العمل هو عنوان لشخصية الرجل او المرأة على حد سواء، فهو يمثل القيمة الذاتية للشخص القائم به على اختلاف انواعه واشكاله، سواء كان وظيفيا ام حرا ام خدميا انسانيا الى اخره.
فأن بداية اي ارتباط عملي للانسان ما هو الا اختيار شخصي لمهنة ما وجد المعني نفسه قادرا على الابداعوالتميز من خلالها، وانه قادر على تحقيق جميع احلامه من خلال النجاح وتقديم الافضل، بل احياناالقتال لاجل ذلك النجاح، برغم وجود بعض الحالات الشاذة التي تجبر اصحابها على امتهان اعمال لا يرغبون بها، غير ان هذه الحالات تبقى محدودة ولا تمثل نموذجا شائعا في المجتمع، حيث نبقى نركز على الأعم لا الأخص في مواضيعنا وكما تعودنا ضمن سلسلة مقالاتنا المجتمعية السابقة.
اذن، تعلق الانسان بعمله يعد تعلقا سايكولوجيا لا اراديا، فنرى الشخص ايا كان متطبعا متعايشا بشخصية عمله وكأنه جزء لا يتجزأ من تلك الشخصية، حيث تضفي كاريزما المهنة المعينة بظلالها على صاحبها فيصبح انعكاسا اجتماعيا لها بإرادة او من دون إرادة، وهذا ما نراه في المهن الصناعية او التعليمية الاكاديمية او العلمية او البحثية او التجارية على اختلافها، فنرى صاحب الحرفة الصناعية يكون متمردا على الاسس العلمية او المبادئ العامة للمجتمع المعني، كون مهنته تستوجب القفز احيانا على هذه الامور، بينما نرى المعلم او المدرس وكذلك الاستاذ يتمتع بشخصية تربوية ابويةاستيعابية، في حين نرى العلماء والباحثين منغمسين ببحوثهم حتى في علاقاتهم الخاصة، بل تحوّلت حياتهم الى بحث كبير متعدد التجارب، اما اذا تطرقنا الى لغة التجار او العاملين في هذا المجال، لعل مخيّلتنا تقترب مباشرة من مفردة تعودنا عليها جميعا وننطقها على هذه الشريحة، وهي كلمة (ابن سوق)، انطلاقا من ايماننا بأن هذه الشريحة تمتلك شخصية خاصة تمتاز بالذكاء وتجاوز الصعاب والتحايل احيانا على الاخرين، مستخدمين الدهاء تارة، وتارة اخرى استغلال الغير، وهذه الصفات مؤكد انها جاءت من طبيعة عملهم الذي يحتاج في كثير من الاحيان الى هذه الصفات لتجاوز الازمات والمشاكل التي يعترض لها من حين لاخر، وكذلك لزيادة ارباحهومنافسته لاقارنه، وبعيدا عن المهن الاخرى التي لا تعد او تحصى وهي بالمئات والتي لا يسعنا الحديث عن تفاصيلها بقدر ما ارتأينا اعطاء امثلة كبيرة عنها،لايصال فكرة ان تقمّص شخصية الانسان لمواصفات عمله ما هي الا اندماج نفسي كامل بين العمل وصاحبه، وان هذا الاندماج لا يمكن له ان يكون الا عن طريق اقتناع وايمان شديدين به من الانسان المعني.
وحتى نكون قريبين من محور موضوعنا الحالي،وقادرين على ايصال فكرة نراها موضوعية للقارئ الكريم، فأن تبيين ما تقدم كان ضروريا لمصارحة الناس بحقيقة ربما لم يتطرق اليها احد من الكتاب او جاء ذكرها بصيغة مختلفة وبدلالات اخرى.
