تكتسب المفردة او والجملة في العمل الادبي دورها المميز من خلال قدرتها على الايحاء بأكثر من دلالة معنوية , ولا يكون ذلك مالم يتوفر عنصر الخيال الخلاق الذي يوفر الارضية المناسبة للمتلقي للسياحة على سطح النص الادبي ليجوس تضاريسه ، ويتلقف مفاجآته .
ومن البديهي ان المفردة او المركب اللغوي في الصنعة القصصية لابد ان يتوجه بهما ليؤديا فعلا ما ، كأن يكون اثارة عواطف : الشفقة ، او العداء , او الحب , او الكره , او السخرية , او التهكم , او التعجب بإيجاز, فالقصة القصيرة ــ كما يرى الطاهر مكي ــ : ((حكاية أدبية ، قصيرة نسبيا ، ذات خطة بسيطة ، و حدث محدد، حول جانب من الحياة )) , حتى ان قدرة الكاتب قد تقاس بمدى اعلائه من شأن احد هذه الافعال او المزاوجة بينها طلبا للتنوع والاثارة , ((فهدف القصة القصيرة هو الإيجاز وينبغي أن ينظر إليها على أنها انطباع جمالي شامل أكثر من كونها صورة بلاغية )) كما تقول الناقدة الايرلندية جوديت لابيوفتش.
والقارئ لمجموعة (سواقي العسل المر) للقاص العراقي احمد الجنديل قد يلاحظ سيطرة فعل التهكم على تفاصيل الحدث القصصي بشكل يمكن ان يكون مقصودا لذاته ، ونعتقد انه لا مشاحة في ذلك , اذ ان القاص احمد الجنديل اراد من الوهلة الاولى ان تكون قصصه القصيرة ـــ في مجموعته هذه ــ سواقي مترعة بالعسل المر مهداة الى اولئك الذين استبدلوا رؤوسهم برؤوس الاوثان ، فالقاص الجنديل يخبرنا منذ البداية انه بصدد كتابة بيان رافض وثوري ـــ قد يكون بشكل انتقامي , من خلال الكلمة طبعا ــ لفضح اساليب المتاجرة بالمشاعر الانسانية السامية عن طريق الغوص في تفاصيل الحياة , فالقصة القصيرة ((تقوم على الاعتقاد بأن الحياة ليست تيارا ممتدا متصلا ، بل هي جزيئات صغيرة متتالية ، تشبه جزيئات الصور السينمائية ، وأن الحياة إنما يتم سبر أغوارها وتحليل عناصرها عن طريق الإمعان فى جزئية واحدة منها ، ووضعها تحت المجهر وإظهار خطوطها المتقاطعة ، كما يظهر النسيج الحى الذى توضع شريحة منه تحت المجهر، ومن ثم كان الراوي محصوراً في هذا الإطار .)) كما تقول الناقدة ماري لويز برات ..
وعليه فإن قصص المجموعة قد تبدو للقارئ مصابة بالجنون ، لكنها في الوقت ذاته مطهرة بتعاويذ الالم ، فمن جهة قد توحي تلك القصص بأنها حكايات من عالم خرافي لتحكي لنا مدى الاثم التي يقترفه اولئك الذين استبدلوا رؤوسهم ، وتارة اخرى قد توحي تلك القصص بأنها معزوفات من الحزن الذي تقطر دما دون ان يعرف احد لماذا ؟ وكيف ؟ , لكننا لا نملك ازائها الا الابتسامة المرة ….
ومن خلال هذه الاغاريد المشنوقة بالغصة المرة يأتي التهكم ليجمع بين الالم والامل ، بين الضحك والبكاء ، بين الصمت والكلام … ليعتلي منصة القراءة ليكشف عن فضائح الطاووس او الملك في القصة الاولى ، فعلى الرغم من ضحالة تفكير هذا الطاووس وتفاهة قدره الا ان فعله الملتوي كما يصوره القاص الجنديل في قمع صخب الجماهير وثورتها التي احرقت كل شيء في المدينة هذا الفعل من لدن الطاووس لابد ان يصور بشكل مفارق والا كيف لنا ان نتصور عقلا مستعارا وهو يكبح الاف الهائجين ، وهكذا نجد القاص الجنديل يتهكم قائلا : ((كان جلالة الملك في تلك الساعة يقوم بواجبه الوطني على أتم وجه ص7)) …. فأي واجب وطني هذا الذي يقوم به الملك وسط الحرائق والهتافات المشروعة ، ويتبين فعل التهكم في القصة ذاتها في عناية القاص بالمتضادات اللغوية فالملك تارة يستعيد اصول الكياسة والرئاسة التي تليق بالملوك وتارة اخرى نجد يمسك بسراويل مستشاره خوفا من الفضيحة وهو محاطا بحرسه المدجج بالخوف والسلاح .
