الشيء الذي قلما يٌلتفت إليه أن علم النحو بقواعده وأحكامه ومعلوماته وأفكاره هو من العلوم الاجتهادية , وهذا يعني أن علماء النحو (النحاة) هم مجتهدون وبالتالي فإن نظرياتهم وقواعدهم النحوية قد تخطأ وقد تصيب!
فالنحاة مجتهدون وليسوا معصومين منزهين عن الخطأ…
وبالرغم من هذه الحقيقة التي طالما أشار إليها السيد الشهيد محمد الصدر(قُدّس سره) في بعض مؤلفاته ودروسه إلا أننا نلاحظ عملياً وتطبيقياً ما هو مخالف لهذه الحقيقة, فمن الناحية العملية مازال التعامل مع القواعد النحوية وكأنها حقائق مطلقة لا يعلو عليها شيء حتى القرآن الكريم فبدل أن يكون القرآن المصدر الرئيسي لاستنباط القواعد النحوية يعني شاهداً على حد اصطلاح النحاة , نرى العكس من ذلك!
فهم يخضعون القرآن لقواعدهم النحوية الى درجة أنهم سجلوا على القرآن بعض الإشكالات النحوية الإعرابية!
وقد تناول السيد الشهيد محمد الصدر (قدس سره) هذه الإشكالات في الجزء الأول القسم الثاني من كتاب (ما وراء الفقه) وقد دافع عن القرآن الكريم عن طريق مناقشة (تفنيد) هذه الإشكالات النحوية الإعرابية…
إن هذه الإشكالات المزعومة خيرُ شاهدٍ على إخضاع القرآن الكريم للقواعد النحوية! بدل أن يكون القرآن الكريم الشاهد (دليل) على قواعدهم النحوية والمصدر الأساسي والحجة الأعظم على قواعدهم النحوية…
والشيء المضحك المبكي أنهم يؤمنون بإعجاز القرآن الكريم فالقرآن معجزة لغوية وبلاغية..
إن هذا الانفصام بين حقيقة علم النحو والجانب العملي التطبيقي له أسبابه الموضوعية والذاتية يمكن ذكر بعضها والإعراض عن البعض الآخر توخياً للاختصار من جهة وإلفات القارئ اللبيب لإجالة فكره ونظره لكي يكتشفها ويكشف النقاب عنها من جهة أخرى…
وأهم أسباب هذا الانفصام هي:
السبب الأول: ما عبّر عنه السيد الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) في كتابه الرائع(نظرة عامة في العبادات) بالغلو في الإنتماء…
فإن الغلو بالقواعد النحوية هو الصفة البارزة للمنتمين لهذا العلم بمختلف مستوياتهم العلمية خصوصا بعض حملة الشهادات الأكاديمية في البكالوريوس والماجستير والدكتوراه إن لم يكن أغلبهم قد أُصيب بمرض الغلو في قواعد النحو!
يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) في كتاب نظرة عامة في العبادات عن الغلو في الإنتماء ما نصه:
“…أي مشكلة الغلو في الإنتماء بتحويل النسبي الى مطلق , وهي مشكلة تواجه الإنسان بإستمرار, إذ ينسج ولاءه لقضية لكي يمده هذا الولاء بالقدرة على الحركة ومواصلة السير, إلا أن هذا الولاء يتجمد بالتدريج
ويتجرد عن ظروفه النسبية التي كان صحيحاً ضمنها, وينتزع الذهن البشري منه مطلقاً لا حد له, ولا حد للإستجابة الى مطالبه, وبالتعبير الديني يتحول الى إله بدلاً من حاجة يستجاب لإشباعها وحينما يتحول النسبي الى مطلق… الى إله من هذا القبيل , يصبح سبباً في تطويق حركة الإنسان , وتجميد قدراتها على التطور والإبداع وإقعاد الإنسان عن ممارسه دوره الطبيعي المفتوح في المسيرة(( لا تجعل مع الله إله آخرا فتقعد ملوماً مخذولاً))(الإسراء:22)
وهذه حقيقة صادقة على كل الآلهة التي صنعها الإنسان عبر التأريخ سواء ما كان قد صنعه في المرحلة الوثنية من العبادة , أو في المراحل التالية , فمن القبيلة الى العلم نجد سلسلة من الالهة التي أعاقت الإنسان بتأليهها, والتعامل معها كمطلق عن التقدم الصالح….” إنتهى
وكلام السيد الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) واضح لمن تدبر.. ومحل الشاهد أن الغلو في الإنتماء هو السبب في صناعة الأصنام والالهة المصطنعة فالغلو في الإنتماء في العلم يُحوله الى صنمٍ ومطلقٍ مزيفٍ…
وهذا الغلو في قواعد النحو هو سبب الإنفصام بين الحقيقة النسبية لعلم النحو والجانب العلمي والتطبيقي الذي يتعامل مع النحو وكأنه حقيقة مطلقة تأبى الخطأ والزلل (مطلق مزيف).
