23 ديسمبر، 2024 8:24 ص

المتنبي ،،العائق الأكبر

المتنبي ،،العائق الأكبر

لا يفكر الشعراء بالتفوق على المتنبي؟ ولا بمنافسته ، قد يفعلون ذلك مع الجواهري او شوقي او أبي تمام . حتى الجواهري نفسه لم يجرؤ على القول اني انافس المتنبي او لعلي اتفوق عليه ، ولن يقول! هو يعرف من يكون غريمه في دنيا الشعر و إن غاب ذلك الفهم عن غيره ممن هم دونه من الشعراء ، ذاك ان أفضل من يمكن ان يقيم لك مبدعا او محترفا هو أقرب منافسيه ان أنصف ، و أكثرهم براعة في الصنعة بعده ، و هذا من إننا لانعرف كل أسرار الأمر كما يعرفه هو ، ولا ندري ما الحاجز الذي صادفه و أوقفه و أوقف الاخرين ، وجعل غريمه فقط هو من يجتازه ويسبقه ويسبقهم ، هو فقط يدري كيف ان شيئا ما لم يستطع هو أن يجيده فاجاده من هو خير منه (في الصنعة) ، فاثار ذلك اعجابه اكثر منا جميعا لاننا “عجم” في ذلك ،ولذلك قال فيه:
فتىً خبطَ الدُنى والناسَ طُراً ،،،،، وآلى أن يكونَهما فكانا
ونحن انما ياتينا الابداع منجزا جاهزا لا ندري ماصرف عليه لإنجابه وتربيته وانضاجه .
هل يجرؤون اذن على منافسة امريء القيس او الأعشى او زهير؟ لايعنيهم ذلك! فكرة غريبة جدا لو التفت اليها ، لايعنيهم النابغة و لبيد وذا الرمة ؟! نعم لايعنيهم ذلك . فالناس مع الشعر دهران ، دهر قبل المتنبي ودهر بعده .
وظن الناس ومعهم النقاد والرواة والمتذوقون ان المتنبي ماترك أحدا امامه ، وهيمن على الشعر حديثه وقديمه ، و لا اميل لهذا الراي، فما بعده ما زال شطر منه في علم الغيب ، و لكن هذا ابن سيده الاندلسي يقول : “كنا منشغلين بشعرائنا في المغرب و لانحسب احدا اعظم منهم حتى بلغنا ديوان المتنبي فهجرناهم جميعا و صرنا نتحلق حول ابياته حلقات” و قد ألف كتاب (مشكل ابيات ابي الطيب). حيث المعاني التي يجربونها أول مرة . و قد صدق صنوه اذ قال :
وطاوعَكَ العَصيُّ من المعاني ،،،،وكم غاوٍ ألحّ به فخانا
نعم ،،القول ان فلانا اشعر اهل زمانه حيف ، وانا اقر بذلك ،، فقد يتفوق شاعر في مزية يقصر عنها شاعر آخر وهكذا ، فهم يتكاملون ككل شيء في هذه الحياة و دوراتها ، و لكن هل جاء فيلسوف يبز ارسطو؟ حتى ظهور ابن رشد و الغزالي وبعدهما؟ كم اسما تحفظ لعظماء الفلاسفة؟ مئات وقد أبدعوا وبرعوا بل و اضافوا للحياة و الفكر .و هل كتب قلم ماكتبه الجاحظ الناقد الكاتب؟ كتب معاصروه نوادر ودرر ، و كتب العقاد اكثر منه نقدا و نظرا ، و ربما في جوانب عديدة انفع منه ، ولكن هل تفوق العقاد روحا و لفظا و وصول معنى وقبض فكرة و عمق أثر كالجاحظ؟ لم يقل هو ذلك ، ولا نقول نحن بل و نشك في ذلك كثيرا .
فماذا تبتغي أعلوَّ شأنٍ ،،،، فمن ذا كان أرفعَ منكَ شانا
هذا هو الامر اذن ، من الحيف في حق الأقران تعميم افضلية احدهم عليهم ولكن ما في اليد حيلة ، فكلما اردت بضمير الانصاف النقدي ومعايير البحث العلمي و التحليلي ، ان تتأول لهم او تتصيد له ، انقض عليك الرجل كالاسد عن عرينه .
تغادره وتقرأ لهم روائع و جواهر تبكيك وتسليك وتحاكي لواعجك فتصفق لهم اضلاعك اعجابا ، ثم تعود لتقرا له , واذا بالكلام ليس كالكلام والصور ليست كالصور والفخامة والتمكن الطاغي ، و الهيمنة والجرس والتنوع والحكمة البالغة وفصل الخطاب .
و لذلك فقد كان مستحقا لقولهم فيه (مالئ الدنيا و شاغل الناس) :
فتىً دوّى مع الفلكِ المدوّي،،،،فقال كلاهما: إنّا كلانا!
يحيرك بما يقول ،، جرير يسحرك وابو نؤاس يسكرك ولكن المتنبي يحيرك ، فيمكن ان تنافس السحر وفعل الخمر ، ولكن كيف تنافس الحيرة ، و انت حيران اصلا.
