تحت عنوان «خلافة السيستاني بين الجدل الديني والحذر السياسي»، كتب المحرر السياسي لجريدة (المستقبل) التي تصدر في لندن ويرأس تحريرها علاء الخطيب في العدد ٢٣ في ٠٦/٠٦/٢٠٢١ عن خلافة السيستاني بعد وفاته.
وكمقدم لا بد أن أشير إلى بعض ما أراه مهما لهذا البحث. شخصيا نقدت نظرية ولاية الفقيه في نهاية الثمانينات، التي آمنت مع كثيرين بها بمجيء الخميني، حيث أركنا عقولنا جانبا، لنترك زمام أمورنا بيد العاطفة الساذجة، بل ورغم أني كنت ما أزال للأسف إسلاميا، ولو كنت أعتبر نفسي منذ بديات التسعينات إسلاميا ديمقراطيا، ثم تطورت إلى ديمقراطي إسلامي، قبل أن ترسو سفينتي على مرفأ العلمانية في أواخر ٢٠٠٦، ولم أكن أخلو حتى كإسلامي من نزعة علمانية كانت تتململ وتنمو، حيث اعتمدت في مطلع التسعينات ألّا يتدخل المرجع الديني في السياسة، وكانت لي محاضرة عام ٢٠٠٢ في لندن، أثبتُّ فيها بأدلة شرعية – كمتشرع التزاما وثقافة آنذاك – عدم امتلاك المرجع دورا ولائيا، بل اعتبرت دوره إفتائيا محضا للشيعي المتدين حصرا. ونشرت الموضوع بعد ٢٠٠٣ في جريدة البيان التي صدرت في بغداد لإبراهيم الجعفري كمقالة، سببت حرجا لحزب الدعوة، أتبعتها بمقالات أخرى، منها ما أثبتُّ فيه عدم وجود فتوى سياسية للمرجع ملزمة من الناحية الشرعية، وكون أي وصية سياسية لمرجع ما غير ملزمة شرعا. وهذا ما دعا اللجنة التي شكلتها المرجعية لتزكية المرشحين ضمن قائمة الائتلاف العراقي الموحد رقم ١٦٩ التي عرفت بقائمة الشمعة، والتي لا يشرفني أني كنت عضوا فيها؛ ما دعت هذه اللجنة، لاسيما عضوها آنذاك حسين الشهرستاني على الإصرار على شطب اسمي، بمبرر أني مناوئ للمرجعية. وكذلك في الجلسة الأولى لاجتماع أعضاء قائمة الائتلاف العراقي الموحد (الشيعسلاموية)، عندما طرح مدير الجلسة همام حمودي شروط رئيس الوزراء، وكان أحدها أن يكون منسجما مع المرجعية الدينية العليا وملتزما بتعلمياتها، رفعت يدي واقترحت رفع الالتزام بتعليماتها، لأن المرجعية حسبما قلت آنذاك ليس بصدد إصدار تعلميات سياسية، حتى يجب الالتزام بها، فرفع يده على الفور فالح الفياض الذي كان ما زال في حزب الدعوة والذراع الأيمن للجعفري، فأكد إن موقف الحزب هو وجوب الإبقاء على النص الذي جاء في الشرط المذكور حرفيا، ودون تغيير أي كلمة، وهكذا لامني نوري المالكي وغيره. وهكذا رفضت مطالبة أحمد الصافي والمجلس الأعلى إدراج مادة خاصة بالمرجعية في الباب الأول المعني بالمبادئ الأساسية.
لكننا لا يمكن أن نقول ما شأننا بالمرجعية، ما زلنا علمانيين، ندعو للفصل بين الدين والسياسة، فالمرجعية شئنا أو أبينا، أحببنا أو كرهنا، أصبحت واقعا مؤثرا في الشأن السياسي، ولذا لا بد من أن يكون لنا موقف واضح منها.
والآن مع ما ورد في مقالة المحرر السياسي لجريدة (المستقبل)، وأحتمل إن كاتب المقالة هو نفسه رئيس تحرير الجريدة علاء الركابي، الذي حسب تقديري له نزعة إسلامية ولو معتدلة، ويقال أنه قريب من لآل الحكيم بشقها السياسي.
يقول المحرر السياسي لجريدة المسقبل في مقالته: «علمت المستقبل من مصدر مباشر موثوق من محافظة النجف الأشرف أن حراكا دينيا ونقاشات تدور في الأوساط الحوزوية المقربة من المرجعية الدينية الشيعية العليا حول الشخصية التي ستخلف المرجع الإسلامي الشيعي الأعلى في العالم السيد علي السيستاني بعد عمر طويل بإذن الله.»