وهكذا يحاول القاص احمد الجنديل من خلال التهكم ان يجعل القارئ قادرا على رسم صورة لهذا الطاووس الذي يقتل الوطنيين الثوريين بيد ويداعب صدور نسائه المزروعات في القصر بيد اخرى .
وقد لجأ القاص في قصته الثانية ـــ النسانيس ــ الى التلاعب اللفظي في اسماء الاعلام من اجل خلق حالة من التهكم والسخرية ، بوصف ذلك وسيلة فعالة في التأثير لذلك اصبح اسم (زكية ام الخير ) (الحاجة زكو) كناية عن الافعال المخزية التي تقترفها مع أرباب الكذب الذين يمتهنون جمع النساء والانغماس في الرذيلة على حساب مشاعر الفقراء من الناس .
ويتنوع فعل التهكم ليثير في القارئ فعل الشفقة وربما التأثر حد البكاء وهو امام حالة شبيب الذي عنون القاص قصته الثالثة بإسمه ، هذا الشخص البوهيمي الذي يشبه المجنون بملابسه وكثافة شعره وغرابة اطواره ، يقدمه القاص احمد الجنديل لنا بوصفه ضحية من ضحايا ازلام السلطة وان لم ينص القارئ على ذلك صراحة الا ان القارئ للقصة قد يصل الى هذه النتيجة من خلال اخلاقيات الضابط (عمران) الذي اقترف جريمة قتل والدي (شبيب حينما كان طفلا ) بطريقة بشعة ، لكنه نال جزاءه بعد ثلاثين عاما على يد شبيب نفسه وكأن القاص يريد ان يقول ان الثلاثة عقود التي مرت على شبيب قد تكون ذاتها العقود التي مرت على العراق وهو يصارع الحكم البائد , وقد احسن الكاتب الجنديل الوصف في هذه القصة لولا انه ناقض نفسه في معرفة اهل المنطقة لشبيب , فقد عبر القاص بصدق عن حياة العشرات ممن يشبهون شبيب , فكانت قصته هذه : تجربة أدبية عبرت – بالنثر- عن لحظة في حياة انسان بكل تركيز وتكثيف في ((وصف لحظة … وهذه اللحظة قد تمتد زمنا لساعات أو أيام أو أسبوع.. أو ربما شهر أو أكثر , غير أن القاص لا يهتم فيها بالتفاصيل التي يهتم بها الروائي ..لكنه يمضى قدما نحو تعميق اللحظة التي يصورها )) كما يؤكد الدكتور طه وادى .
ويتواصل فعل التهكم في قصص المجموعة الاخرى فنجده في قصة ــ جفاف ــ يتمثل في المفارقة بين حالي البطل المذعور الذي لا يملك شيئا وحال اولئك المحترفين الذين يقضون الليالي الحمراء في القصف والمجون في الفنادق الفارهة .ونجد فعل التهكم يسيطر على الثيمة الاساسية في قصة ـــ سيدة من ورق ــ الذي يوحي عنوانها بمفارقة حادة تعكس عمق الهوة التي وصل اليها البطل ــ الذي تكلم بضمير الانا ــ وهو يجد ان النهاية التي وصل اليها مع انثاه ليست الا لعبة قد انتهت فما عادت تلك السيدة الا امرأة من ورق . وفي قصة ــ خطوات ــ نجد الفعل الشبقي يصل الى قمته مع بطل القصة حتى (ينحدر خيط رفيع من اللعاب من خاصرة شفته اليمنى) رغبة في التهام فتاته بنظراته التي توحي باللا جدوى .
ونجد القاص احمد الجنديل في قصصه القصيرة الاخرى التي تضمنتها مجموعته هذه : (الغروب , والعبور , ودعوة , وفنتازيا , وقصاص , ورمادي , وبالون , واحلام , وحب , وحفلة , وسكران , والفاتحة ) يرصد تفاصيلا اكثر دقة مما هي عليه في الواقع فقد اكسب الاحداث إيحاء مركزا وحرارة في الوصف , وقد كتب عدد من تلك القصص بأسلوب شعري آخاذ , وكأن القاص يكتب قصيدة نثر كما نجد ذلك في قصص (سيدة من ورق , والغروب , والعبور ) , فقد كان الإيقاع الفكري متحدا مع الايقاع النفسي , فضلا على الوصف اللغوي الدقيق , والتراكيب التي لا تحتمل الزيادة , مما جعل تلك القصص تتسم بطابع جمالي واضح …