السبب الثاني: إن علم النحو على أفضل تقدير يعتمد على الإستقراء في تحديد قواعده النحوية, والأستقراء هو الأستدلال من الجزئيات الى الكليات, والنتيجة دائما تكون أكبر من المقدمة وخاصة في الإستقراء الناقص, لأن الأستقراء التام تتساوى فيه النتيجة مع المقدمة, ولكنه أي الأستقراء التام متعذر تطبيقه في النحو بل في الأعم الأغلب من العلوم وكذلك فإن المناطقة يعدون الأستقراء التام من القياس….
وحيث أن النحو يعتمد على النصوص العربية القديمة فهو يعتمد على بعض هذه النصوص العربية التي تمثل مقدمة الأستقراء (الجزئيات) ومن ثم يعممون ويبنون قاعدتهم النحوية(الكليات)!
وبطبيعة الحال فإن هذا على أحسن تقدير هو أستقراء ناقص لأنه غير شامل لكل النصوص العربية القديمة بل أن أعتباره من الاستقراء الناقص فيه تسامح كبير ومجازفة خطيرة! بل إن عملهم أقرب الى التمثيل منه الى الاستقراء لأن التمثيل تكون مقدمته ونتيجته من الجزئيات وهو لا يصلح أن تُبنى عليه قاعدة عامة!
ولذلك قلتُ أن النحاة على أفضل تقدير يعتمدون على الاستقراء الناقص!
وحتى لو تسامحنا معهم فإن الاستقراء الناقص ينتج الظن والظن لا ينفعهم في دعم وتقوية قواعدهم!
لأن القاعدة النحوية بل كل قواعد النحو لا تشمل كل الجزيئات والحالات من كلام العرب! ففي كل قاعدة نحوية نجد أن هناك الكثير الكثير من الشواذ عن القاعدة النحوية التي يتعصبون لها!
فهل من العدل أن يتخذ النحوي هذه القاعدة الظنية غير الشاملة ويجعلها فوق كل شيء حتى لو كان هذا الشيء هو القرآن الكريم؟!
السبب الثالث: ما ذكره السيد الشهيد محمد الصدر(قدس سره) في مقدمة كتابه فقه الاخلاق وحاصل ما ذكره هناك بحسب المضمون أن النفس الأمارة بالسوء هي التي تجعل أصحاب العلم يتعصبون لعلمهم ويسيئون الظن بالعلوم الأخرى وأصحابها!
أقول: إن الإشكالات النحوية الإعرابية على القرآن الكريم لا تخلو من أصابع النفس الأمارة بالسوء.
السبب الرابع: الخلط بين الإجتهاد والتقليد بالمعنى الأعم, يعني أن الأعم الأغلب من أساتذة النحو وعلوم اللغة الأخرى من حملة الشهادات الأكاديمية العليا من ماجستير ودكتوراه إن لم يكن جميعهم لم يبلغوا رتبة الإجتهاد في النحو أو أحد علوم اللغة العربية والسبب الرئيسي يعود الى طبيعة الدراسة في الجامعات التي تربي الطالب على التقليد بالمعنى الأعم وغلق باب الإجتهاد عملياً أمام الطلبة والباحثين وهذا هو الذي يفسّر عدم بروز علماء في النحو وغيرها من علوم اللغة بالرغم من نيلهم الشهادات العليا بل نجد التعامل مع القدماء من علماء النحو واللغة بنحو من التقديس الى درجة الغلو بل أكثر من ذلك وهو الذهاب الى توقيفية اللغة العربية بحيث أوهموا الكثير من أبناء العربية بأن باب الإجتهاد في اللغة وعلومها مغلق وأن علوم اللغة توقيفية!
