نسمع منذ سنوات او بأدق منذ عقود بالدعوات الرامية لإصلاح التعليم العالي في العراق ، واغلب هذه الدعوات ركزت غاياتها على إعادة الاعتبار للتعليم الجامعي بمختلف مستوياته ليعود إلى سابق عهده في السمعة المحلية والدولية التي تؤكد متانة واستحقاق الشهادات الممنوحة والكفاءة التي يمتلكها معظم الخريجين بمختلف الاختصاصات ، وكان و لايزال الهم يركز على إعادة الهيبة للتعليم من حيث مكانة الجامعات وقبول شهاداتها في اغلب الإرجاء ، وهي دعوات ومحاولات محترمة ومشروعة تنبع من إحساس مهني ووطني رغم إنها لم تفلح بتحقيق الكثير من الأمنيات فجل ما تحقق فعلا هو اقل مما هو مطلوب ، فالمطلوب من التعليم من وجهة نظر المخلصين هو مواكبته للمستويات السائدة عالميا ومحاولة تحقيق السبق هنا وهناك على سبيل المبادرات او من خلال استثمار الطاقات الإبداعية التي لم تستثمر بمحلها الصحيح عند أصحابها من العراقيين ، والملاحظ بهذا الخصوص إن السنين التي مرت وتمر بدلا من أن تصلح الأمور إلا إنها تزيد الوضع سوءا عاما بعد عام ليس بسبب خلل في وزارة التعليم فحسب وإنما بمجمل البيئة الساندة للتعليم التي آخذت تتراجع بشكل ملحوظ عفويا او بفعل مقصود ، فالتعليم لا يختلف عن غيره من الكائنات الحية في الحاجة إلى عوامل وظروف مناسبة توفر العوامل الأساسية للانطلاق والتخلص من معوقات النمو ، واغلبنا يعلم بالأسباب التي أنتجت المستوى الذي كنا نباهي به غيرنا في مجال التعليم ، فسابقا لم تنقطع علاقتنا العلمية مع كثير من دول العالم المتقدم من خلال البعثات والزمالات كما إن العلاقة مع دور النشر لتزويدنا بالمصادر او المشاركة في الندوات والمؤتمرات لم تنغلق إلا بعد الحروب المتتالية التي عاناها البلد وما تبع ذلك من حصار ، وفي 1992 حصلت انعطافة غريبة بانعقاد ما يسمى بندوة النهوض بواقع التعليم العالي والتي تعد من كبريات الانتكاسات لأنها قررت ولوج الداخل لمضاعفة المقبولين بالدراسات العليا لإضعاف الإضعاف لتعويض توقف البعثات والنقص في الكفاءات الكثيرة التي هجرت البلاد خوفا من زجهم في الحروب او لتأمين أمنهم وقوتهم الشخصي والعائلي ، ولم يرافق ذلك إجراءات داعمة للتواصل عالميا بل حصل العكس بمعنى الانغلاق ، واستمر الحال على هذا المنوال مما أنشا فجوة كبيرة بين الداخل والخارج من حيث تداول المعارف والمهارات ومواكبة التغيير في قطاعات التعليم وأخذت المستويات تتراجع شيئا فشيء ، واعتقد البعض بان مبادرة ابتعاث الطلبة للجامعات العالمية الرصينة بعد 2003 التي تبنتها إحدى الحكومات ستصلح كثيرا من الأمور ، إلا ان هذه المبادرة رغم أهمية ولادتها فقد تعرضت للعديد من الهفوات يضيق المجال لذكر تفاصيلها في هذه السطور ، ورغم المبادرات الفردية للبعض من الأشخاص او المؤسسات في محاولة تحسين ترتيب جامعاتنا في التصنيفات الحقيقية ، إلا إن ما ثبت من الناحية العملية ان إعادة المكانة العلمية للجامعات العراقية بمستوى ما كانت عليه او أحسن منه أمرا تشوبه الكثير من التعقيدات سيما وأن البعض تمسك بسياسة توفير مقعد جامعي لكل خريج من الدراسة الإعدادية ( التي انطلقت في 1986) من خلال زيادة عدد المقبولين في الجامعات الحكومية والتوسعين العمودي والافقي او فتح الأبواب على مصاريعها للتعليم الجامعي الأهلي ، الذي منحت له هويته التجارية بشكل صريح لأنه يعتمد على التمويل الخاص دون أي دعم يذكر من الدولة يفسح المجال للتعامل معه كشريك للتعليم الحكومي ، ومن وجهة نظر البعض من المتابعين لأوضاع التعليم بشقيه الحكومي والأهلي فإنهم يصفونه بأنه متجه للهاوية وان مسألة إصلاحه بشكل شامل وجذري لا تشغل سوى وريقات تناقش هنا او هناك بشان السبل الكفيلة بصياغة او تبنى بعض الاستراتيجيات او غيرها من التسميات ، وهي مهمها بلغت من الكمال في الوصف ووضع الأهداف فإنها تصطدم عند التنفيذ بواقع لا يوفر حاضنة حقيقية للتعليم من الممكن إن تزيل الأسباب المعيقة للإصلاح فقد تصلح توصياتها كخطوط نظرية للشروع ، لكن عقباتها كثيرة وأولها التخصيصات المالية للتعليم العالي ضمن الموازنات الاتحادية التي تعبر عن نسب وأرقام تدعوا للاشمئزاز قبل الإحباط .
