لابد ان يلمس الكثيرين نبرة “تشفي” أو “شماتة” جراء تصاعد الهجمات في العراق، وهذه النظرة ليست نوعا من القفز إلى استنتاجات وهمية بل تبدو ظاهرة في “صياغة” عناوين الصحف ونشرات التلفزة، وتستطيع أن تلمحها بسهولة من دون حاجة إلى تحليل مضمون أو البحث في دلالات الكلمات والمعاني المستخدمة. ونحن بطبيعة الحال لسنا بصدد الدفاع عن موقف قوات التحالف أو الحديث عن “مشروعية” وجودها في العراق من عدمه لأن هذه المسألة تمت معالجتها على بساط البحث في مجلس الأمن الدولي، ولكن ما يهمنا بالدرجة الأولى هو مصير العراق والعراقيين، فالعمليات الأخيرة قد أسقطت عشرات المواطنين العراقيين الأبرياء، وكأن العراقيين كتب عليهم أن يدفعوا ضريبة الديكتاتورية والاستبداد في عهد صدام ثم عادوا اليوم ليدفعوا ضريبة طموحات فئة باغية لا تريد للعراق استقرارا وتبحث عن “ميدان جهاد” وهمي ضد الولايات المتحدة ومصالحها وجنودها. والأدهى من ذلك أن هذه الفئة الباغية تسيء إلى الدين الإسلامي وسماحته حين ترفع شعار “القتل للقتل” وتعلن شهر رمضان المبارك شهرا للاغتيالات وقتل نفوس بريئة لا ناقة لها ولا جمل في عمليات “تصفية الحسابات السياسية” وليست لها أيضا علاقة بـ “زواج المصالح” المشين بين “البعثيين” والعناصر المتطرفة. والأخطر من ذلك حين تكرر بعض وسائل الإعلام والمحللون العرب خطأهم ويراهنون مجددا على دور ما يصفونه بالمقاومة العراقية في إفشال “المشروع الأمريكي بالمنطقة” أي أن نخبنا الثقافية ارتضت أن تحارب بسيف غيرها وارتضت أن يدفع الشعب العراقي “فاتورة” أوهامها وهواجسها.
وإذا كانت أصابع اللوم توجّه عقب كل عملية تخريبية في العراق إلى فشل الولايات المتحدة في تحقيق الأمن والاستقرار، وإذا كان البعض يرى أنه على واشنطن ألا تلوم إلا نفسها، فإن الواجب والضمير يحتمّان على الجميع تفادي تكرار ظلاميات التحليل السياسي والعسكري قبيل حرب العراق وبعدها، وعدم إبقاء العراق “رهينة” للخصام والعداء السياسي أو الأيديولوجي مع الولايات المتحدة، خصوصا أن إدارة الرئيس بوش باتت أكثر تصميما من ذي قبل على المضي في خططها بشأن إعادة الإعمار، فالتخريب لن يجبر الولايات المتحدة على سحب قواتها من العراق رغم الحرج الداخلي الذي تواجهه إدارة بوش، ومن يراهن على ما يصفه بالمقاومة العراقية ويرى فيها -كما يتردد- “خط الدفاع الأول عن النظام السياسي العربي” يبدو واهما.
