22 نوفمبر، 2024 6:56 م
Search
Close this search box.

التاريخ بين الاستلال السلبي والانتقاء الإيجابي

التاريخ بين الاستلال السلبي والانتقاء الإيجابي

إذا كان التاريخ (حسبما تقدم من أفكار فيما مرَّ من هذه السلسلة من المقالات حول التاريخ) سلاحًا ذا حدَّين، يتوجَّب على ولاة الأمر وسراة القوم التعامل مع ماضي الأمة في “مختبر كلينيكي” بأقصى درجات التعقيم، خشية التلوث والإصابات، وخشية تمرير “فيروسات” قاتلة من المختبر خارجًا، نحو النشء والشبيبة، وهم الفئات الأكثر حساسية واستجابة لدروس الماضي.
والحق، فإني قد لاحظت أن المؤرخين غير الحريصين على وحدة ومستقبل الأمة بنفس درجة حرصهم على بلادهم أو الدولة التي ينتمون إليها، لا يتورعون من إيراد أي وكل شيء (بغَثِّه وسمينه) عندما يأتي الأمر إلى التعامل مع تاريخ العرب والإسلام. في كتابه الفذ الموسوم (محمد وخلفاؤه) بجزءين (Mahomet and His Successors)، يورد المؤلف واشنطن إرفنج Washington Irving (وهو أبو الأدب الأميركي)، كل ما تقع يده عليه من أحداث، بغضِّ النظر عن إيجابيتها وسلبيتها.
وبرغم حقيقة مفادها أن إرفنج قد ألف التاريخ أعلاه، بجزءين لقرَّاء أميركان في القرن التاسع عشر، إلا أنه لم يكن يتوقع أن رجلًا عربيًّا ومسلمًا من أمثالي سيضمِّن أفكاره التاريخية في أطروحة دكتوراه بعد حوالي مئتي سنة من نهاية حياته الإبداعية الزاخرة. وعليه أورد إرفنج قصصًا سلبية محبطة عن العرب والمسلمين وهم في أوج قوتهم (أمةً)، ليس بهدف الانتقاص أو الإساءة لنا، بقدر ما هدف إلى إطلاق هذه “القصص” السلبية كرسائل تنبيه وتحذير للجمهورية الأميركية الناشئة (حينذاك) على سبيل إحاطة أصحاب الرأي والقلم بأهمية الاطلاع على مثالب ما حدث في تاريخنا، والهدف إنما هو التحذير عن طريق تجنب أسباب الأحقاد والتنافس والانقسامات.
وفعلًا، يمكن لي أن أدَّعي بأن واشنطن إرفنج (مؤرخًا ورجل أدب) قد كتب الأدب، ولكن ليس بحس هوليوودي لينتقل أدبه إلى السينما بعدئذ؛ هو كتب مؤلفاته الإبداعية متيقنًا بأن القراءة الصحيحة لتواريخ الأمم الأجنبية (كالعرب، على سبيل المثال) تدفع به (مُشكِّلًا للرأي العام) إلى مصاف “الآباء المؤسسين”، كما تسمِّيهم الأدبيات الأميركية المعاصرة: بمعنى أنه لم يكن ليقنع بوصف “رجل أدب” أو “روائي” أو “مؤرخ”، لأنه كان يتطلع إلى موقع طليعي كواحد من مؤسسي الجمهورية الأميركية الفتية حقبة ذاك.
لقد عمد إرفنج إلى استحضار تاريخ أمة العرب والإسلام، أمة قوية فاتحة لأمم الأرض الأخرى؛ ولكن انتخابيته في قراءة تاريخنا وإعادة كتابته لقرَّاء القرن التاسع عشر في أميركا والعالم الغربي إنما تزخر بكل ما من شأنه أن يدفع المؤرخ ورجل الأدب إلى أعلى سُلم النظام الاجتماعي كقياديين وكبناة أُمَّة!
كاتب وباحث أكاديمي عراقي

التاريخ بين الاستلال السلبي والانتقاء الإيجابي

أحدث المقالات