وهذا الإيهام قد أثقل كاهل علم أصول الفقه بحيث أصبح هذا العلم يهتم بالنحو والصرف وفقه اللغة بصورة أكثر عمقا من علوم اللغة مما أدى الى نتيجة لا يرضى بها المتعصبون والجاهلون والغافلون, وهذه النتيجة تمثل واقعا معاشاً منذ مئات السنين خصوصاً مع تكامل علم أصول الفقه, أقصد الأصول الحديثة التي بدأ عصرها تقريباً منذ زمن الشيخ الأنصاري(قدس) الى وقتنا الحاضر حيث أصبح الفهم العرفي محل إهتمام علم أصول الفقه الحديث ومن المعلوم أن اللغة والعُرف مترابطان بل أن الفهم اللغوي يمثل الفهم العرفي…
وهذه الحقيقة قد أشار إليها السيد الشهيد محمد الصدر(قدس سره) في مناسبات عديدة منها تفسير(منة المنان) حيث ذكر في الدرس الصوتي في مستهل تفسير سورة الأعلى عندما أراد أن يتناول فعل الأمر (سبّح) قال بحسب المضمون أن أصول الفقه أعمق وأدق في الكلمة العربية من علمي النحو والصرف.
وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها بالرغم من التعتيم والتقصير في نشرها…
إن ندرة المجتهدين في علم النحو وعلوم اللغة الأخرى في الجامعات والأكاديميات والذي عبّرت عنه بالخلط بين الإجتهاد والتقليد في علم النحو أدت الى التعصب والتقليد الأعمى, فكثيراً ما نسمع أو نقرأ أن دكتور في اللغة العربية يخطّأ هذا ويعيب على ذلك مع الأختلاف بالرتبة لأن الأعم الأغلب من أساتذة اللغة العربية هم ليسوا مجتهدين في اللغة بل هم مقلدون بالمعنى الأعم ,يعني أنهم ينقلون آراء ونظريات غيرهم من قدماء النحويين!
أما الذي يعترض عليه الدكتور في كثير من الأحيان يكون مجتهدا في أصول الفقه, لأن الإجتهاد في أصول الفقه يقتضي الإجتهاد في النحو والصرف واللغة وليس العكس, وهذا الإعتراض من قبل الدكتور ليس عادلاً لأن هذا المجتهد يتكلم من زاوية إجتهاده, وهذا الأمر له شواهد كثيرة, أشهرها ما تعرّض له السيد محمد الصدر(قدس سره) من إعتراضات من قبل البعض!
وهي أعتراضات ساذجة تكشف عن ضحالة المستوى العلمي لهذا المعترض بغض النظر عن الشهادة العليا التي يحملها فهو مازال لم يبلغ رتبة الإجتهاد في النحو أو الصرف أو اللغة ….الخ
ولكن ظروف الجهل والغفلة والإيهام والغلو ومشاعر الحقد والكراهية غير المبررة هي التي تصنع الأرضية الخصبة لنمو مثل هذه الأمور.
إن التقصير في طلب العلم من قبل الأعم الأغلب هو السبب في تفشي هذه البيئة غير الصالحة..
ومن المؤسف جداً أن هذه الأعتراضات المزعومة الموهومة تحولت الى عقيدة راسخة حتى لدى الكثير من محبي ومقلدي السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) وهذا إنفصام آخر بين عقيدتهم بأعلمية السيد محمد الصدر وتغلغل هذه العقيدة الفاسدة(أقصد تصديق هذه الاعتراضات) وهذا مما دفعني الى كتابة بعض البحوث التي تفنّد هذه المدعيات والإعتراضات ومن هذه البحوث “لو صح التعبير” وبحث” فقه اللغة في فكر السيد محمد الصدر” وبطبيعة الحال فإن هذا البحث أيضاً يساهم في إزالة هذه العقيدة الفاسدة الراسخة التي ليس لها أساس الا الجهل والتقليد الأعمى من قبل المعترضين ولله في خلقه شؤون!
ولأجل فائدة القارئ الكريم لابد لي أن أستشهد ببعض ما قاله الشهيد محمد الصدر (قدس الله نفسه الزكية) في كتاب ماوراء الفقه الجزء الأول القسم الثاني حيث جاء فيه ما نصه:
“الوجه الرابع: إن المولى الحقيقي المطاع هو الله سبحانه وتعالى ورسوله, وليس هو النحاة, مهما شعروا بوجوب طاعتهم, وهددوا وتوعدوا ووضعوا كرسيهم عالياً, كما يقولون.
