لم يكن لدي الوقت لأن أفتح نوافذ عربة القطار من شدة الإزدحام حولي..لم أتمكن حتى من توديعك بتلويح يدي من النافذة.. ولكن كان كل جزء مني يودعك حتى تلك العبارات التي علقت فوق صدر كتاباتي كانت الآن وفي هذه اللحظة تتحرر من أسطري وتتطاير في الهواء كطائر حر…
هذه اللحظة ملايين الكلمات تهطل في داخلي كالسيل حتى إنني الآن أستطيع أن أكتب بعيناي تفاصيل صغيرة كتلك الورقة التي سقطت من جيب أحدهم دون أن يشعر كنكماش وجهك الذي تحاول عبثا” أن تخفيه بقبعتك…
هل يصلك هذا الهدير الكتابي الذي يعلو مع صفير القطار؟ هل يمكنك أن تتخيل تلك الكلمات التي خرجت في لحظة كأبيات شعر كتبت على عجل وهي تلتصق بجدار نفس مرتجفة؟ بماذا يشعرك النداء الأخير وعجلات عربات القطار تخطو بمهل؟ هل يشعرك كأن روح تدنو من أبواب الجسد؟ تلك اللحظة تعد بمقاس حياة…
كان علي أن أجلس بعدها على ذاك المقعد وسط هذا الجفاف الحرفي ووسط هذه الحشود التي أخذت مكانها كأحرف صفت على مشعل الورق… أأخبرك عن مقطورتي التي أنا عليها وعن السيدة ذات الوشاح الفضي التي تجلس بجانبي وكأنها تجلس في محراب معبد لا مقعد؟ أأخبرك عن وجبة طعام قدمت كان رغيف خبز ساخن تفوح منه رائحة أم ووطن لم تقوى أصابعي الملبدة بالبرد على لمسه..
لم نصل بعد إلى حدود (فينا) الطريق طويلة والغروب كمصابيح تضيئ سنابل حقول القمح لونا” ذهبي لامع أحاول أن أحتسي أبجدية اللغة في هذا الصمت إلا من صوت عجلات القطار… منذ إنطلاق القطار لم أكف عن الكتابة وكأن الأحرف تتدافع عند بوابة قلمي أحاول فقط أن ألتقط مفردة حرف سقط سهوا”…