نون”… حرف واحدة تكفي فاتحة للخراب الاكبر في العراق”||||||ليست “نونا” كسابقاتها، لاتشبه “نون” النسوة مثلا، ولا النون في اية كلمة عربية، “نون” اخرى مختلفة لم يفكر بها مخترع الهجاء العربي، بالضبط لم يفكر بان تكون لها وظيفة اخرى غير ما شاع منها في كلام العرب ومن نطق بلغتهم، ولا “عنترة العبسي”، الشاعر الجاهلي الاسود، فكر باخرى واخرى عندما انشد نونيته ” ياطائر البان قد هيجت أشجاني”، وحتما لم تكن حاضرة في مطالع سور القران، كتاب الله الذي يحارب الجميع، الان ومن قبل، تحت رايته، ويدعون نصرته كانت له نونه الباهرة”نون والقلم وما يسطرون ما انت بنعمة ربك بمجنون”، فلم يخرج، قيد انملة، عن الاشارات المنتجة للتواصل الانساني، حتى الجواهري، فكر بنون ثانية، نون ارتبطت عنده، او بادق بنونيته الاكثر اسى في الشعر العراقي الحديث، بما تذكره من البلاد في منفاه المزمن، على مهل استعاد “العجوز” بلاده قطعة فقطعة، بل صورة فصورة، فتراه يستعيد “دجلة الخير” بازاء صورتها ك”ام البساتين”، حتى “الثعابين” التي يختم “الجواهري” رائعته بها تظهر في سياق ذاكرة الشاعر كعزاء متفرد، او ان شئت قل: كتذكير بمصير الشاعر الشخصي في مواجهة ثعابين البلاد، وما اكثرها، وهو العارف بها، الخبير بمواجتها، فيما تظل البلاد في نونيته، او في ذاكرته المختلطة بذاكرة بلاده هبة النهرين، تماما مثلما ان مصر هبة النيل، العراق هبة الخالدين: دجلة والفرات. في نونيته لا تظهر مدينة بعينها، بغداد مثلا، التي يشطرها دجلة شطرين، بل لا تجد للعاصمة ذكر فاعل فيها على الرغم من ان صورة دجلة كنهر رئيس، بل كايقونة اوضح ما يكون في بغداد، انما تتعمد “نون” الجواهري ان تظهر البلاد كزخم لا ينتهي من الصور المؤلفة كارشيف للغائب المفقود.
لكنها “نون” اخرى مما رسمه البرابرة على بيوت المسيحيين في الموصل، “نون” اخرى تفارق اشارات الحرف كونه “حرف الجبل” اي طرفه. والحرف ايضا هو الوجه الواحد، ومنه “ومن الناس من يعبد الله على حرف” اي على وجه واحد، وهو ان يعبد على السراء والظراء . ولا تأخذ كثيرا من تصور “الجاحظ” للغة كاشارة، وهي، كذلك، اشارة مشبعة بكراهية لافتة، خاصة ومعلبة، الاحرى ان نتحدث عن كراهية عابرة للامم والثقافات، كراهية مستوردة خصيصا مثلما يكتب على الماركات التجارية : خصيصا لنا، لبلادنا الخائبة، بلادنا المنكوبة بالقتلة الماجورين، وبالصدفة العمياء”هل هي حقا عمياء ام نحن العميان؟”، وبكثير من الحروب الطائشة التي تحدث بالمصادفة وتضع اوزارها بالمصادفة ايضا. في الانثروبولوجيا دائما من يتحدث عن انظمة القرابة وحدود المحروم والمباح، وكذلك ثمة من يبحث، بل ثمة من يفكر بالمكروه في اية ثقافة: المكروه لونا، المكروه جنسا، المكروه دينا، في القران الكريم، مثلا، هناك تشديد بالغ الصرامة على توصيف اليهود كشعب، او امة، او قبيلة مكروهة، بكلمة واحدة: اليهود كاعداء، في مقابل صورة النصراني الكتابي، النصارى المحشورون حينا في خانة المكروين، وغالبا كنصارى يجري تبريزهم كاتباع لاحقين بالنبي “عيسى بن مريم”، المسيح المسالم الطيب بعيدا عن صورة العدو المكروه،. هذه الصورة المشكلة ثقافيا عبر سرديات تشغلها، بالضرورة، فكرة الهوية وتصادماتها كانت، ولاتزال، بعيدة عن صورة المسيحي، وان انشغلت السرديات الوسطى بفكرة العدو المسيحي النصراني وابدتها، الى حين، الحروب