طرفة يبهرك و بيرم في طبعه يأسرك و ابو القاسم الشابي يشعرك ولكن المتنبي يدهشك ، السيد الحبوبي يمتعك ، و جبران طائرا يحملك ولكن المتنبي يصدمك . يمدحون و يتبارون و يبدعون و تظن ان المدح قد بلغ منتهاه واستنفذ غرضه ، فتعود اليه واذا بعالم مختلف للمدح ، لايشبه مطلقا ماقيل و مايقال ولذا فإنه و هم في مضمارين مختلفين ، فكيف يسابقونه ، ويسابق هو من ؟ وهو يجري وحيدا كالحصان الجامح لايكاد يوقفه شيء، ولا اختار مثالا لتزاحم امثلته .
يتغزلون ويتنسبون ويتشوقون ، بشار بن برد وبشارة الخوري والعباس بن الاحنف و أترابهم و يبرعون و تتوه ذائقتك بابداعهم و مواهبهم و تظن ان الغزل بلغ ذروته والشوق وصل قمته ، ومابقي لأحد ان يقول ، ثم يصادفك ديوانه و ماتغزل به فتصحو و كأنك كنت نائما او حالما او واهما ، ماذا يقول هذا الرجل ؟! ثم تكرر ماتقرا متحققا وليس متلذذا كما كنت تفعل معهم . ثم تمحص المعاني ونسجها ، والصورة التي ماخطر على بال احد نتجها ، فتعرف انك امام لغة اخرى او جانب اخر من لغة العرب او شاطئ اخر من بحر البيان ماوصل اليه احد ، ولم يكن يدري عنه الشعراء شيئا ، ولو دروا اذن لنافسوه ، ولكنهم مابلغوه ليجربوه ! ولا اضع نموذجا لتداحم نماذجه، و قد خلد شعره و فنيت الدول ، و بقي منها من خلدها هو بشعره ، فهو الدولة الأكبر:
ويا ذا «الدّولةِ» الكبرى تعالتْ ،،،، وقد سحَقَ البلى دولاً كيانا
يفخرون ويتباهون وينتسبون ويفلحون بل و تذهب مفاخرهم حديثا وحكايات ، فتظن ان الفخر انتهى ، وقد قال كل شاعر غاية مااشتهى ، وماعاد لمستزيد ان يزيد ، ثم تسمع فخره فتعجب كيف ان الشعراء لم يخوضوا في هذا ، وكيف فات كل هذا الفضل على الفند الزماني وقطري بن الفجاءة و المرقش الاكبر وعمرو بن هند .
فيا ابن «الرافدين» ونِعمَ فخرٌ ،،،،، بأنّ فتى بني الدنيا فتانا
وكيف سيصمد ماقالوه امام هذه الفخامة في اللفظ والتوغل في المعنى والسمو في الفكرة وكأنه اخذ شطرا من المعاني لوحده وترك لهم الاخر مجتمعين مشتركين . او لعل احدا يتحكم باللغة وبيانها وبلاغتها اخفى عن ناظريهم كل ذلك ثم خصه به ، و لايصلح ان اسوق بيتا لتناحر الابيات وتطاحنها حول المعاني عنده.
وصف البحتري و وصف عبيدة بن الابرص و وصف بن خفاجة و ابن حمديس الاندلسيان و وصف الشنفرى و برعوا و صوروا و امتعوا ، و جاراهم غي ذلك نفر آخر قليل ، و لكن المتنبي ترك لنا قلائد في الوصف أرانا الطب في وصف الحمى و الرسم الحاكي في وصف شعب بوان و الملحمة في وصف الاسد و الحدث الحمراء.
يكتبون في الطلل والرثاء فيوجعون القلوب و يدمونها ، التهامي والانباري وابن الرومي شاعر المنايا، ومعهم حتى النساء ، و زعيمتهم الخنساء ، و هن اقدر على التوجع و تصوير لوعة الثكل فتظن ان هذا ليس ميدانه ، فهو شاعر فخر وحكمة ومديح ، ثم تقرا مرثية له ، فترثي بعدها حال الشعراء الراثين ، فقد قال مالم يصبروا به نفوسهم ، وكانه احتكر نصفا من الصور .و اذا دخلنا في امثلته فلن ننتهي .
فهل ذهب المتنبي الى الفج الاعمق من وادي عبقر وترك الشعراء يترددون على جوانبه وجلين، وهل راى المتنبي مناما دله على الطريق اليه ، ام هل سحر المتنبي ولم يدر أو لم يخبر احدا بذلك؟ هل ستنتهي الحياة من بعدنا بما شاء الله من الدهور كما انتهت على من قبلنا دون ان ياتي شاعر يتفوق عليه؟ وهل ان مرور العصور على مواهب كهذه دون ان تخرق في كل امة موهبة ، وفي كل شان رجل ، يعني ان الزمان متجه الى نهايته؟ كما تبين اشارات دينية وظواهر كونية اخرى؟
و أنّا أمةٌ خُلِقَتْ لتبقى ،،،،، وأنتَ دليلُ بُقياها عَيانا
وهل بقي شيء من الشطر المخفي للغة و البيان الذي بلغه المتنبي سيغرف منه شاعر اخر يوما فيجعلنا نعرف ان المتنبي انما هو شاعر يمكن ان يكون له نظير؟ وليس سرا من اسرار هذا العالم المثير؟ ام سيبقى المتنبي على مر الدهور ،،العائق الاكبر ؟!