نشر موقع كتابات خلال الاسابيع الماضية عدد من المقالات موقعة بأسم (كريم وحيد) وقد ذيلت احداها بعبارة (وزير سابق) وبعد مطالعتي لها تأكدت ان كاتبها هو الدكتور المهندس كريم وحيد حسن وزير الكهرباء السابق ، وقد شرح فيها بأسهاب معظم التفاصيل التي لازمت ازمة الكهرباء.
يشكل ملف الكهرباء اهمية بالغة ترتبط به جميع الملفات المتعلقة بالخدمات وبكل ما له علاقة بمتطلبات الحياة العصرية للانسان ، ناهيكم عن حجم اهميتها لكل القطاعات الانتاجية الاخرى كالصناعة والزراعة وغيرها، ولأن جل اعمالي منذ ثمانينات القرن الماضي كانت مرتبطة بهيئة الكهرباء سابقا ووزارة الكهرباء حاليا فاني تعرفت على الكثير مما يدور في كواليسها وعرفت عن قرب اغلب قادتها ومنهم السيد كريم وحيد (وان كنت لم ألتقيه سوى مرتين الاولى في تسعينات القرن الماضي والثانية في العام 2008 وكان لقاءا عابرا في احدى المؤتمرات)، وكنت قد وقفت على الكثير من التفاصيل الخاصة بموضوع الكهرباء وبهذا الرجل بالذات ، خصوصا بعد ان كلفوه بتبني ملف الكهرباء عقب سقوط النظام السابق في نيسان 2003 وما تبعه من استفحال ازمة الكهرباء فصرت متابعا ومسجلا للكثير من تفاصيل هذا الملف.
ولم يكن مفاجئا أن يتم اختيارالدكتور كريم وحيد من بين زملاءه في هيئة الكهرباء لاستلام هذا الملف سعيا وراء اصلاح ما افسده الدهر، فهو أحد أمهر الخبراء العراقيين في صناعة الكهرباء.
وقد أسفت كثيرا على حال هذا الرجل التكنوقراط الذي وضعته الاقدار وسط هذه المعمعة السياسية ووسط لعبة الكراسي والمناكفات المنافعية بين القادة الجدد الذين باغلبيتهم كانوا ومازالوا يلهثون وراء مصالحهم الضيقة دون ان يضعوا اي اعتبار لمصلحة العراق وشعبه المنكوب منذ عقود طويلة، وسأحاول هنا قدر تعلق الامر بالمعلومات التي لديّ أن أعطي لهذ الرجل حقه من الانصاف بكل أمانة.
لا تزال أزمة الكهرباء واحدة من أشد الازمات التي تقض مضاجع العراقيين وتنغص عليهم راحتهم وتتسبب في الكثير من مشكلاتهم اليومية ، وقد وصلت هذه الازمة الى ذروتها في نيسان من العام 2003، خصوصا بعد ان دمرت الآلة الحربية العديد من منشآت إنتاج الطاقة، وما تبعها من أعمال النهب والسرقات لعدد غير قليل من محطات الكهرباء وخطوط نقل الطاقة وأبراجها.
لكن الذي حصل بعدها أن مجلس الحكم المحلي (أحد مؤلفات الإحتلال) عندما شكل اول وزارة عراقية في النظام الجديد ، ووفق تقسيمات المحاصصة الطائفية التي بدأت أدوارها منذ ذلك الحين، (مُنحت) وزارة الكهرباء الى مكون مذهبي يختلف عن مكون (كريم وحيد)، فتم تجاهله وإستيزار المقاول الاميركي (أيهم السامرائي)، ولم تمض أسابيع حتى فاحت رائحة الفساد في كل مفاصل الوزارة، وتصاعدت الأصوات الإحتجاجية ضده، فمثل امام القضاء وحكم عليه بالسجن لثلاث سنوات (ليتم تهريبه من قبل الاميركان بعد مرور شهرين كونه يحمل الجنسية الأميركية) ، وعندما بدأ الحراك لتشكيل الوزارة الثانية وجهوا الدعوة مجددا للدكتور كريم وحيد لإستيزاره، لكن حسين الشهرستاني (صاحب النفوذ الحوزوي) وقف ضد هذا الترشيح، لا لمصلحة وطنية عامة بل لرغبته في إستيزار صديقه (كندي الجنسية) المهندس (محسن شلاش) ودارت الدائرة من جديد وظلت الأزمة تراوح في مكانها، ولم يفلح الوزير الثاني (لعدم خبرته) في تقديم أي علاج لحل أزمة الكهرباء، غير تحويل داره في المنطقة الخضراء الى دار لياليه حمراء، لتمر شهور أخرى ولم يجدوا بدا من إستيزار كريم وحيد عند تشكيل الوزارة الثالثة بداية العام 2006، ليكون أول وزير تكنوقراط وربما آخر وزير بعد العام 2003، فما الذي حصل ؟
