في 14 تموز يوليو 1958، تم الإطاحة بالنظام الملكي العراقي، المرتبط ارتباطًا وثيقاً ببريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية. تم تنظيم ذلك من قبل حركة “الضباط الأحرار” وعلى رأسهم الضابط العسكري الوطني عبد الكريم قاسم. لقد كانت ثورة تموز بكل المعايير ثورة وطنية وغير عادية، فمنذ الساعات القليلة الأولى على نجاحها خرج مئات الآلاف من العراقيين والقوى والأحزاب الوطنية للاحتفال بتأسيس الجمهورية ونهاية النظام الملكي.
حين يعرف المرء الظروف الاجتماعية، التي كانت الجماهير تعيشها آنذاك، ويدرك قسوة الهيمنة السياسية والاقتصادية للدول الإمبريالية، سيفهم عندئذ مدى الاستياء العام من النظام الملكي، الذي كان يسود المجتمع العراقي، والأسباب التي أدت إلى الثورة وحدوث بعض التجاوزات ، التي لم تكن متوقعة، قام بها بعض العسكريين وما رافقها من ردود فعل عفوية للجماهير بحق بعض رموز العهد الملكي السابق.
وعلى الرغم من تعرضها لضغوط اقليمية ودولية عديدة متنوعة الأساليب ومؤامرات ، حاكتها بعض القوى الداخلية بهدف اجهاضها، ألا أن ثورة 14 تموز حققت خلال فترة قياسية لم تتجاوز 4 سنوات العديد من المنجزات الوطنية الهامة التي ستبقى خالدة في ذاكرة الشعب العراقي. فقد تم إجراء إصلاحات محلية بعيدة المدى شملت القانون رقم (80) لسنة 1961 “قانون تعيين مناطق الإستثمار لشركات النفط” واصدار مراسيم لغرض تشكيل الأحزاب السياسية والمنظمات المهنية وإطلاق حرية الصحافة. بينما جسدت المادة 3 من الدستور المؤقت: “العرب والأكراد شركاء في العراق”، خطوة تاريخية ولأول مرة اعترافا صريحاً بحقوق الأكراد ضمن الدولة العراقية. ووضعت كذلك أسس الدولة المدنية وحاولت إرساء العدالة الإجتماعية والمساواة وقامت بتحقيق الإصلاح الزراعي والاعتراف بحقوق العمال والفلاحين وقامت بتوزيع الأراضي ودور السكن على الفقراء وأصحاب الدخل المحدود وسعت من أجل المساواة القانونية للمرأة بسن ” قانون الأحوال المدنية” وبذلت الجهود الكبيرة في قطاع التعليم والصحة والبناء والاعمار. وقد أولى قائدها الزعيم عبد الكريم قاسم اهتماما مميزا بالعلم العراقي والدستور والنشيد الوطني وشعار الجمهورية الأولى ، المأخوذ من الشعار الأكدي المكون من الشمس الذهبية ذات الثمانية اشعاعات والنجم المثمن الأحمر الغامق ، وفي داخل الدائرة توجد تشكيلة رائعة ترمز إلى مكونات الشعب العراقي من عرب وكرد وأقليات اخرى ، أما المكونات الأخرى فقد رمزت للزراعة والصناعة ودجلة والفرات.
أورد احصاء عام 1956 بان نصف مساكن بغداد صرائف وأكواخ ، فاتخذت الحكومة الجديدة سنة 1959 قراراً بإسكان أصحاب الصرائف، وأنشأت 911 داراً في مدينة الثورة شرق بغداد، ووضعت تصميما جديدا لمدينة بغداد تضمن شق 3 قنوات ، اثنتان في الرصافة، وواحدة في الكرخ للحد من مخاطر الفيضانات، وفي أشهر معدودة أنجزت “قناة الجيش” لتكون ممرا مائيا صناعيا، وبمسار لا يؤثر على خطة استملاك أراض واسعة للمواطنين اصحاب الدخل المحدود والفقراء. فهي ليست قناة فحسب، بل مشروع إسكان كبير، فقد أنشئت على أحد جوانبها مدينة الثورة، شرق بغداد، التي ضمت آلاف العوائل التي كانت تسكن في مساكن عشوائية بين مياه آسنة، واتسع العمران وتمّ بناء أحياء سكنية جديدة على جانبي القناة
وعلى جبهة السياسة الخارجية، تم خروج العراق من النظام النقدي الاسترليني البريطاني وإنسحابه عام 1959 من حلف بغداد العدواني الذي ضم المملكة المتحدة وتركيا وإيران وباكستان، وإقامة علاقات اقتصادية وسياسية متكافئة مع الدول وتصديرالموارد النفطية دون تدخلات خارجية.
