تشهد نسبة كبيرة من الدول النامية او ما يعرف بدول العالم الثالث صراعات بين قواها المجتمعية الرئيسة التي تعتبر في الاغلب ممثلة عن مكونات نسيجها الاجتماعي.
هذه الصراعات يوظفها البعض كتنافس سياسي ، بينما يعدها آخرون صراعا من أجل فرض إرادة جهة معينة على الجهات المشاركة لها في حكم شعب ما.
وما بين التفسيرين يولد تفسير ثالث يراه المختصون الاكثر خطورة منهما ، وهو ان لكل جهة مكوناتية سواء كانت دينية او عرقية او سياسية ، ايديولوجيا خاصة بها تراها ضمن قناعاتها هي الامثل لإدارة الشعب المعني ، حسبما تدعي ، لكن الغريب في الامر ان تلك الجهة مستعدة للقتال حتى الرمق الاخير في المنتديات والمحافل كافة وبكل الوسائل المشروعة منها وغير المشروعة في سبيل تحقيق هذا الهدف حتى وان كلفها ذلك التنازل عن بعض او ربما الكثير احيانا من مبادئها او قيمها او اساسيات اخلاقياتها التي قامت عليها من الاساس.
واذا ما عممنا هذه القناعة او السياسة العامة للطرف سين او صاد من شركاء حكم الدولة المعنية ، فبالتالي سيتولد لدينا سواء برغبة تلك الاطراف او رغما عنها ، صراع فيما بينها قد يولد نتائج كارثية على البلد الذي تعيش على أرضه وليس بالضرورة ان تكون تلك النتائج هي حروب اهلية او اقتتال دامي ، إنما تتمثل احيانا بأشكال لا تقل خطورة عما سبق.
ان النتائج الحتمية لاي صراع من هذا النوع تتشكل بصور متعددة ، بعضها يكون آنيا ، وأخرى ربما تكون مستقبلية ، غير أننا ارتأينا عدم الخوض في المواقيت الزمنية ، بل اجمالها ليتسنى للقارئ الكريم التعرف عليها وعدم التشتت في الجوانب الفرعية لتفصيلاتها.
ووفقا للتجارب الدولية التي مضت لقرون من الزمان ولا تزال حتى يومنا الحالي ، فإن تلك الازمات تولد امراضا اجتماعية ، من بينها تفكك النسيج الاجتماعي للشعب وانخفاض درجة الولاء للوطن واضعاف الدولة ، فضلا عن ارتفاع نسبة الفساد بأشكاله المتعددة المتمثلة بالفساد المالي او الاداري او الاخلاقي.
هذه النتائج هي الاخطر على مصير الشعوب وبلدانها بالرغم من وجود نتائج اخرى ، لكنها اقل تأثيرا مما ذكر ، فالحذر من السابقات يوقي خطورة الاخريات ، لذا فإن الاكتفاء بذلك يحصر الاهتمام بالاهم مع الاعتراف بأهمية وخطورة الاقل اهمية.
النتائج التي تحدثنا عنها اقل ما ستؤدي الى جملة من الحتميات ، من بينها انتهاء ما يعرف بمفهوم السيادة ، كون ان هناك دولا مهتمة بشؤون البلد المعني سواء الاقليمية منها او الكبرى ، ستكون على موعد مع ادوار دراماتيكية في هذه الارض المعنية ، ونحن بدورنا نرى تلك الادوار طبيعية في مثل تلك الظروف ، فالبلدان التي تحترف السياسة تؤمن في الاغلب بالفرص الزمنية النادرة التي تتيح لها بسط نفوذ في هذا البلد او ذاك في حال إمتلاكه أهمية على وضعها بشكل خاص ، وهذا الأنموذج يكون اقليميا ، او إمتلاكه أهمية على اوضاع حلفاء لها بشكل عام في حال كانت تلك الدول كبرى.
