منذ بدأ العبادات السماوية، والناس مقسمين الى فريقين. فريق يعبد الله تعالى وفق كتابه المنزل في حينه ، وفريق اخر يعبد الله وفقالسنة التى رافقت او تكونت على هامش ذلك الدين. ودائما تنتصر السنة المتبعة على اصول الدين نفسه.
فقد حرف اليهود التوراة واتبعوا السنة التي هم خلقوها بأنفسهم لتكون بديلا عن التوراة المنزلة ، وفعل النصارى نفس ما عمل اليهودفحرفوا الانجيل واتبعوا السنة التي خلقوها هم بأنفسهم لتكون هي المنهاج الذي يمشي عليه الفرد او المجتمع المسيحي.
وعندما نأتي الى المجتمع الاسلامي ، فنحن نلاحظ ان المسلمين قد هجروا القرأن الكريم ، واتبعوا ما يقولون عنه السنة النبوية الشريفة. وبنى الناس لهذه السنن المتعاقبة الابراج والسدود لتحتفظ بقوتها ومتانتها على مر العصور والازمان ان لم تكن تزداد فوة ومتانة كلماتقدم الزمان. انها اي السنة تبني جدار من المعتقدات حول نفسها ، الجدار الذي يصونها على مر الازمنة ويحصنها من الاختراق.
وربما المصيبة الاكبر في المجتمعات الاسلامية عن غيرها من مجتمعات الديانات الاخرى ، انها لم تكتف بذلك ، بل توزعت الى شيع كلمنها تتبع طابع من السنن الذي يتغاير ويختلف عن السنن الاخرى. وكلها دون استثناء تدعي انها تستمد شرعيتها من القرأن الكريموالاحاديث النبوية وغير النبوية ، ووضعت تفاسير لتحصين السنة الخاصة بهم دون غيرهم من الشيع الاخرى. ففريق اتبع سنته وفقاحاديث رواها بعض الروات وقالوا هذه هي الاحاديث الصحيحة التي نصت عليها الاحاديث النبوية الشريفة التي ينبغي ان نتبعهادون سواها ، وتنظر الى غيرها على انها احاديث مرسلة. وفريق اخر او شيعة اخرى جاءوا باحاديث اخرى وقالوا نحن نستند الى هذهالاحاديث ونكون منها السنة التي نتبعها ولا نصدق غيرها.
ومقابل ذلك ، وانهاء للنزاع الازلي ، بين الفرق المتصارعة داخل الشعب او المجتمع الواحد وحتى الدين الواحد ، ظهرت الافكار القوميةوالاخرى التقدمية ، لتحل محل السنن المتبعة هنا وهناك من غير المساس بها او الانتقاص من مكانتها وهيبتها.
واللافت للنظر ان ظهور الافكار القومية اقتصر على الشعوب العربية التي تعاني من فرقة السنن التي اصبحت تسمى الان بالطائفيةدون غيرها من الشعوب العربية التي لا تعاني منها او ان السنن لديها واحدة. فقد طهرت في سوريا ولبنان والعراق واليمن والكويت فيحين انها لم تظهر في شمال افريقيا لا في مصر ولا في المغرب العربي.
هذه الالتفاته المميزة والواعية في العراق على سبيل المثال قد فطنت اليها النخب الاجتماعية الواعية والبارزة من اواخر عصر الدولةالعثمانية وتعززت بعد الاحتلال البريطاني للعراق والتي ترجمت بثورة العشرين (١٩٢٠).
ان الاراء والمعتقدات المشحونة بالتعصب كانت تمليء الاجواء العراقية من شرقه الى غربه غير انه كان للنخب العراقية الواعية الموزعة فيكل مكان رأي اخر ، انها دعت الى التكاتف من اجل بناء دولة قوية ورصينة ، تلبي رغبات وطموحات الشعب العراقي دون تفريق او تمييز.
ومن ذلك ، صدت النخب السياسية والاجتماعية البارزة ، كل النشاطات والاتجاهات التي كانت تدعوا الى غير ذلك ، وتبنت كلها مجتمعةفكرة تأسيس الدولة على اسس قومية ، بمعزل عن اي شيء اخر. فقبلوا فيصل الاول الوافد من الحجاز ملكا على العراق.
قد تكون الفطرة القومية هي من رسمت هذا التوجه من غير ادراك او وعي به ووفق ذلك نلاحظ خلوا اي تسمية شائعة من الوصفالقومي في حينه واقتصرت التسميات على تلك التي تقوي الوحدة الوطنية للشعب العراقي. حتى ان العلاقات الخارجية للمملكةالعراقية قد امتدت الى تركيا وايران اكثر مما امتدت الى بقية الدول العربية.
صحيح كانت بقية الدول العربية تحت الانتداب الاستعماري ، اما البريطاني واما الفرنسي ، الا ان العراق هو الاخر كان تحت الانتدابالبريطاني. بيد ان الساسة العراقيون اعطوا في نهجهم الجديد الاولوية لبناء وترسيخ المملكة العراقية كوطن يمثل ويحتوي الجميع.
اذن القومية وافكارها حاجة يفرضها الواقع ويطلبها من غير ان نسميها.
ان الرجالات العراقية الذين تعاونوا فيما بينهم وتعاونوا مع الملك فيصل الاول , وعلى اختلاف مشاربهم ، كان ببالهم ، وعن قصد ، تحقيقمباديء وافكار سامية ، تجسد طموحات جميع ابناء الشعب العراقي ، وامنياته لنيل الاستقلال التام ، وتحقيق وحدة الاراضي العراقية ،وتحقيق التقدم والرخاء للشعب العراقي ، ثم ما لبثت ان سادت هذه الافكار والمعتقدات على من سواها من الاراء والمعتقدات.