وأضاف «وقال المصدر إن شخصية السيد السيستاني ذاتها ودورها السياسي وتاريخ تعامل مرجعيته مع التعقيدات التي حصلت في العالم الإسلامي لاسيما الأحداث التي عصفت بالعراق وكاريزما الشخصية التاريخية فضلا عن أعلميتها خيمت على أجواء النقاش».
طبعا هذا ليس بالجديد، فمنذ مدة ونحن نسمع بنقاشات حول خلافة السيستاني. لكن لنتوقف عند مفردتين يرى المقال تميز السيستاني بهما، وهما الكارزما التي يتمتع بها، والأعلمية. الكاريزما لا تتحقق إلا من خلال التواصل مع الجمهور، ولو عبر الفضائيات، لأنها تتكون من خطاب الشخصية الكارزمائية بما في ذلك لغة الجسد، والسيستاني كما هو الحال مع مرجعيات النجف التقليدية لا تحتك عادة بالناس، إلا بشكل محدود فيما يعرف بـ (البراني)، والذين خرجوا عن هذا التقليد هم الخميني ومحمد حسين فضل الله ومحمد محمد صادق الصدر. ولذا لا أدري من أين جاء كاتب المقال بالكاريزما، ولو إن شخصية السيستاني قد لا تخلو من شيء من ذلك.
أما الأعلمية، فهذه نقطة خاضعة للنقد حتى داخل أجواء الحوزة، فنحن لا نجد في أي ميدان من ميادين العلوم الطبيعية، ولا حتى العلوم الإنسانية قول إن فلانا هو أعلم أقرانه، فهذا ما انفردت به الحوزة العلمية الشيعية، وفي الواقع هو إن كل مرجع عندما يكون مجتهدا وبالتالي مكلفا شرعا حسب النظرية الشيعية بالعمل باجتهاده، وعدم جواز تقليده لغيره، وخاصة عندما يكون له مقلدون، حتى لو شكلوا عددا محدودا، فهو عندما ينشر رسالته العملية، يكتب في بداية رسالته إن العمل بها مبرئ للذمة، أي يجوز تقليده في ضوء ما جاء فيها من أحكام استنبطها من المصادر الشرعية، ويكون مبرئا لذمة المكلف المقلد أمام الله، وعندما يتناول شروط التقليد يقول يجب تقليد الأعلم، وبما أنه أجاز تقليده هو، فهو ضمنا يقول بأعلميته. وهذا شيء غريب لا نجده في الميادين الأخرى من فيزياء وكيمياء وعلم اجتماع وفلسفة وعلوم سياسية وطب وغيرها، بحيث يقل أحد علماء أحد تلك الميادين إني أعلم أقراني. لذا فإن القليل من المراجع المجددين نسبيا لم يقولوا بالأعلمية، ومنهم محمد حسين فضل وكمال الحيدري. ثم فقه السيستاني هو فقه تقليدي ليس فيه ما يدل أنه الأعلم من بقية أقرانه، بل عليه الكثير من الملاحظات والإشكالات، التي لا نلتفت إليها، لأننا اهتمامنا فقط بالجانب السياسي من شخصية السيستاني، وهذا ما سأناقشه لاحقا. وعندما أقول ما قلته بخصوص دعوى أعلمية السيستاني، فهذا ليس من قبيل الانتقاص من المرجع، بل هو موضوع يجري الجدل فيه حتى في الكثير من الأوساط الحوزوية، وهذا ما عاشيته شخصيا.
وكذلك ما ذكرته المقالة كمعلومات انفردت بها (المستقبل) بوجود كلام عن «مقترح قدم من طلبة الحوزة العلمية إلى السيد محمد رضا السيستاني نجل المرجع السيستاني لأن يكون خليفة لأبيه وأن يصدر توجيه من المرجع الوالد يشير إلى ذلك، لكن السيد محمد رضا اعترض بحزم على طلبته (حسب المصدر) وقال: إن هذا الأمر لا يمكن أن يكون وراثيا يوكل لي أو لغيري بهذه الصفة، والنجف لم تعتد على مثل هذا الأمر»، فهو الآخر ما سمعنا عنه قبل مدة وليس بالجديد، ورد محمد رضا السيستاني الذي نشرته (المستقبل) هو المتوقع، لأنه تقاليد المرجعية في النجف لم تألف فعلا التوريث ولا التنصيب ولا التوصية من المرجع السابق بخليفة له.