بهدوء وصمت ورهبة , انسلَّ من جنبات الحياة, راحلا الى الابد . رحل بلا كلام , ولكنه لم يكُ صامتا, فقد ترك الوانه البهية ولوحاته الانيقة المزدحمة بالمضامين تتحدث عنه , تكشف اسراره وتغني احلامه التي لم تتحقق وهو على منصة الوجود, انه الانسان, انّه الفنان الممتلئ كبرياء وثقة بالنفس, انه رافع الناصري الذي عرفته ليس كما كنت اسمع عنه , عرفته غيمة بهية حُبلى بالمطر النقي , انه حقل قمح اخضر على سهل من سهول محافظة صلاح الدين, انّه غنج بغداد الذي البسه البعض لبوسات كثيرة , اخذ البعض لونه الاحمر الوردي النابض بالحياة داخل لوحاته , ووضعه على قميص يوسف تهمة ! ولكن اللون تكلم وافصح قائلا ان الاحمر من دم رافع , ليكون هذا الـ رافع يوسف جديد
في قراءة شكلية وسريعة لأعمال رافع الناصري الاخيرة نستطيع تحديد بعض الملامح التي حكمت السطوح الرئيسية لأعماله وحددت ملامح معينة لها, ذلك لأن تلك الملامح هي أشبه بالإشارات التي تبعثها قوى خفية مختبئة لا يعلمها احد , وربما لا يعلمها حتى الفنان نفسه . اشارات هي علائم ونذر بركان انساني يعربد في الجوف ويبحث عن حيز رخو كي ينفلت منه إلى السطح . في لوحات الناصري , نرى شكلاً انيقا مهذباً لطيفاً ومتناغماً يفترش اللوحة، ونلاحظ انسجام كتلة الشكل مع حجم اللوحة التي ترافقه توافقاً وتكاملاً لونياً, لترتفع قدرته حد النطق، كما تتميز ألوانه عند تجاورها بإشعاع يصل حد الإضاءة لذلك نجد أن هذه الألوان تكشف أسرارعلاقتها بالضوء من خلال الحجم والمساحة والتجاور فتتألق مستنفرة ومتحدثة بكل طاقتها . ولذلك اللون (المعتق) هيئة تدل على الهيبة والأصالة والعراقة. اذ لا وجود للتباين اللوني في اللوحة الواحدة ولا بين اللوحات المختلة, فظلت اللوحات تتبادل وتتناول اللون الهادئ من الأصفر الذهبي إلى الأسود مروراً بدرجات الألوان المختلفة بين هذين اللونين. وإذا حصل وأن خرجت الفرشاة عن هذا السياق فلا يتعدى ضربة صغيرة تحمل شفرة أو رسالة أراد الفنان إيصالها للمتلقي . هذا بعض ما يمكن قراءته على سطح اللوحة وهو مرئي إلى حد ما، وقد حاول الفنان أن يوظف بعضه جمالياً بشكل تام, بعيداً عن أية ثيمة او لغة أخرى, كما هي جمالية النهار والليل التي لا تؤثر في الأشياء تأثيراً كيميائياً، وهو هدف سام يقع في صميم الرسالة التي يحملها الفن، وقد حمل في بعض من جوانبه إشارات يمكننا عند الإمساك بها, الدخول إلى صميم أعمال الناصري والتي تدل على جغرافية معينة ترتبط بها جغرافية الفنان النفسية على مستويين, الأول معاصر، والثاني مثيولوجي، إذ نرى مقاطعا أو أشطراً من أبيات لشعراء من بغداد مثل ابن زريق أو الأحنف على بعض اللوحات , عندها ندرك مديات مضامين اللوحة والحنين والشوق والألم الذي كان يعتصر قلب الشاعر وهو يغادر بغداد متوجهاً إلى الأندلس فيقول (استودع الله في بغداد لي قمراً) هذا الفراق وهذه الغربة اللذان لسعا ابن زريق وغيره هما نفسهما كانا يلسعان الناصري فيلوذ كما تلوذ حمائم بين الماء والطين عند الجواهري وهو يحيي دجلة فيقول (حييت سفحك عن بعد فحييني.. يا دجلة الخير يا أم البساتين).. هكذا تتحدث لوحات الناصري لوعة وحنيناً وحباً عارماً وألماً . ولكن كم تبدو ساكنة باردة لوحات الناصري لمن لا يملك مفاتيحها.. ومن يملك هذه المفاتيح سوف يرى كم هي مترفة ثرية هذه الاعمال , حيث الحروف والجمل والأشكال التي طمستها الألوان الداكنة وزحف عليها اللونان الأسود والأحمر الداكنان، لتقف ما بين التقادم والحروب بكل ويلاتها من القتل والدمار . وعشق المكان ومعرفته لمن ارتبطت أوردته مع الجداول والشوارع والبيوت..
في احدى المعارض التي اقامها الناصري في العاصمة الاردنية عمان قبل اعوام رأينا المعرض يتشكل من مجموعات تتوحد لوحاتها مع بعضها بصفات وخصائص وتختلف عن غيرها، من تلك المجموعات التي شكلت المعرض إجمالاً انذلك . رأينا مجموعة تظهر فيها الأعمدة والصليب، ويسودها اللونان “الأسود والأحمر” اللذان يتمازجان في بعض المساحات , بينما (الأصفر) أو اللون الذي يحمل إضاءة أكبر يتركز في الشكل (المصلوب)، وهناك أربع لوحات ظلت تحمل الألوان نفسها بالمساحات نفسها تقريباً مع اختلاف قليل أيضاً بالشكل, بينما تحرك اللون الأحمر النقي الفاتح بإشارات من خلال حجمه وشكل الخط وحركته، ومهما سادت العتمة في شكل اللوحة من خلال الألوان القاتمة فإن هناك دائماً مساحة ديناميكية مضيئة تصغر وتكبر، دائماً، وكأنها نافذة لدخول الضوء إلى اللوحة، التي تقودنا بدورها إلى اللامرئي في أعمال الناصري، وإذا كان التجريد ألغى التشخيص والقصدية في أسلوب وتكنيك الناصري فذلك ليس من أجل الغموض أو من أجل التجريد نفسه، ولكن حتى يتواءم العمل مع المناخات النفسية والفنية والفكرية للفنان وبواقعية خبرته الطويلة في البحث الدؤوب والجاد من أجل الوصول إلى حقائق يبحث عنها كل انسان مبدع .