مكان الصبا في سامراء الحضارة والقوة والشموخ فقد ملامحه , وخرِّبت علاماته الفارقة , فاندرسَ الكهف الذي كان يموج بالحياة الرقراقة , الفواحة بالجمال والتفاعلات الإنسانية المتواكبة , سباحة وصيد وتأملات , وجولات على وجه الماء عند الغروب , حيث الشمس ترسم لوحاتها الفاتنة الخلابة.
وقد وصف الجواهري بعضا من روعة ذلك المشهد الساحر:
عجبي بزهو صخوره وجباله عجبي بمنحدراته وسهوله
بالماء منسابا على حصبائه بالشمس طالعة وراء تلوله
بالشاطئ الأدنى وبسطة رمله بالشاطئ الأعلى وبرد مقيله
بجماله, والبدر يملأ سنا بجلاله رهن الدجى وسدوله
بالنهر فياض الجوانب يزدهي بالمطربَين: خريره وصليله
أما منطقة القاطول فتحوّلت إلى معسكر مدجج بالصبّات الإسمنتية , والسيطرات , والأبراج , وغيرها من معوقات الحركة , والقابضات على أنفاس الحياة , وهناك من يبيح لنفسه التنقيب في بيتك ليعتقل مَن يمتلك ما لا يرغب فيه , ويجده ذريعة لمصادرة حرية الشخص أو الأشخاص في البيت , وما أكثر المغيبين من شبابها.
حركة مقيدة , وحياة مصفدة , وحرية مصادرة , وتخريب وتشويه لمعالم المنطقة , التي كانت تزهو بالبهجة والنشاط.
المقاهي , المحلات , الشوارع الجميلة المحتشدة بالناس , وتفاعلات المجتمع الطيبة النوايا والغايات , كلها ذهبت مع الريح , وكأن المنطقة تحت إحتلال يترصدها بأعين العدوان والإنتقام.
أما الشارع الذي يصل منطقة القاطول بالإمام علي الهادي , فممنوع من النشاط , هذا الشارع الذي هو قلب المدينة وشريانها الأبهر النابض بالحيوية والعراقة , تم الإستحواذ عليه , وأحيط المرقد بالخرائب الموحشة , بعد أن عاش لمئات السنين في زهو وتألق وكبرياء وجمال أخاذ.
وعندما تبحث عن ذكرياتك وأيام صباك في المدينة لا تجد ما يشير إليها , فلا الكهفُ كهفٌ ولا القاطولُ قاطولُ , وإنما أطلال ومعسكرات ووجوه غريبة محشوة بالأضاليل والأوهام.
تلك مأساة مدينة تم الإنقضاض على وجودها , وروحها ورموزها وملامحها الفارقة فتحولت إلى ركام , وكأني بإبن المعتز وهو يرثيها:
“قد أقفرت سر من رأى …فما لشيئ دوام
ماتت كما مات فيلٌ…تُسل منه العظامُ”
سامراء التي صار لايدخلها أبناؤها المولودون فيها إلا بكفيل!!
فأي زمن هذا , وأي دين ومذهب يا أمة يعقلون؟!!