لكريم وحيد تاريخ طويل مع كهرباء العراق، وإشتهر أسمه بشكل خاص بعد نجاحه ومعه فريق من الخبراء في إعادة منظومة الكهرباء العراقية الى العمل بعد انتهاء حرب الخليج الثانية (احتلال الكويت) في العام 1991 ، لينجحوا بوقت قياسي وبما توفر لديهم من البدائل والمواد الإحتياطية، بإعادة تأهيل أغلب المحطات الكهربائية، وهو ما دفع الحكومة العراقية آنذاك الى إقامة إحتفال للإشادة بطاقم العمل العراقي الذي حقق ذلك الإنجاز متحدين ظروف الحصار الكامل الذي ضرب حول العراق، وعلمنا بعدها أن رئيس النظام السابق صدام حسين فاجأ المحتفلين بقوله – وهو يحيي الدكتور كريم – (حيّوا معي فارس الكهرباء)، ولم يتوقع الرجل أن هذا اللقب سيسبب له في المستقبل العديد من المشاكل، بل وصار من السهولة عند الآخرين أن يطلقوا عليه أوصاف ليس أقلها أنه (من أرباب النظام السابق)، علما أن الرجل هو أحد أثنين استثناهما ذلك النظام من شرط الانتماء للحزب عند تسنمه منصب مدير عام الدائرة الفنية في هيئة الكهرباء، ولا دخل له بالسياسة وتنظيماتها على الاطلاق.
وجد الوزير الجديد نفسه محاصرا بمجموعة فرضتها عليه المحاصصة ولأن الدكتور كريم وحيد من أرباب النظام السابق!! (بحسب ما ينعته خصومه) فأنه ظل يتحمل إشتراطات هذا الواقع أملا في خدمة وطنه وتحقيق إنجاز آخر يضمه الى إنجازاته السابقة، فواجه ضغوطا ليست قليلة ، مثال ذلك ، قبول طلبات التعيين المتتابعة (التي يبعثها النواب والمتنفذين) لجيش من غير المؤهلين وغير المنتجين الذين أصبحوا عبئا ثقيلا على الوزارة، حتى غرقت الوزارة بأرقام مضاعفة من المنتسبين يثقلون ميزانية الوزارة بلا أي عمل مقابل الرواتب التي يتقاضونها، بل تحول بعضهم الى أحدى أدوات الفساد والأفساد فعلى سبيل المثال، أخترعت كل جهة سياسية نقابة خاصة بها وعلى الوزارة أن تتكفل بتوفير مكتب لكل نقابة مع سيارة أو أكثر إضافة الى قطعة سلاح لكل نقابي (…!!!…) مع هاتف فاتورة مجاني دون أن يكون لديهم أي عمل له علاقة بصناعة الكهرباء !.
ورب سائل يسأل (ما الذي يجبر هذا الوزير على تحمل كل ذلك؟ أما كان من الأجدر به أن يعتذر عن هذا المنصب)، ….. لكن الذي يعرف كريم وحيد سيجد أكثر من جواب على هذا التساؤل، كانت وطنيته بحق هي الغالبة على جل سلوكه مثلما الصورة التي وجدته عليها أيام النظام السابق، كان يريد أن يمضي بلقبه (فارس الكهرباء) الى النهاية، كان يريد أن يحقق إنجازا لوطنه يفخر به ويحفظ في سجله الشخصي، معتبرا أن كل تلك المنغصات والصعوبات لن تكون مانعا أمام أصراره.
بل وجدناه لم يتراجع حتى بعد تعرضه الى عدة محاولات إغتيال له ولافراد عائلته، والتي انتهت بتعويق اجساد إثنين من أبنائه عندما إستهدفوهم في جامعاتهم، ما دفعه في النهاية الى أخراج أبنائه من العراق وتوزيعهم طلابا للعلم في جامعات الدول المجاورة فيما سكنت زوجته في العاصمة الاردنية ليبقي هو وحيدا في بغداد.
