بدءاً، تتبعثرُ الأسماء بعشوائية ، بلا فعل أو تأريخ أو هدف ، ثمّ تتساوقُ وتتسابقُ متكاسلة ، تتمططُ وتستيقظُ وتضطلعُ بدورها . ميس وسمير زوجان تجمعهما خيمةُ الحياة ُالزوجية ، رخيّة ًغنيّة ً. ثمّ يجيءُ وطنٌ ، زلزالاً يُفجّرُ رتابة وضعهما ، وينفتحُ بابُ الرواية على آخرين : صالح وحليمة ورزق ، من خلال هؤلاء يغتني نسغُ الصراع صعوداً الى الخاتمة . لكنّ مهنداً يظلّ لغزاً متوارياً حتى مضي ردح طويل من تزاحم تفاصيل الأحداث .
فاطمة الحسّاني أمسكت بجريان عملها الروائي خيطاً فخيطاً . لكل خيط لونُه ومغزاه . يتلاقى ويتلاقحُ آناً ويتناءى آناً آخر . لكن ّالمحصلة تؤكد قدرتها الروائية على التمسّك بزمام الحكي ، وضبط سلوكية كلّ شخصية دون الوقوع في مطب الفلتان العشوائي .
وكأيّ عمل ابداعي تسوق كائناتها وفق رؤية جدلية تتنامى وتتشظى وتنضجُ وتكبرُ لتأخذ سيرورتها زماناً ومكاناً . يكبرُ وطنٌ ويتعلم ويغدو طبيباً في ظل رعاية ابوين مُربيين تبنياه بحرص وحبّ . والى جواره رزق ابنُ مُرضعته حليمة زوجة صالح العامل ِ في مدرسة سمير . وخلل مجرى الرواية تظهرُ فرحة / ام وطن الحقيقية / هلاماً شبحيّاً تترصدُ وتتابعُ حياة ابنها قرباً أوبُعداً . الأبن اللقيط انجبته خلل ذروة نزوة عابرة ، هي احبّته ، وهو خانها وتركها / حاملاً / للقيل والقال والخوف والقلق .وعانت خلال حملها عواقب لا قبل لها بها .لكن / وطن / يفطنُ الى وضعه / لقيط / فيما بعد ، حين تركوه في كراج أحد البيوت . تُرى مَنْ قام برميه عن قصد الى زوجين لا ينجبان ؟ حتماً كان عليماً بوضعهما . لم يخسر وطنٌ اهلاً ولا حبّاً ، لكنّه حمل خوفه وقلقه وعاره . غبئذ ٍ تصعدُ درامية ُ الرواية جدلاً وايقاعاً وسيرورة تخترقُ الزمنَ حاجزاً فحاجزاً . وتطولُ الهجرةُ معظم شخوص الرواية / وطن، مهند ، سمير ، ميس / كما يطولُ الانهيارُ الأمني آخرين ضحايا التفجيرات والتخريب الأعمى . وطنٌ يستقرُ في السويد ، البلد الأوروبي الذي يتساوى فيه الجميع ، وتذوبُ الحسّاسيات الشرقية / لقيط / على سبيل المثال .فيتزوج / فلورا / من امريكا الجنوبية . بعد قصة حبّ هادئة . وينجبان اطفالاً . ثمّ يستقدمُ وطن أبويه المتبنيين اياه … لكنْ، تعنُّ صدمة ٌ اخرى ، مُباغتة ومُبهجة ، حين تلجُ فرحة / ام وطن / حياته حناناً وسنداً وهي في حال ميسورة ورثت من زوج توفي ثروة كبيرة . ومثلما تشظت العائلة مزقاً هنا وهناك تلتقي ثانية ، وتُعيدُ ديمومتها بايقاع هارموني سلس يمنحُ كلّ أحد منهم أماناً . ما عدا مهنداً الذي يتأرجح بين أمان موقت ثمّ يُزجّ في السجن مُتهماً بالارهاب ظلماً . بعيداً عن اسرته التي كوّنها في سوريا ، ثم انتقلت الى البصرة وعمّان ومن هناك الى المنفى الكندي . وظلّ بعد خروجه من السجن وحيداً لا يُريده احدٌ . فتنطفيءُ الرواية حين يلتقيان هو وفرحة ، وكان في حاجة الى عمل في اربيل حيث استقرت هي فيها . قالت له : / نحنُ لا نثقُ بشخص يخون اصدقاءه / هنا، تُختتمُ الأحداثُ ُوتقفلُ أبوابَها ……………………..
