، باعتبارها مؤامرة للصهيونية وحلفائها ضد ما يعرف بمحور المقاومة والممانعة، الذي تقول طهران إن قبلته وهدفه تحرير فلسطين.
هذه الرواية لم تلق قبولا لدى غالبية شعوب المنطقة، باستثناء المؤيدين للمحور. أما اليوم فإن التطبيع وخاصة ما تعلق منه بالتقارب السعودي الإسرائيلي فيسوّق لهذه الرواية، ويحقق لإيران ما عجزت عنه.
– ثالثا، انهيار صناعة “العدو البديل” التي استهدفت استبدال إسرائيل كعدو بإيران. تبين وقائع اليوم أن هذه السياسة وظفت وصنعت من الصراع مع إيران مادة دسمة وشماعة لتحقيق مآرب، لا علاقة لها -في الدرجة الأولى- بالخلافات معها في سوريا أو ساحات أخرى، لا من قريب ولا من بعيد، وإنما هي أغراض إسرائيلية وأميركية، ليست بالضرورة أن تتفق مع أهداف المحور السعودي المعلنة. ما حصل بعد سقوط القناع وانكشاف المستور، أن هذا المحور بسياساته ومغازلته للكيان الإسرائيلي، أبطل مفعول هذه الشماعة من جهة، ثم وضع نفسه في موقف العداء للشعوب وقضاياها العادلة، الموقف الذي حاولوا وضع إيران فيه.
– رابعا، تعزيز قوة إيران في المنطقة في ظل استمرار سياسات أوباما الشرق أوسطية في عهد ترمب، ولو اختلفت اللغة والمفردات، لكن المضمون والنتيجة واحدة إلى اليوم، وذلك بالرغم من الإستراتيجية التي أعلنتها الإدارة الجديدة.
اليوم بقدر ما تحصد طهران المكاسب من نقاط ضعف السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، يجني مناهضوها مزيدا من الفشل والإخفاق، بأخطائهم الجسيمة التي قال الأمين العام لحزب الله اللبناني في أكتوبر/تشرين أول الماضي إنها ساعدت في تعاظم نفوذ إيران في المنطقة، ثم بإقحام هذه الدول أنفسها في مستنقعات، كالتطبيع. وهذا أمر طبيعي جدا، فمن يزرع الشوك لا يحصد عنبا.
– خامسا، عملية التطبيع التي تستهدف بالدرجة الأولى الفلسطينيين وقضيتهم ومقاومتهم، سوف تحقق تقاربا غير مسبوق بين طهران وحركات المقاومة الفلسطينية، وبالذات مع كبراها أي حركة حماس التي تشعر اليوم أن محور “الاعتدال” العربي يتجاوز اليوم كافة الخطوط الحمراء، ولا يجوز الصمت على سلوكه وسياساته. انطلاقا من ذلك، خرجت الحركة عن خط الحياد المألوف في 19 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي لأول مرة، ولم تتردد في رفض تصنيف حزب الله حركة إرهابية في بيان وزراء الخارجية العرب، لأنها استشعرت بخطورة الوضع، وهي بالدرجة الأولى دافعت عن نفسها قبل غيرها.
اليوم بنفس وتيرة اقتراب دول عربية من إسرائيل، تدنو إيران إلى فصائل المقاومة الفلسطينية أكثر من ذي قبل. ظهر ذلك جليا في الاتصال الهاتفي للجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس بقادة كتائب الشهيد عزالدين القسام وسرايا القدس، في خطوة غير مسبوقة وذات دلالات متعددة، أقلها أنها المرة الأولى التي يتم الإعلان عن مثل هذه الاتصالات. أراد سليماني إيصال رسائل عدة في كل حد وصوب من خلال ذلك، للإسرائيليين، والسعوديين والأميركيين مجتمعين أو منفردين.
– سادسا، تبدّل الاصطفافات خلال المرحلة المقبلة لصالح إيران، وعلى الأغلب ستكون على أساس الموقف من العدو والتطبيع معها، وليس على الأسس الطائفية والإثنية التي بدأت تتراجع إلى حد ما.