أصبحت منشآت ومحطات وزارة الكهرباء وشخص الوزير والخبراء والفنيين هدفا مهما للعصابات الأرهابية ، وعلى مدى سنتين من العام 2006 وحتى العام 2008 كانت منتسبي الكهرباء يعملون وسط ميدان (حربي)، فأغتيل ما يزيد على ألف خبير ومهندس وفني وعامل وعنصر حماية.
وسط هذا المناخ الأمني المتدهور، يصعب على أي من الشركات الأجنبية العمل داخل العراق مهما كانت الاغراءات المالية، لذلك لم تبدأ الوزارة عملها الفعلي إلا في حزيران من العام 2008.
نقل لي احد الاصدقاء أنه واجه الوزير كريم وحيد بالقول (وسوى الروم خلف ظهرك روم ، فعلى أي الجانبين تميل) مستشهدا بقصيدة المتنبي الشهيرة … فقد كان (خلف ظهره) أي الميدان الثاني الذي عليه مواجهة نيرانه، هو صراع الكتل السياسية ونياتهم المبيتة لإفشال بعضهم البعض ولو على حساب ضياع مصالح الشعب والوطن الخائب ، ومنها على سبيل المثال، تفويت الفرصة على تحقيق أي منجز يسجل للحكومة!!، في وقت ليس لوزير الكهرباء فيه وفي هذا الصراع المصالحي والسياسي أية ناقة أو جمل، لذلك كان أهم معوقين واجها الوزير هما معضلتا التخصيصات المالية، وتوفير الوقود اللازم لتشغيل المحطات الكهربائية.
وفي المقالات التي نشرها الدكتور كريم وحيد في هذا الموقع المحايد (كتابات) خلال الاسابيع القليلة الماضية الكثير من الأجابات التي توفر علينا جهد الحديث عنها وعن ظروف عمل الوزير والوزارة والانجازات التي قامت بها والتعجيزات والصعوبات التي واجهتها والتي أخرت بالتالي إنجاز المشاريع الإستراتيجية التي عرضها الوزير على مجلس الوزراء والبرلمان العراقي لسنتين كاملتين على حد ما ذكره هو في مقالاته، ……. وبالتأكيد فان المحصلة النهاية لكل تلك الصراعات السياسية هو المزيد من الأذى والضرر والعسف الذي لحق بالمواطن العراقي وزاد من معاناته.
وعندما عجزوا عن لجم اصراره وبعد ان استنفذوا كل وسائلهم ، عمدوا الى افتعال مظاهرات زج بها بعض البسطاء من ابناء شعبنا المحروم لارغامه على الاستقالة من منصبه!، وما يؤكد ذلك ان تلك الاحتجاجات توقفت فور استقالته من دون ان تتحق ما زعموا انهم تظاهروا من أجله!!، ولم يكتف بعضهم بذلك بل ذهب الى حد ملاحقته ببعض الاشاعات والتلفيقات للطعن في نظافة يده ونزاهته.
ومن سخرية ومفارقات القدر أن يتسارع المسؤولون اليوم لقطف ثمار ما أسسه وما بناه كريم وحيد في سباق (قص شريط افتتاح المحطات)، والتحدث لوسائل الاعلام عن منجزات لا دخل لهم فيها!.
هذه كلمة إنصاف بحق هذا الرجل التكنوقراط الذي وضع في العام 2006 الاسس السليمة لبناء مؤسسة حديثة ومتطورة للكهرباء العراقية اعتمدت فيها التكنولوجيا المتقدمة في المشاريع الجديدة المجهزة من الشركات العالمية المتخصصة بصناعة الكهرباء ، (لا تلك المتلكة أو الموضوعة على اللائحة السوداء أو المُرشية التي حاولت بعض الاطراف النافذة فرضها عليه ورفض !!، مع التذكير دائما أن الفترة الحقيقية لعمل هذا الوزير لم تتجاوز الأشهر كما أوضحناه سلفا، وكان عمله اليومي فيها لا يقل عن ثمانية عشر ساعة متواصلة ومعظم منتسبي الوزارة يعرفون ذلك جيدا، وهذا ما جعله يعاني من متاعب صحية مزمنة ازدادت بمرور الوقت ، ونقل لي مؤخرا أنه أصبح زبون دائم لأخصائيي القلب والشرايين ، نتمنى له ولكل الوطنيين الشرفاء السلامة والشفاء.
[email protected]