في / فرحة وطن / تضطلعُ فاطمة الحسّاني بقدرتها على التحكم في تنامي الأحداث والشخصيات وازمنتها وامكنتها ومنحِها ملامحَها شكلاً وسلوكاً بأسلوب حداثي يتجاذب بين الواقعية والتقريرية ، تكتظُ بتداعيات وغور الى الماوراء . والخاتمة في أيّ عمل روائي لا تعني نهاية الحياة ، بل بداية ٌ اخرى ما ورائية تحظى بجدلية البقاء . احياناً يلجأ بعض الروائيين الى جعل العمل اجزاء يبدؤون من حيثُ توقفوا ، ويزجّون فيها شخوصاً آخرينَ واحداثاً وأمكنة .
من فضائل / فرحة وطن / لغتها الجميلة تراوح بين الشعرية والذهنية والمعجمية المبسّطة …
واذا كانت أيّة رواية ، قبلاً وبعداً ، أشبه َ بمعادلات رياضية يُراعى في بنائيتها أن تكون ذات نتائج منطقية ايجاباً وسلباً ، وشخوصها متشظين أو مُتمحورين في سياقات ديالكتية صعوداً ونكوصاً ، فيغدون في منظور الروائي والقاريء كائنات تتساوقُ وفقاً لمنطق الحكي تتحرّكُ وتتوارى فيأخذ بعضُها مكان البعض ، الا أنها في كلّ حال محركة الحدث تأخذه من أفق الى آخر حتى ترسو على ختامه . وكلّ شخصية في الرواية جبهةٌ لها امتيازُها وصداها وخصائصها . تشغل أمكنتها آناً وتتراجع عنها آناً آخر . لكنّ التيار العام يأخذها الى الاستقرار النهائي . يختفي فيه القلقُ .. ووفقاً لهذه الدينامية ارست الحسّاني بمسار احداث روايتها في زمن الاستقرار ، بعيداً عن الهم ومتواليات الصراع . وجعل كلّ احد في سياقاته الديالكتيكية يخلد في مثوى آمن سوى مهند الذي ظلّ يحمل صليب الوجع والندامة ما عاش . وان تساءلنا : ما الذي ترمي اليه الرواية عبر جريانها وما الذي تريدُ القول لقارئها ؟ حتماً ثمة اشكالات اجتماعية وسياسية وحياتية مستغرقة في سلبياتها ودمويتها ما زالت تعششُ في كيان المجتمع العراقي تهدّدُ توازنه ومصيره ، فاشارت اليها الحسّاني بلغة الآيماء والآشارة ، والصراحة أحياناً . وعلينا مواجهتها بالوعي والثقافة والقوة والتجربة : بعضُها مكوناتُ الوضع السياسي وتراكمات كرّسها وعمقها المحتل الأمريكي . وبعضهاالآخر متأت من عمق القرون البعيدة تتسربُ عبر التقاليد والعادات المتوارثة وضمن هذه الجدلية لا يتخلّصُ منها مكانٌ أومستقبلٌ الّا بوعي خلّاق يبدأ من رياض الأطفال وصولاً الى المعهد والجامعة . الحسّاني ابتنت / فرحة وطن / من خلال لغة سلسة ودراية واعية وقدرة تقنية حداثية على نسج تفصيلاتها هامسة فينا : لن تكون النقلة ُ الّا بأعتماد العقل والعلم والخبرة المنهجية ومعرفة الانسان بنفسه وصولاً الى سبر كينونة الآخر . لكن هل افصحت بذلك صراحة ؟ اظنها تركتنا نحن نبحث عن الأجوبة ……
• رواية ُ فاطمة الحسّاني الأخيرة
صدرت عن أزمنة للنشر والتوزيع
عمان 2013