وعليه, فإذا أمر النحاة بشيء فليس من اللازم إطاعتهم. بل إذا اقتضت المصلحة عصيانهم كان تطبيق تلك المصلحة أولى من طاعتهم, وأما الوجه في هذه المصلحة فيُعرف من الوجوه الأخرى التي ذكرناها أو غيرها. ويؤيد ذلك, إن قواعد النحو لم تكن موجودة على الإطلاق في زمن نزول القرآن الكريم, فضلاً عن أن يشعر الناس بأهميتها واحترامها, كما أصبحت عليه الأجيال المتأخرة, جرّاء التركيز الشديد على القواعد العربية. وإنما كان العرب الى ذلك الحين يتكلمون على السجية, بما ورد على لسانهم من حديث. ومن هنا تشعّبت اللغات ورويت هناك كثيراً من مخالفة القواعد النحوية على ألسنتهم, حاول النحاة بعد ذلك توجيهها مهما أمكن أو جعلها استثناء من القاعدة , وزعموا أن النص العربي لا يخطئ.
الوجه الخامس: أنه من المتسالم عليه أن كلام القرآن الكريم حجة أكثر من أي شيء مما ورد من النصوص العربية, والنحاة لابد يذعنون بأن القرآن الكريم أقوى وأعلى من آرائهم وقواعدهم , بل أقوى وأعلى من كلام العرب أنفسهم. فلو خالف القواعد القطعية كان هو المتقدم والمفصح وكان غيره هو المخطئ , فضلاً عما إذا كان كلامه قابلاً للتوجيه.
وهذا قد ينتج أن لنا أن نخالف القواعد العربية ونتبع قواعد القرآن الكريم , لو صح التعبير. في حدود ما دلنا عليه من أسلوب في الكلام العربي.” أنتهى
وبعد هذا الكلام الرائع للسيد الشهيد محمد الصدر(قدس سره) فقد آن أوان الشروع في موضوع البحث أقصد “أضعف من حجة نحوي” وعلى الله التوكل…
لقد تناول الشهيد السعيد محمد الصدر(قدس الله نفسه الزكية) في أحد دروس البحث الخارج هذه العبارة “أضعف من حجة نحوي” حيث ذكر قُدس سره بحسب المضمون (( أن حجة النحوي ضعيفة لأنه يعتمد في الإستدلال على قاعدته النحوية على بيت من الشعر الجاهلي , وأن الأعم الأغلب من هذه الأشعار التي يتخذها النحوي شاهداً ودليلاً على قاعدته أو رأيه النحوي هي من المراسيل يعني أنها غير مسندة فضلا عن كونها ضعيفة السند, يعني أن النحوي لا يحرز إنتساب هذا البيت من الشعر الى شاعره الجاهلي))
أقول معلقاٌ على هذا الكلام أن الفقيه لا يعتمد في فتواه على رواية ضعيفة السند فضلاً عن رواية مرسلة أو غير مسندة مع أن الذي تنسب اليه الرواية هو المعصوم عليه السلام!
ويضيف السيد الشهيد محمد الصدر (قدس الله سره الشريف) وبحسب المضمون (( أننا حتى لو تنزلنا وقلنا أن هذا الشعر غير مرسل بل مسند بل متواتر عن شاعره الجاهلي إلا أن هذا لا ينفع أن يكون دليلاً تاماً على القاعدة النحوية لأن الشاعر الجاهلي غير معصوم, ويوجد الكثير من الخطأ واللحن في شعره وكلامه!
ولكن النحاة لأجل تمشية مصلحتهم بنوا على الإعتقاد بعصمة الشعراء الجاهليين من الخطأ واللحن!
وهذا البناء لا يستند الى دليل وبرهان, هذا مع التنزل عن إحراز إنتساب الشعر الى شاعره الجاهلي ومع ذلك فإن التنزل غير نافع ولذلك قالوا:
أضعف من حجة نحوي يعني أن هذه العبارة صارت مثلاً يضرب على الحجة الضعيفة…))
هذا يعني أن المجتهد في علم النحو حجته ضعيفة فضلا عن غيره من المقلدين بالمعنى الأعم.