24 ديسمبر، 2024 3:04 ص

تُرى متى صحوتُ من النوم ، فقد بِتُّ الليل ساهراً ، ونفذَ قرُّ آخر الليل الى عظامي . كان لا بُدّ من تقبل الوضع ، والاذعان للموت البطيء ، مساء امس القوا القبضَ عليّ ، واشبعتُ ضرباً : لكماً ورفساً ، وازدحمت اذناي بشتائمهم ، وأنا لم ارتكبْ جرماً استحقُ العقاب . امتهنوا كرامتي ، داسوا عليّ بالأحذية ، حتى أنّ أحدَهم مسح وجهي بكعب حذائه .  أوانئذ ٍ فقدتُ الوعي .  وذا انا وسط فضاء أخضر مُعلقٌ بصليب خشب . فقد اوثقوا يدَيّ بطرفيه ، وعنقي بعموده الأعلى ، وخاصرتي من وسطه ، وقدميّ من الأسفل . هكذا وجدتُ نفسي مصلوباً خلل هذا المدى المفتوح أشبهَ بفزّاعة ، مُنتظراً موتي البطيء . حلقي يابسٌ ، واطرافي تؤلمني . كنتُ مُحتاجاً الى حسوات ماء تُطفيء يباس حلقي وحريق جوفي . واذ اجيلُ بصري في المديات حوالي أراها ساكنة هادئة مسكونة بضياء الضحى . كان صعباً عليّ أن اتحرّك ، فصليبي مغروسٌ في الأرض كما لو كان عمود اسمنت .  ولو بقيتُ على هذه الحال حتى المساء لاختنقتُ . الهي ؛؛ كيف أفكُّ وثاقي ؟؟ بعد الظهيرة زارني طائر ، بدءاً حام حولي ، لعله استغرب وجود كائن غريب مثلي امثلُ دور الفزّاعة وسط هذا السكون المقيت المكتظ بشجيرات القثاء والطماطة والبطيخ . اختفى الطائرُ . أغلبُ الظنّ أنّه غادر ليُخبر اصحابه بالأمر . بعد أقل من ساعة اقترب مني سربٌ من الطير . حلٌقَ حولي ، ثمّ اقترب اكثر وبات رفيفُ اجنحته يحرّكُ الهواء . غادرت الطيور، ثمّ عادت بأعداد كبيرة . حطّت على مقربة مني ، أخذت تتأملني من دون أن تُلامسني . ووددتُ لو اصيح  :
–         لا أضمرُ شراً لكم ، فأنا مظلومٌ ، لم أجترحْ اثماً ، ولا آذيتُ أحداً .
 طار بعضُها بعيداً ، وظلّ البعضٌ الآخرُ يتأملني عن كثب . قلتُ مع نفسي :
–         لا ينبغي أن تخاف مني الطيور ولا القوارضُ ، فأنا مُسالمٌ .
 صمتّ ُ لحظة ً أحاولُ ان ابللَ حلقي بما تبقى فيه من لعاب . كانت الطيورُ : عصافير وغربان وهداهد تُحرّكُ رؤوسها كما لو كانت تفهمني ، وتعرف ما كنتُ أقولُ . بعد وقت عادت أعدادٌ اخرى ، اقترب غرابٌ مني ، وحطّ على كتفي ، وجاء آخرُ وقرّب منقاره من شفتيّ ولم يزل جناحاه يرفرفان .ٌ فتحتُ فمي فرمى حسوة ماء فيه . ثمّ تابعت طيورٌاخرى برشّ الماء حتى ارتويتُ .  ولم اكد استردُ انفاسي حتى ظهرت اعدادٌ من القوارض : سناجب ، جرذان ، بنات عرس . غشيني خوفٌ ، غير انّ الطيور حلقت حولي ، وتسلقتْ القوارض الصليب وتفرقت وأخذت تقضم وثاقي عند القدمين واليدين والرقبة والظهر. خلال ساعة سقطت الحبالُ ، وهويتُ على شجيرات القثاء . وقفت الطيور على الصليب والقوارض حولي ، حين اطمأنت الى وضعي بدأت تتفرقُ على مهل . الطيورُ حلقت بعيداً، والقوارضُ اختفت في ثنايا الشجيرات . كنتُ مُمدّاً على ظهري ، فوقعت يدي على قثاء طريّ قطعته ، قرّبتُه من فمي وقضمت طرفه حتي أتيت عليه كله . اذن ، عليّ الآن أن اغادر قبل أن يعود اؤلئك الجزّارون ، وان ضبطوني حرّاً طليقاً يُعيدوني الى الصليب ويشدون ثانية وثاقي ويضعون حرّاساً الى جانبي حتي اتيبس واتخشب . لكنْ ، كيف أتركُ مدينتي التي شببتُ فوق تربها وعشتُ ؟ لا ، سأعودُ الى هناك لأثبت براءتي ، غير أني في اللحظة الأخيرة غيّرتُ رأيي .فهذه المدينة الظالمون حكامها لا تناسبني . تفاقمَ فيها الشرُّ وأعدادُ الأشرار .  وقبل أن اختفي حلق فوقي طائرواقترب مني يسألني :
–         أعرفُ أنّك بريء طاهرٌ ، لكنْ خبّرني لمَ اوثقوقك وعذّبوك وأهانوك ؟
اجبته :
–         انهم ليسوا من أهلنا ، أغرابٌ حلوا بمدينتنا ،  فلا يُناسبهم أن يعيش بينهم مَنْ يتفوّقُ عليهم ، ويمتلكُ قدرات غير عادية . 