الحقيقة سالفة الذكر تتمثل وبوضوح ومصارحة تامة ان كره الانسان لعمله بصورة مفاجأة من دون مقدمات بعد ان كان مندمجا به ومتعايشا في تفاصيله لم يكن يوما مصادفة او مزاجية انسانية كما توصف من البعض، انما كان نتيجة لامر ما حصل في دواخله جعل من شخصيته نافرة للعمل الذي يقوم به، وان هذا الامر من المؤكد انه ليس تبدّلا في المزاج وبدليل لا يقبل التشكيك، مفاده ان تبدّل الزاج لا يأتي مرة واحدة انما يتكرر في مرات عدة لدى اي انسان تمتاز شخصيته بالمزاجية، وهذا واضح وموثّق لدى الجميع، اي ان الايمان بعد عشرات السنين من الابداع والنجاح والتألق بعمل ما ثم النفور منه والاستقرار في مجال اخر لمرة واحدة، لا يمكن لاي عاقل ان يوظفه تحت خانة المزاج المتقلب. اذن ما الذي حصل؟، هذا السؤال نعرف انه يتبادر الى ذهن جميع من يقرأ حديثنا الحالي، والجواب سيأتي مباشرة الان..الجواب هو ان انتقالة سايكولوجية شهدتها شخصية الانسان جاءت نتيجة لتراكم الخبرات في مجال عمله او رقي في مستوى ادراكه الذاتي او شعور ناجم عن ايمان بقدرته على خوض معترك اكبر تميزا وسطوعامن مجاله المهني، احد هذه العوامل كان وراء تلك الانتقالة في الولاء او الانتساب لعمل او مهنة ما.
ولعل سؤالا يتبادر الى ذهن القارئ وهو، هل ان ذلك يعد حالة ايجابية ام سلبية للانسان؟، الجواب هو انالشخص المعني كفيل بتحويل هذه الانتقالة الى حالة تطويرية تكاملية في حياته، او انتكاسة ربما تقضي على مستقبله من الاساس، وهذا الفرق في النتيجتين ربما جعل البعض يعتبر الانتقالة المذكورة او يصفها بـ(سلاح ذو حدين).
ان الانسان بتنوع طباعه نراه قادرا على تعزيز امكاناته الذاتية اذا ما رغب بذلك، وان الظروف لن تقف عائقا ابدا امام احلامه او طموحاته اذا ما آمن هو وبشكل مطلق بتلك الاحلام وقدرته على بلوغها، وبالتالي فأن هذا الايمان هو من سيكون بيضة القبان او كلمة الفصل في تحديد اي الخيارين المتناقضين سيسلك هذا الشخص المنتقل سايكولوجيا.
ما تقدم لا بد ان يعطينا نتيجة واقعية لا تقبل الجدل وهي ان ثقة الانسان بنفسه وايمانه بذاته في تحقيق نجاح اخر في مجال مخالف لمجال عمله الذي بدأ بفقدان ولائه له سيكون مفتاحا لألق جديد، والعكس سيكون تماما صحيحا، اي ان الشخص الذي يرى انه غير قادر على خوض غمار مغامرة جديدة وغير مؤمن بذاته في تحقيق نجاح اخر في مجال اخر، فأنه سيكون انتحارا لذاته في حال تم اتخاذ القرار بترك المجال المهني المعتاد، وعلينا عدم الاستهانة بقدرة ملايين الاشخاص على إدراك هذه الحقيقة، حيث نرى ذلك جليا بترددهم في ترك اعمالهم حتى وان مروا بتلك الانتقالة، غير انهم في الوقت ذاته لن يكونوا قادرين على الاستمرار في ذات تألقهم السابق كونهم سيعملون بلا ولاء او اندماج كنا قد تحدثنا عنهما سابقا، لذا فأن السلبية سترافق عملهم الى ان يخلق الايمان الكامل والمطلق في صدورهم على حتمية انتقالهم وضرورة القتال من اجل نجاحهم في المجال الاخر الذي سيختارونه بمحض ارادتهم ليكون منطلقا جديدا لهم في حياتهم. فالنتيجة حتمية والانتقال لا مفر منه، الا ان تنفيذه سيتوقف على تهيئة الانسان لذاته قبل الشروع الفعلي لتحقيق نتيجة مثلى لهذا الانتقال وبأقل الخسائر الممكنة.