في مطلع ثمانينيات القرن الماضي والحرب مع ايران في أوجها، وفي بلدتي سنجار الواقعة قرب الحدود السورية في اقصى الشمال الغربي من العراق، وللتغطية على فضائع تلك الحرب العبثية وإشغال الرأي العام بأعداء مفترضين، كانت السلطات تختلق قصص وروايات لتمريرها على الأهالي، حيث قتلت قوات الامن اثنين من الرعاة عند الحدود الدولية المغلقة مع سوريا التي وقفت الى جانب ايران في تلك الحرب، وأدعت بانهما مخربين قادمين بأوامر من النظام السوري للقيام بأعمال تخريبية في العراق، حيث نقلت الجثتين الى ساحة في سوق المدينة الرئيسي، ليبدء مهرجان الرقص على جثث الموتى، باحتفال كبير حضره قائممقام القضاء ومسؤول حزب السلطة وكل ادارييها المدنيين والعسكريين وجمهور غفير من الاهالي أجبر على الحضور، في مشهد مقرف من الشعارات والهتافات مع تسابق مقزز في ركل الجثتين معلنين انتصارهم على المخربين المعارضين للحزب والثورة وسط هتافات تمجد الحزب والقائد وتدعو الى تحرير كامل تراب فلسطين من الصهاينة وعملائهم من امثال اصحاب هاتين الجثتين والنظام السوري الذي ارسلهما!؟
وبعد عدة ايام ظهرت حقيقة تلك الجثث واصحابها، واكتشف الاهالي بانهما لشخصين من الرعاة البسطاء الذين لا يعرفون الجمعة من الخميس كما يقولون ولا علاقة لهم لا بالسياسة ولا بالمعارضة ولا يفقهون شيئا غير مهنتهم في الرعي واصوات اغنامهم، حالهم حال اولئك الهاربين من الخدمة الالزامية الذين توهموا بمرور سيارة الشرطة التي كانت تقل القائممقام بالقرب من مكان اختبائهم، حيث ظنوا انهم يستقصدونهم، فاطلقوا نيران بندقيتهم التي قتلت القائمقام واصابت شخصا اخر، وفوجئنا جميعا ببيان الحكومة الذي اعتبرهم عملاء الامبريالية والصهيونية الذين يعرقلون مهمة العراق في تحرير فلسطين!
واليوم حيث يعيد التاريخ نفسه في سنجار كما في غزة، بعناوين جديدة وبعث جديد، لكنهم بذات العقلية في التهريج والمزايدات، وايهام الناس ببطولات فارغة تعتم على جرائم وممارسات هدفها السلطة والمال، وقد تذكرت الحادثتين في مدينتي وانا اراقب (دقاقين الثوم بعكوسهم)* من الذين يرقصون على مآسي الآخرين ويتاجرون بقضية شعب تسببوا هم وانظمتهم وأحزابهم وحركاتهم في ضياعه وتشتت قضيته وتجزئة كيانه الى حكومتين متعاديتين، حيث أقاموا مهرجانات (الانتصار العظيم) التهريجي على الكيان الصهيوني في بغداد وصنعاء ودمشق وطهران وبيروت على خرائب غزة وانين الثكالى من رجالها ونسائها واطفالها الذين فقدوا أكثر من 243 من أحبائهم الذين قتلوا في القصف الجوي وإصابة أكثر من 1900 شخص آخر، ناهيك عن نزوح 75 الف مواطن وتدمير العديد من ابراج غزة وبنيتها التحتية من المصانع والخدمات.
وهكذا ومنذ مأساة 1948 وفي نهاية كل حرب مع اسرائيل يعلن جنرالات السياسة وخطباء المنابر الانتصار الباهر على العدو الصهيوني بأقامة مهرجانات وإعلان خسائر العدو التي هزت كيانه وزلزلت الأرض تحت اقدامه، وتنبري جوقات المهللين والطبالين من مجاميع الدعاية وغسل الدماغ بايهام العامة بالنصر الألهي على العدو الكافر، مستخدمين العقائد الدينية اسوء استخدام لتوظيفها في تكريس كذبتهم وفضيحتهم التي شهدنا تفاصيلها منذ حرب حزيران المخزية، ومرورا بحرب اكتوبر التي تم تصويرها بالنصر الساحق، وصولا الى حرب حزب الله التي أشاعت فيها اجهزة دعايته بأن الائمة شاركوا جميعا بتلك الحرب التي دمرت لبنان وبيروت ولم تنهض لحد اليوم، وأخيرا في مسلسل الهزائم والاكاذيب والاستثمار القذر لقضية شعب اوهموه بانهم سيحررون وطنه حتى وان تم تدميره بالكامل، طالبين منهم الصمود والاستمرار بالبقاء في المخيمات ودول اللجوء حتى تبقى كراسيهم مؤمنة وحكمهم مستمر ورايتهم خفاقة!
انها مسارح التهريج التي يرقص على حبالها تجار الشعارات الذين حولوا واحدة من اكثر قضايا الشعوب مأساوية في فلسطين الى مهرجانات استعراضية دعائية تتلذذ بعذابات ضحايا تلك الحروب التي يدفع ثمنها شعب تم تمزيقه وتوزيعه على كل انظمة واحزاب الشعارات والتهريج الاعلامي، وعلى مدينة سنجار واهاليها الذين رفضوا العودة اليها بعد أن غزاها فرسان المزايدات والتهريج والارهاب من داخل البلاد وخارجها باسم الدين تارة وبأسم العراق وكوردستان تارة اخرى!
* مثل من الدارج المحلي يضرب على الفضوليين الذين يهرسون الثوم بمرفق ايديهم!