الصليبية، لكنها ظلت جزءً من كراهية الاخر المستعرة والمتداولة حد الاسفاف في طبعات الاسلام المختلفة بعيدا عن القران وسردياته. الاخر المختلف دينيا”اليهودي اولا، والنصراني ثانيا، والصابئي حديثا، ولاحقا اثينيا”الشيعي بدرجة رئيسة، في الاقل سياسيا”، وقوميا”الكرد في العراق، بظهور الدولة الحديثة في العراق وغيره، هذا الاخر كان العدو الابرز للدولة الحديثة، او هكذا ارادت الدولة الحديثة ان توهمنا: اننا شعب واحد نملك تاريخا واحدا وذاكرة واحدة. في العراق البلاد التي ادخلت في حضيرة الاسلام” اهي صدفة ان يغيب، دائما، الارث الديني للعراق قبل الاسلام؟” نجحت سرديات الدولة الحديثة في اجراء تحويل مغر في دلالات الاخر وحدود الكراهية. تحولت دلالة الاخر من المختلف دينيا”اليهودي، والمسيحي”، والمختلف اثنيا”الشيعي” الى الاوروبي المحتل الخالي، غالبا، من البعد الديني او الاثيني، بريطانيا المحتلة للعراق كانت العدو الاول للعراقيين عامة، فيما شغلت فكرة اصلاح الدولة واعادة تاسيس المجتمع سياسيا حيزا كبيرا في سرديات الاحزاب العراقية، لاسيما اليسارية منها. اغلب الظن ان ذلك التحويل كان وراء انجازات ثقافية اجتماعية كبرى سرعت من خطى تحديث العراق كبلاد خارجة من حطام العثمنة، وجعلته، في الاقل، حتى انقلاب “1958” البلاد الاكثر طموحا لتحديث نفسها، واستعادة دورها المفقود، وسمحت، تاليا، لاعداء الامس ان يكونوا قوة ثقافية رئيسة في رسم صورة العراق الحديث، لنتامل مساهمة اليهود حتى تهجيرهم، وتاليا، المسيحيين في اخراج العراق من الصورة النمطية كبلاد تطحنها الخلافات والصراعات السائبة الى فضاءات الدولة الحديثة التي تخطط وتقترح حياة مدنية لرعاياها. لندع الشوفونيين والمغالين، طمعا وتزلفا لليهودي والمسيحي الاوروبي فيما يكتبون من تواريخ تخترقها اكاذيب شتى عن يهود ومسيحيي العراق، ولنتذكر دور الاثنين في اقتراح وترسيخ طرائق حديثة من التفكير والكتابة، بل وايجاد سبل ملائمة للحياة في العراق، والاهم انهما، وبالاخص المسيحيين، قد اصبحا النموذج المرغوب للحياة الحديثة في العراق، بل ان صعودهما الثقافي، في الاقل، قد رحل صورة “العدو” اجتماعيا وسياسيا للمحتل الاجنبي حينا، وللحكومات المتعاقبة حينا اخر.
النون المرسومة بخط احمر تستعيد بكراهية مازومة الصورة التالفة للعدو الديني، تماما مثلما حدث مع اليهود بعيد تهجيرهم الذي لم ينجح قبل ان يتحولوا الى اعداء، بل ان اسرائيل نفسها لم تنجح ان تصبح دولة الا بعد ان اقنعت اليهود انهم اعداؤنا. الان ياتي دور المسيح، عفوا النصارى بنون حمراء بلون الدم، نون مختلفة عما كان يكتب على جدران بيوت بغداد عامي”2007-2008″ باكس ترسم سريعا مع رصاصة تترك عند مدخل الدار، اللافت ان تلك الاكس لم تكن لتميز مسيحيا عن شيعيا عن سنيا، كانت تستهدف المختلف دينيا وايثنيا، لا تميز فان الجميع مستهدف، مثلما ان الجميع خلا المسيحي، بالطبع، قد اصبح عدوا للاخر. ثمة تحول في رمزية الاداة وفي الهدف كذلك. في نون النصارى هناك تاثيث رمزي للعدو، ولا ادري لماذا لا اتحدث عن رمزية الاشهار، ان تجهر بعدائك للمختلف. في تهجير شيعة الموصل والشبك جرى الامر سريعا حتى انك تفهم، بعد حين، معنى ان يفر الانسان بجلده، بينما تظهر نون النصارى ان ثمة تمهل، ثمة مهلة ، ثمة جزية، وجميعها تصنع بروية صورة مشتهاة للعدو.