لماذا ندافع اذن عن ثورة تموز ومنجزتها؟
لقد كانت ثورة 14 تموز ـ يوليو 1958 ثورة تحرر وطني بإمتياز، حققت الكثير، مما كان الشعب العراقي يطمح اليه فقد حررت العراق من ربقة الاستعمار وتوابعه من الرجعيين والاقطاع، وواجهت الثورة ومنذ أندلاعها العديد من الضغوط والمؤامرات ، حتى تم الاجهاز عليها في انقلاب 8 شباط الاسود 1963 الذي قاده حزب البعث وقوى اليمين والرجعية بمباركة القوى الاستعمارية الطامعة بخيرات بلادنا، ثم تمكن عبد السلام عارف من القيام بانقلاب عسكري في 18 نوفمبر 1963، عرض العراق أبان حكمه الى العديد من الازمات وأعاد طبقة الاقطاع والرجعيين الى الواجهة. وفي 17 تموز- يوليو 1968، استعاد حزب البعث السلطة وأصبح أحمد حسن البكر رئيسا للجمهورية ورئيسا لمجلس قيادة الثورة وبقي كذلك حتى استقالته مجبرا في 16 يوليو 1979، وحل محله الدكتاتور صدام حسين.
اتسم العراق بعد الاجهاز على الثورة الفتية في انقلاب 8 شباط 1963 بالصراعات السياسية والحروب العبثية والعنف والاضطهاد السياسي نتيجة سياسات الحكومات الدكتاتورية المتعاقبة، وحلت به حتى يومنا هذا كوارث ومصائب كبيرة. ففي ربيع عام 1969 اندلع القتال مرة أخرى بين القوات الحكومية والأكراد واستمر القتال حتى أبريل 1975. وفي ايلول ـ سبتمبر عام 1980، اندلعت الحرب العراقية ـ الإيرانية، التي خلّفت كوارثَ لم يشهدها العراق من قبل . وبقي الأمر كذلك حتى توقيع اتفاقية وقف اطلاق النار عام 1988.
ثم جاء قرار صدام حسين باحتلال الكويت، الذي كان وبالا على العراق ، والمنطقة ككل. إذ قامت الولايات المتحدة الأمريكية والقوى المتحالفة معها بتدمير البنية التحتية للعراق وفرضت حصارا إستمر 12 سنة، أدى الى تخريب البنية الاجتماعية والإقتصادية وهجرة الآلاف من الكفاءات العلمية والمثقفة وإرجاع العراق عشرات السنين الى الوراء.
وفي عام 2003 خططت الولايات المتحدة لغزو العراق تحت ذريعة إمتلاكه أسلحة الدمار الشامل لغرض السيطرة على منابع النفط وتغيير خريطة الشرق الأوسط لصالحها. وبعد الاحتلال تم تفكيك مؤسسات الدولة العراقية من جيش وشرطة وحرس حدود الخ. ثم وضع الحاكم الأمريكي بريمر أسس نظام المحاصصة الطائفي، الذي لازال قائماً حتى الآن، وألغى بهذا مبدأ المواطنة ليحل محله مبدأ الإنتماء الطائفي والأثني، وعمل على تدمير الإنتاج المحلي الزراعي والصناعي والحرفي وفتح أبواب الاستيراد غير المحدود وإلغاء الضرائب الجمركية والقضاء على منجزات الثورة وتعليق العمل بالعديد من القوانين الهامة التي تراعي حقوق المجتمع وكرامته، فيما أقدم من تقلد الحكم من العراقيين على إلغاء ما تبقى منها وتعويضها بقوانين جديدة تضمن مصالح “الطبقات الطائفية”، الشيعية والسنية والكردية، الحاكمة وتتعارض مع المصالح الوطنية والعامة للمواطنين.
ثورة 14 تموز ستبقى امامنا عبرة بكل دروسها الثمينة، وأهمها انها اعتمدت على الشعب العراقي بسائر قومياته، ومنه استمدت قوتها وثمرة نجاحها.. ان يوما مثل هذا اليوم لن ينسى، ويبقى حيا دائما في مسيرة شعبنا !