حينئذ سيكون المطبعون في جبهة، والمناهضون في جبهة معادية. ثمة مؤشرات ترجح وقوع ذلك خلال الفترة القادمة، لكن ليس في القريب العاجل.
ميزان الربح والخسارة في موضوع التطبيع يخضع لاعتبارات متعددة، منها مدى قدرة المحور الإيراني وبقية معارضي التطبيع من الدول والحركات والشعوب على تجاوز عقبة تراكمات السنوات الأخيرة، ورص الصفوف، وتصويب المسار
وحين يحدث ذلك ستتبدل المحاور الإقليمية التي اهتزت بفعل الأزمة الخليجية، وليس مستبعدا أن تقف دول وقوى وجماعات كانت على خلاف شديد مع إيران طوال السنوات الماضية في جبهة موحدة. كما أن التقارب النسبي الذي أوجدته الأزمة الخليجية بين قطر وتركيا مع إيران سيقوى، متجاوزا السقف الحالي. في المقابل، سيصبح المحور السعودي أسيرا أكثر من ذي قبل للعبة توزيع الأدوار لمراكز صنع القرار الأميركي، منها جهات تضغط كالخارجية الأميركية مثلا في الملف اليمني، وأخرى “تحلب” كالبيت الأبيض من خلال ترمب نفسه.
الخلاصة أن التطبيع يكسر كل المحرمات والمحظورات دينيا، وسياسيا، وتاريخيا، وأنه رغم مخاطره على أمن إيران القومي ومشروعها الإقليمي، وخاصة على المدى البعيد، يتيح لها في الوقت نفسه، فرصا ستوظفها في خدمة سياساتها، وحصد ما يفقده المطبعون من أوراق، ونفوذ ورصيد. فلو بذلت إيران جهودا جبارة إعلاميا وسياسيا وثقافيا في الكشف عن حقيقة توجهات الدول الراكضة نحو التطبيع مع إسرائيل، ربما كانت لها نتائج عكسية في ظل التناحر الإقليمي، لكن ذلك أصبح محققا اليوم، بفعل سياسات تلك الدول نفسها، ولا تحتاج طهران لتكلف عناء ذلك ولا لصرف الجهد والمال والوقت في سبيل تحقيقه.
ربما لابد من القول إن هذه الحماسة غير الاعتيادية والنشوة بالانتصارات التي وصفها القائد العام للحرس الثوري الجنرال محمد علي جعفري بالباهرة قبل أيام، قد تولّد حسابات خاطئة لدى إيران، ترتد عليها سلبا، في ظل سيولة الأحداث والتطورات، وغموض وجهتها النهائية.
إلى ذلك، يفترض أن تحدث عملية التطبيع تحولات جيوسياسية في المنطقة لاحقا، تطيح بما هو قائم اليوم، وعليه فمن المحتمل تغيّر مواقع الرابحين والخاسرين.
بالمجمل، فإن ميزان الربح والخسارة يخضع لاعتبارات متعددة، منها مدى قدرة المحور الإيراني وبقية معارضي التطبيع من الدول والحركات والشعوب على تجاوز عقبة تراكمات السنوات الأخيرة، ورص الصفوف، وتصويب المسار. هذه الجبهة مسنودة بقوة الشعوب، بينما لا يملك الطرف الآخر عنصر القوة هذه، مع ذلك لا يمكن إغفال قدراته وإمكانياته الهائلة.
وأخيرا، لعل الإجابة على سؤال محوري تساعدنا في استشراف المستقبل بشكل أكثر دقة، وهو أنه هل الضعف الأميركي في المنطقة، أمر مقصود نابع من رؤية وإستراتيجية، أم أنه نتيجة طبيعية لانحسار القوة، ففي حال كان مقصودا، على الأغلب فإن السياسة الإيرانية ستواجه تحديات جساما خلال المرحلة المقبلة في الحفاظ على مكاسبها الإقليمية، أما إذا كان الضعف سببه تراجع قوة واشنطن، فستحقق إيران جميع أهداف ثورتها في مستقبل ليس ببعيد كما أكد ذلك قائدها آية الله الخامنئي.