نون النصارى صورة اخيرة بمشهد بانورمامي لخراب العراق الاخير، صورة جرى استبعادها مرارا في عهد البعث، انذاك مثل صعود الديكتاتور الابادة الاكثر شمولا ورعبا في تاريخ العراق الحديث، الديكتاتور الطامح لاختراع نموذجه الفذ من العرب الانقياء، عرب لم تلوثهم جاهلية اليهود ولا صنمية الشيعة. نجح الديكتاتور فيما اخفقت البلاد في حماية نفسها من الابادة، كان اليهود قد اصبحوا، بالفعل، اعداءً في المخيال السياسي العراقي الشعبي، فيما اصبح الشيعة اعداءً مؤكدين للدولة التي جرى دمجها طائفيا. فما الذي بقي من بلاد صنعتها ثقافات شتى، اقصد ماذا بامكان البلاد ان تصنعه لتمنع ابادة نفسها؟ لا شيء باسف يفطر القلب. انه الخراب الاشد فتكا، ملحمة الطوائف المرعبة، هولوكوست الاجنبي الذي ينجح في اختراع الاعداء مثلما ينجح بصناعة الخرائط والسرديات المثيرة. وسيكون علينا جميعا ان نتمثل اعداءنا جيدا، ان نجيد التحولات الممكنة، ان نلتذ بها، فما بعد العراق من امل سوى ظلام دامس سيجتاحنا جميعا، فليس اسهل من تحويل الاخر الى عدو، بل ليس هناك من مهمة اسهل من قتل العدو، الم يكتب احدهم” اعداؤنا يجب ان يكونوا أعداءنا”. بعد نون النصارى ستشهد بغداد طوفانا اخر، طوفان الحروف: ارشيف الحكايات عن الاعداء المفترضين، الممكنيين، بل المختلفين قطعا عن بعضهم. سنكون امام “شين” الشيعي والكاف الكردي و”ميم” المرتد السني. ويخطئ من يظن انه بمجنى عن الطوفان، طوفان البلاد الاخير.
قادة الشيعة و لفقدانهم ألفكر الكوني الأصيل؛ لوحدهم يتحملون مسؤولية خراب و سقوط العراق ثانية, و قد أشرنا مرارا لذلك مع الأدلة: أن السيد عمار الحكيم؛ السيد العبادي؛ و فوقهم السيد العامري؛ لوحدهم يتحمّلون مسؤولية الفوضى و الدّماء و الخراب و الفساد الذي وقع و يقع الآن و حتى في زمن السيد عادل عبد المهدي و السيد الصدر يقف متفرّجاً على التل و هو يعلم إن الساكت على الظلم ظلم (حديث عن الرسول), أما السيد المالكي فقد إنتهت مهمته بعد خسارته للشعب .. و بات بضمن الأحتياط في تشكيلة الفريق الجديدة بعد أن إستهلك آخر شعار للدّعوة بلا نتيجة حيث بقي وحيداً مع راتبه التقاعدي ألدسم و بضع مليارات هنا و هناك .. و بذلك سيفسحون المجال للبعثيين و البدو و القومجية و العربنجية ليحكموا العراق ثانية بآلحديد و النار و القبور الجماعية لكن بغطاء آخر و كما كان الوضع زمن صدام, و بما أنهم لم يعد بإمكانهم كسب ودّ الشيعة المظلومين في زمنيّن لدعمهم؛ لذلك ليس أمامهم إلا مقاومة المتظاهرين و معالجتهم لدرأ الخطر الأكبر القادم ..