والأمر الآخر الذي زاد الأمور تعقيدا إن التعليم الحكومي والأهلي قد مضيا بسياسات للقبول بإعداد وتخصصات لا تتوفر لها الفرص في ولوج أسواق العمل عند التخرج او بعده بسنوات ، وبشكل أدى إلى تكدس أعداد كبيرة من الخريجين ممن لا تتوفر لهم فرص إثبات ذاتهم وتوفير لقمة عيشهم في مختلف القطاعات التي تعاني من اعتلال مخيف في الأداء رغم إن أكثرهم يمتلكون الرغبة والقدرة بهذا الخصوص ، فتوجهت أعداد منهم للعسكرة بالتطوع كأفراد بعيدا عن المواصفات من باب الاضطرار كما هاجرت أعداد أخرى بطرق شتى إلى خارج البلاد وافترش الكثير الأرصفة ليعملوا في البسطيات وغيرها كما توجه آخرون للعمل في وسائط النقل كسواق لسيارات الأجرة ، وهناك الكثير منهم نافسوا الآخرين للقيام بأعمال لا تتطلب اي مؤهل للتعليم كالعمل غير حرفيين في إعمال التشييد والبناء ( العمالة ) او كعتالين في الأسواق ، وصار الفرق واضحا بين مواصفات الأعمال وصفات العاملين فالهدف هو العيش حتى وان رميت الشهادات في الحاويات ، ولا نقصد بالضرورة حاويات القمامة وإنما في حاويات الملابس او الكتب او أي كان من الأماكن فالمهم الشعور بأنها لا تمنحهم التزكية للعمل في قطاع حكومي يعاني التخمة والترهل وقطاع خاص شبه معطل لانه محارب من خلال الاستيراد وقطاع مختلط ظل هويته بين العام والخاص ، ولا يتعلق ذلك بحملة الشهادات من الدراسات الأدبية والإنسانية وإنما بالعديد من التخصصات العلمية والهندسية التي لم تشمل بالتعيين المركزي ، ومن نتائج ذلك إننا نفقد الملايين او المليارات من النفقات في تخريج إعداد كبيرة من الطلبة الذين غاب عنهم الفرق بين الكم والنوع لان الاثنين ليس لهما طلب في أسواق الأعمال بوضعها الحالي ، كما تهددنا مسالة بقاء مئات الآلاف من الخريجين الشباب بدون أعمال منذ لحظة التخرج ولأجل غير معروف وبشكل يعرض ما تعلموه إلى التقادم وفقدان المهارات ، فالغالبية تنتظر إصلاح الوضع الاقتصادي في البلاد دون بذل المستوى المطلوب من الجهود والتركيز ونكران للذات وتخطيط موضوعي يقترن بإرادة في التنفيذ ، ظنا من البعض إنها تنزل نعمة من السماء كالإمطار او الرياح ،وهذه واحدة من المشكلات القابلة للتقدم وليس التقادم ولا نقصد بالتقدم بمعناه الايجابي وإنما تطورها لتشكل كارثة على البلاد ( لاسمح الله )، فالشباب من اكبر الطاقات التي تمتلكها الشعوب وان لم تستثمر بشكلها الصحيح فإنها تنقلب إلى وبال لا تحمد .