 هزّ رأسه :
–         اعرفُ ذلك ، فأنت تكادُ تطير مثلنا ، لذلك وجدناك قريباً منا .  قلتُ ، وقد لذتُ بزاوية لا يراني فيها أحدٌ :
–      ثمة أناسٌ وُهبوا قدرات فوق اوصاف البشر ، يطيرون ، يمشون فوق الماء والجمرات ، يرون ما وراء الجدران ، يخترقونها ، يخوضون في قيعان الأنهار والبحار ، يسبحون مثل كائنات الماء . بل بعضُهم يتغوّرُون في المستقبل ، ويتقهقرون الى الماضي ، ويرون ما لا يُرى بالعين .  فهل ينبغي تصفية ُ هؤلاء بدعوى أنهم وُهبوا قدرات وملكات من دون سواهم ؟ وأنا مُستطيعٌ أن افتح ذراعيّ واطيرُ وقتما اشاء .  لكنّ اؤلئك الأشرار الذين يتزعمهم رجلٌ شديد الأذى ، قامعٌ وباطش ، يُسخّرُون سلطانهم لأذية مُعارضيهم . لذلك غادر المدينة الفقراءُ والمتعلمون والموهوبون والمبدعون .
بعدئذ  شعرتُ قوة ً جسدية أعانتني على تحدّي السلطات بالمكر والدهاء حيناً ، وبقدرات لامرئية أيضاً ، واستطعت الآفلات من قمعها الدموي .وكلما نصبوا لي كميناً اكرّس دهائي وموهبتي . لكنْ ، في احدى المرّات تصيّدوني خلل شباك لامرئية من فوق ومن تحت ، فأمسكوا بي .  التمّ حولي رجالٌ ، انهالوا عليّ بالضرب طولاً وعُرضاً  ، فاغمي عليّ ، بعد وقت لا أعرف مداه صحوتُ . كان يقف قبالتي وعيناه تجدحان غيظاً وكراهية . ترامى اليّ صوتُه :
–         ستصلبُ حتى الموت ، تتخشّبُ على الصليب ، ستاكلُ لحمك الجوارحُ . لا اريدُ أن تموت بسرعة ، ينبغي أن تستمتعَ بساعات عذابك .
–         لكني لم الحقْ ضرراً بأحد ، كنتُ مخلصاً في عملي ، ولديّ سجلً نظيف .
 ردّ بلهجة ثعلبانية :
–         كنتَ تُحرّضُ طلابك علينا ، تغرسُ فيهم روح التمرّد والعصيان .
–         بل علمتهم كيف يحترمون ذواتهم ، ويدافعون عن القيم والحريّة .
عندما سمع كلمة الحرية انفجر غاضباً وبصق عليّ ، ولكمني على وجهي وصرخ :
–  ينبغي أن اقطع لسانك ، فهذه الكلمة تصيبني بالهلع والجنون ، علينا ان نحذفها من معجمات اللغة ومن التداول .  فهي تُشعلُ الحرائق ، وتُعمّقُ كراهية الناس .
–         ما عاد للشباب وجود ، فقوانينُك الجائرة دفعتهم الى الهجرة ، فمَنْ يرفعُ دعائم الحياة ؟
 ردّ بهزء ٍ :
– نعرفُ كيف نُدبّرُ امورنا .
كان ساخطاً وغاضباً  ومُتجبّراً حين تركني ، لم يخطر ببالي أني سأعيشُ بعد اليوم .  تُركتُ وحدي في زنزانة نتنة أياماً ،
ثمّ وثقوني على صليب في احدى ساحات مدينتنا . ومن حولي شرذمة ٌ من الحراس . حطّ على كتفي طائرٌ اجهش في البكاء ، ورأيتُ عينيه المخضّبتين بالدمع .  قال بهمس :
–         سأقنع معشر الطير على تحريرك ومعاقبة الظالمين .
  بعد يوم داهمت مدينتنا اسرابٌ من الطير تجيءُ آلافاً آلافاً تحملُ مناقيرُها ومخالبها الأحجار ترميها على معاقل الشرّ تُطاردهم من فجّ لفجّ ، وجعلتهم كعصف مأكول ، وثار أهلُ المدينة ، وخرج سراتُهم من مخابئهم وحملوا السلاح وقاوموا حتى تهاوى آخر جندي من جنود الشرّ ، وامسِك بالقاتل ، وشنق وسط المدينة ، جوار الصليب الذي علقتُ عليه .  واستقبلتُ بالهلاهل والزغاريد من قبل الناس .  بعدئذ ٍ خيّمَ الهدوء ، وعاشت المدينة ازهى ايامها ، حظي بأمانها البشر والطيرُ والحيوانُ . كنتُ احياناً اطلق لذراعي العنان ، افتحهما على وسعهما واطير . طرتُ فوق البقعة الخضراء حيث ما زال ينتصبُ صليبي . قال طائر :
–     لقد مضى زمنُ الفزّاعات ، فمثلما للبشر حصة في محاصيل الأرض فللطير حصة . … وقال ايضاً : سيبقى هذا الصليب رمزاً للكبرياء والشموخ .
 قلتُ :
– ان منظره ليُرعبني ، ولولا تدخلكم لبقيتُ معلقاً عليه متيبساً .
– انه شاهدٌ على بقائك .
ثمّ استغرق كلانا في الضحك ، وطرنا الى جهة مجهولة ، هو استعان بجناحيه ، وانا استعنتُ بذراعي ……