معضلة العراقيين بأنهم يعيشون حالة ارتدادية مستمرّة، إذ دائماً يكون ماضيهم أفضل من حاضرهم! استحضرتُ مقولةَ العلوي وأنا أقرأ مسوّدة مشروع قانون الموازنة لعام 2021 والتي تم تسريبها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. قرأتها، رغم عدم تخصصي بالعلوم الاقتصادية والسياسات الماليّة، من منظور المقارنة بالموازنات السابقة والتي كنا نعتبرها أحد مكامن الخلل والفوضى في إدارة الدولة، وحينها شعرت بالخيبة والخذلان والخديعة من عناوين “التكنوقراط” التي عملت على إعداد مشروع الموازنة لعام 2021.
يأتي مشروع الموازنة ليكون كاشفاً عن عجز الحكومة في التفكير بحلول اقتصادية ناجعة وتعيد ثقة المواطن بها، وهذه الحكومة لم تخالف الحكومات المتعاقبة على حكم العراق بعد 2003 التي أثبتت بأن الدولة العراقية ليس لديها إدارة حقيقة لاقتصاد الدولة بالمعنى العلمي، حتّى وإن زعم رؤساء الوزراء أو وزراء المالية بأنهم من المتخصصين بالاقتصاد ومن أهم الجامعات الفرنسية والأميركية، كما نقرأ في السيرة الذاتية لرئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي ووزير المالية الحالي علي عبد الأمير علاوي.
فوظيفة الحكومات باتت محصورة بين إدارة جزء من موارد اقتصاد الدولة بطريقة بيع النفط وتوزيع وارداته كرواتب بعيداً عن رؤى أو سياسات عامة للتنمية. وفي الجانب الآخر إدارة توزيع عائدات الاقتصاد الريعي بين المافيات السياسية التي تهيمن على النظام السياسي في العراق.
أوهمنا كثيراً الدكتور علي عبد الأمير عندما قدَّم لنا نفسه بأنه يملك رؤية وصاحب مشروع إصلاحي لاقتصاد العراق، وهو الذي قدَّم مشروع “المانيفستو: خطّة للإحياء الوطني”. لكنّه وعلى الرغم من وصوله لمنصب وزير المالية من دون ترشيح حزبي، لم يغادر منطقة التنظير وسرد حكايات تراكمات الفساد والفشل، ولحدّ الآن لم يتقدّم بخطوة واحدة نحو تحقيق إيقاف الهدر في النفقات لمعالجة مشكلة الموظفين “الفضائيين” ومزدوجي الرواتب!
يعد موضوع الموازنة العامة من أهم انعكاسات فلسفة الحكومة في إدارة الموارد الاقتصادية وأهدافها في تحقيق عدالة التوزيع وصولاً إلى تحقيق التنمية. ومن هنا يأتي تعريفها في الأدبيات الاقتصادية باعتبارها: عملية توقع وإجازة لنفقات وإيرادات الدولة العامة عن فترة زمنية مقبلة (سنة واحدة) تعبّر عن أهدافها الاقتصادية والمالية وهي من جانب عملي أداة محاسبة تبيّن وتضبط الإيرادات والنفقات الخاصة بالدولة. والميزانية في أهم جوانبها هي جداول محاسبة تحتوي تقديرات مستقبلية لتوجه الدولة الاقتصادي والمالي والذي يبنى على فكرها الاقتصادي.
وفي العراق، لم يتفق الخبراء الاقتصاديون مثلما اتفقوا على وصف إعداد الموازنة في العراق بأنها تعبر عن غياب تام لفلسفة الدولة ومذهبها في إدارة الاقتصاد، ويختصر ذلك الخبير الاقتصادي في جامعة البصرة الدكتور نبيل المرسومي بتوصيفه مشروع موازنة 2012 بأنه يخلو تماماً من الفلسفة والسياسات والاستراتيجيات، وليس لها أهداف أيضاً، فهي “موازنة توزيعية لم تحدد فيها معدلات النمو الاقتصادي المستهدف ولا معدل نمو العمالة، أي الرقم المستهدف من معدل البطالة، ولا يوجد فيها تصور حول معدل الدين العام الخارجي والداخلي، ولم تخصص الموازنة الكافية لتطوير قطاعَي الزراعة والصناعة اللذان يمثلان قاطرة التنمية في أي بلد”.
