اﻹنسان يعشق الكمال، وهو يسعى نحو التكامل في حدود فهمه للكمال، وبطبيعة الحال أن أختلاف الفهم عند بني البشر يلقي بظلاله على الكمال نفسه، ومن هنا تعددت اﻷهداف وأختلفت الى درجة التقابل والتضاد…
ولو أمعنا النظر بهذا الفهم البشري المتضاد للكمال ﻷكتشفنا أنه لا يمثل فهما عقليا خالصا، نعم، قد يشوبه شئ من التعقل إعتمادا على العقل النظري تارة والعقل العملي تارة أخرى، إلا أن وصفه بالفهم لا يخلو من تسامح ومجاز، بل هو خليط من الهواجس والعواطف وايحاءات النفس اﻷمارة بالسوء وشئ من الوهم مع شئ من التعقل فكانت النتيجة هذا الفهم البشري المتباين للكمال، ومع ذلك فإن الكثير من بني البشر من أدباء ومفكرين ومثقفين لا يعترفون بهذه الحقيقة – أي حقيقة الفهم البشري المشوب بالتناقضات-.
وحتى لو كان هذا الفهم البشري فهما عقليا خالصا فهو ليس كمالا مطلقا بل هو فهم محدود ناقص يحتاج الى ما يكلمه، فالعقل لا يستغني عن الوحي، ولذا ورد بحسب المضمون ” أن العقل نبي من الداخل”، فالوحي يرشد العقل الى الكمال المطلق.
وتلعب الشريعة الإلهية الحقة بصورة عامة، والعبادة المخلصة بصورة خاصة الدور الفاعل في حركة الإنسان نحو الكمال المطلق.
إن السير نحو الكمال يتوقف على معرفة الكمال، وهذه المعرفة لا تحصل الا بعد التفاعل الإيجابي بين العقل والوحي.
وخير ما أختمُ به المقال كلام للشهيد محمد الصدر كتبه في أحد مؤلفاته حيث قال:
[{” ذكرنا في بعض كتاباتنا ان الكمال غير متناهي الدرجات، فكلما وصل الفرد الى درجة استحق بعمله ان يدخل الدرجة الاخرى. فان عمل له العمل اللائق به، فانه يصل اليه لا محالة. لان الله تعالى كريم لا بخل في ساحته، فلا يحجب الامر المستحق عن مستحقه.
ويمكننا الان ان نذكر ثلاث درجات من هذا الجانب:
الدرجة الاولى: ترك الحقد على الغير ومحاولة الايقاع به واضراره وزيادة على ذلك فان الافضل ان يريد الخير للاخرين ويعمل على ذلك.
وهذه الدرجة هي اقصى ما وصل او يمكن ان يصل اليه اهل الدنيا، الغالب عليهم التكالب على المتاع الرخيص، وحب المال والشهوة والنساء، الامر الذي يحدو بالفرد ان يؤذي الاخرين بما اوتي من قوة ومكر في سبيل جلب الخير لنفسه ودفع الشر عنه، في حدود فهمه.
فاذا بلغ كمال الفرد الدنيوي الى درجة ترك فيها هذه التصرفات ولم يضمر الشر للاخرين، بل وعمل ايضا لخيرهم كان هو الكامل الافضل في نظرهم.
وهذه الدرجة بالرغم من انها العليا في نظرهم، الا انها تعتبر اخلاقيا من ادنى الدرجات في التكامل الانساني. اذ بدونها من غير المحتمل ان ينال شيئا من الكمال الحقيقي. وسيكون من (اولئك الذين لم يرد الله ان يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزى ولهم في الاخرة عذاب عظيم).
الدرجة الثانية: الصبر والتسليم ونتيجة ذلك عدة امور: منها: القناعة بما جاءه من الدنيا والصبر عما لم يحصل عليه، ومنها: الصبر على البلاء الوارد عليه كالفقر والمرض وغيرها، وعدم الاعتراض على القدر الالهي فيه، ومنها: كتم الغيظ والحلم على تجاوزات الاخرين، في حدود ما هو الممكن والمناسب فانه من الصبر والتحمل الضروري من هذه الدرجة.
الدرجة الثالثة: التقوى والرضا ونتيجة ذلك عدة امور: منها: ان تصبح الفقرات التي قلناها في الدرجة الثانية واضحة في الذهن وبسيطة في النفس، بل ضرورية بوضوح وطيّبة على الفرد لما يرى الانسان لها من نتائج الكمال.
ومنها: الورع عن الشبهات، حيث يكون الفرد في درجة من التفكير، بحيث لا يقدم على قول او فعل الا مع احراز صحته في نظره، دون الموارد المشكوكة والمشبوهة، بطبيعة الحال.
ومنها: الاهتمام بالعدل، مهما امكن في علاقة الفرد بأي شيء حوله: في علاقته بربه او علاقته باسرته او باصدقائه او بمجتمعاته او بامواله او بنفسه نفسها.
ومنها: درجة من درجات الضغط على النفس التي تصعب عليها امثال هذه الخطوات التي سمعناها……وحملها على التكيف للافكار الصحيحة التي يؤمن بها الفرد ويحاول ان يطبقها جهد الامكان.
هذا بطبيعة الحال، مع الالتزام بواجبات الشريعة ومحرماتها اذ بدونها لا يمكن ان يصل الفرد الى مثل هذه الدرجة.”}] إنتهى
[المصدر: ما وراء الفقه الجزء الاول/ القسم الاول/ للشهيد محمد الصدر.