ويوم بعد آخر، تُثبت لنا الحكومة وفريقها من المستشارين السياسيين والاقتصادين ابتعادهم عن المنطق العلمي والعملي في إدارة الدولة. وبدلاً من أن تكون أولياتها كسب ثقة المواطن من خلال معالجة نسبة البطالة وتوفير الخدمات، باتت تعمل على إرهاق كاهل المواطن بإجراءات فوضويّة تجمع بين سياسات متناقضة: رفع نسبة الضرائب على بعض الخدمات، وارتفاع سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار، استقطاع نسب عالية من رواتب الموظفين.
فالموازنة العامة التي يفترض أن تعبّر عن سياسات الحكومة الاقتصادية نحو الترشيد نجد بنودها تؤشر زيادة في النقاقات التشغيلية بنسبة تقارب الـ 20%! وبدلاً من أن تعمل على محاربة الفساد وهدر المال العام تخصص جداول للصرف بملايين الدولارات تحت عنوان (مصاريف الأمن والغذاء لمكتب رئيس الوزراء) و(نشر انجازات الحكومة)! أما بخصوص تعظيم الموارد، فيبدو أن الحكومة استهوتها سياسات الاقتراض الداخلي والخارجي عن طريق الدول والمؤسسات المالية الدولية!
إذاً، لا يمكن التعويل على هذه الحكومة وشخصياتها بإيقاف تراكمات الفوضى والفشل والفساد، فهي باتت عاجزة تماماً أمام مواجهة الأسباب الرئيسة لفشل وعجز الدولة في العراق إلى تعامل الطبقة السياسية وزعامتها مع السلطة باعتبارها أداة لتوزيع المغانم التي يوفرها الريع النفطي. هذه المتلازمة أنتجت لنا حكومات ضعيفة وعاجزة عن الاستجابة لمتطلبات مواطنيها، وأصبحت مهمتها مقتصرة على إدارة صفقات الفساد بين القوى التي تريد الهيمنة على الموارد والعائدات الاقتصادية. ولذلك أصبحت القوى السياسية متغوّلة على المجتمع وتعتبر مطالبته بالتوزيع العادل للثروات هو محاولة لتقليص دوائر النفوذ والهيمنة على موارد الدولة، وهذا ما يبرر مواجهتها بالعنف والتخوين لأي تحرك شعبي يطالب بالإصلاح.
والترابط يبدو وثيقاً ومتماسكاً بين فشل الدولة في العراق ونمط عمل الحكومات المتعاقبة على ديمومة الفساد من خلال إدارة الموارد الاقتصادية بما يخدم مصالح المنظومة السياسية. وإذا كان الحديث عن نشوء وظهور مافيات الفساد في فترات الانتقال السياسي يرتبط بتلك المرحلة الحرجة من تاريخ البلدان التي تشهد تغيّر أنظمة الحكم، فإن ما يحدث بالعراق يشكل نموذجاً جديداً وفريداً من نوعه، إذ لا تزال العلاقة طردية بين توسيع النفوذ السياسي وزيادة منافذ الفساد التي تموّل أحزاب السلطة والتي أخذت تتكاثر بطريقة مرعبة جداً، وتعتاش مثل الفايروسات بطريقة طفيلية على موارد اقتصاد الدولة.
إنَّ ما يشهده العراق اليوم من وضع لا يسرُّ العدو قبل الصديق لما وصل إليه من مأساة و دمار منذ غزو الاحتلال للأراضي العراقية في عام 2003 وما خلفه من دمار و هلاك جراء السياسات الانتهازية التي جاء بها المحتل و عمل بشكل كبير في تجذيرها في المجتمع العراقي لكي يضمن بقائه لأمد بعيد من خلال أدوات تعمل لصالحه و تكون عينه التي تسهر على حماية مصالحه الفئوية الضيقة فلعل أشرس احتلال تعرض له العراق هو الغزو الأمريكي و الإيراني اللذان جعل من العراق ساحة لتصفية الحسابات بينهما لكن مع مرور الأيام نجد أن الدور الأمريكي قد انحسر و بشكل تدريجي انتهى بخروجه عسكرياً من العراق عام 2012 تاركاً العراق خلفه محملاً بتبعاته الوخيمة وما رافقه من اتساع للنفوذ الفارسي في العراق و الذي ازدادت أطماعه في خيرات و مقدرات البلاد حتى بات العراق يشكل المورد المالي الأساس و سلته الغذائية الأساسية أيضا و هذا ما تجلى في زيادات الصادرات الإيرانية للعراق بحجم لم يشهد له مثيل من قبل مما أدى بالوضع الاقتصادي العراقي إلى التدهور و الانهيار بسبب غلبة تلك الصادرات على الصناعة المحلية العراقية التي غاصت الأسواق العراقية بمختلف صناعاتها هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن إيران تعرضت إلى حزمة قرارات أممية جعلتها تعيش العزلة الدولية و لسنوات طوال مما تسبب في فرض قيود الحصار عليها براً و بحراً و جواً فهنا تكمن مصيبة الشعب العراقي فقد تجاوزت إيران كل الأعراف الشرعية و القوانين الدولية و احتلت العراق مالياً من خلال سرقة خزينة الدولة و المال العام بواسطة أدواتها السياسية الفاسدة التي تعمل لصالحها و بذلك فَقَدَ العراق المليارات من وارداته المالية بسبب السرقات الإيرانية لماله العام و بذلك استطاعت إيران الارتقاء بعجلة تقدمها و ازدهارها إلى الأمام و بشكل كبير على حساب الوضع العراقي المأساوي المتدهور طبقاً للقول المأثور ( مصائب قوم عند قوم فوائد ) فكانت حكومة الملالي الأعجمية الانتهازية هي سبب ما يأنُّ منه العراق اليوم من ويلات و مآسي في كافة مفاصل الحياة و لذلك نجد أن المرجعية العراقية المتمثلة بالمرجع الصرخي الحسني قد دعت و طالبت الأُمم المتحدة و المجتمع الدولي بضرورة خروج المحتل الفارسي فوراً من العراق و ترك أبنائه ليقرروا مصيرهم بأيديهم و ليس بأيدي حكومة الملالي الفاسدة جاء ذلك في اللقاء الصحفي الذي أجرته بوابة العاصمة مع المرجع الصرخي بتاريخ 18/7/2015 و تحت عنوان (حل أزمة العراق يبدأ بإخراج إيران من اللعبة ) بقوله : ((فكل مشروع وكل معركة ستكون خاسرة ما دامت إيران في اللعبة وهي اللاعب الأكبر والأشرس فلا تبقى أي مصداقية لأن الناس جربت غدر إيران ومليشياتها فكيف تثق الناس المجردة التي لا حول لها ولا قوة كيف تثق بوعود حكومية أو أميركية وإيران موجودة )) و قد أكد الصرخي الحسني على ضرورة خروج إيران من العراق لأنه لا حل لمعضلة ما يعيشه العراقيون اليوم إلا بخروج إيران و مليشياتها الإجرامية و إلا فلا حل لكل مشاكل العراق و المنطقة برمتها و الحال سيؤول من سيء إلى أسوء قائلاً : ((إيران منذ عشرات السنين تماطل وتستخف وتضحك على المجتمع الدولي، مؤكدا أن أميركا والمجتمع الدولي في تقلبات مستمرة حتى أنهم صاروا مستعدين أو متفقين على أن يعيدوا لإيران دور الشرطي في المنطقة فإذا لم تخرج إيران من اللعبة فلا حل لمعضلة العراق والأمور ستسير من سيء إلى أسوأ .)) .