ومن بين الحتميات الأخرى للنتائج سالفة الذكر ، الازمات المالية التي ستجعل البلد في حالة من الفقر الدائم وسلب الحقوق المستمر لابناء الشعب ، ما سيولد قطعا انخفاضا في المستوى العلمي والصناعي والزراعي ، وعجزا تجاريا وماليا مستمرا ، بسبب تحديد المستوى الذهني للانسان بسبل توفير المعيشة والسعي ورائها وعدم وجود فسحة من التفكير بكيفية خلق حالة من الابداع في أي من المجالات المختلفة ، ولا يفوتنا تردي الجانب الاخلاقي المجتمعي ، من خلال مغادرة المفاهيم السامية وهذه نتيجة طبيعية لشعوب عانت من الازمات والحروب والحرمان لعقود طويلة من الزمان والضغط النفسي باتجاه معاداة شرائح مجتمعها ، ما يولد نوعا من العصيان او التمرد الذاتي لشخصية شبابها حتى تصل الى مستوى التمرد الشامل على كل المفاهيم حتى الايجابية منها ، ولعل ذلك نراه واضحا في معظم شعوب المعمورة التي مرت بتلك الظروف.
ما تقدم يحتم علينا التذكير بأن ما قلناه لا يعد تخويفا او سببا لولوج حالة من السلبية المتزامنة لدى افراد تلك الشعوب ، بقدر ما هو تحذير من خطورتها ، كونها تعد من الامراض الاجتماعية المركبة المعقدة التي تكون عادة مزيجا من افكار مستوردة او دخيلة ، الهدف منها اضعاف كيانات عظيمة وتذويبها ضمن ثقافات أخرى ، والادلة على ذلك ليست بالقليلة ، فإذا اخذنا الجانب الديني ، فإن ديننا والاديان الاخرى التي تؤمن بها الانسانية تحث على التسامح والتعايش مع الآخر وعلى مكارم الاخلاق ونبذ العنف والتعصب وتلعن من يتآمر على مجموعة من الناس لانهاء دورهم الحضاري ، ولعل ذلك واضحا في عدالة الباري جل وعلا حين بعث لكل قوم نبيا مصلحا لينقذ شعبه من براثن التخلف والجهل وحتى لا يكون فضلا لقوم آخرين عليهم. واذا ما تطرقنا الى الصراع الانساني بين الخير والشر تاركين الجانب الديني ، فإن مبادئ الانسانية توصي دائما بالحب والتسامح وعدم ايذاء الغير لصالح الذات مهما بلغت المصلحة الشخصية ذروتها في هذا الصدد. ولعل الامثلة باتت واضحة ونرى اننا لسنا مضطرين لذكر غيرها ، أي أنها تصب جميعا في هذا الجانب.
إن الأمم التي سبقت الدول الفتية قرونا او عقودا في التطور المجتمعي ، نرى ان اول ما تم التغلب عليه لديها هو التحدي الذي تحدثنا عنه ، فنرى ان معظم الدول التي نتهم بعضها بالعداء بسبب سياساتها الخارجية التي تتصف بالشيطنة احيانا وصلت الى حالة متقدمة من التعايش الشعبي ، وتفرغت الى التطور العلمي والثقافي والصناعي وفي القطاعات الأخرى وبلغت ناصية متقدمة ربما نحتاج نحن في الدول النامية لسنين ضوئية في سبيل الوصول اليها ، مع التذكير ان مكونات الدول المتقدمة الاجتماعية متباعدة ايديولوجيا ، وان اسباب الصراع فيما بينها تتجاوز خطورة ما لدى الدول النامية ، فنرى اختلافا في الالوان والاديان والعروق واللغات ، غير ان المشترك الاهم الذي جمعها هو رغبة جميع هؤلاء للعيش بسلام وتقدم في الارض التي اختاروا ان يعيشوا فيها ، غير ان الشعوب النامية نراها تشترك بكل تلك الاختلافات فهم اصحاب دين واحد ولغة واحدة وتاريخ مشترك واحد ولون واحد فيما يتقاتل المختلفون فيها لأسباب ربما لا ترتقي الى درجة الجدل او النقاش احيانا ، بينما يخوض هؤلاء لتلك الأسباب صراعا وجوديا كما نرى على أرض الواقع ، فالاختلافات التي تفرقهم على الاغلب نراها متمثلة بمدارس مذهبية او اختلاف بين اليمين المتشدد واليسار الاكثر انفتاحا ، او صراعا مناطقيا او ولائيا لتلك الجهة او تلك.
اذن هل تختار هذه الشعوب العيش في كنف الظلام بإرادتها ، ام ان هناك من يدفعها الى ذلك ؟ ولعل هذا السؤال محوري للموضوع المتناول بأسره ، فإذا كان المعني مع هذا الخيار او ذاك ، فإن عليه تحديد خياراته ، وتحمل مسؤوليته أمام الله تعالى والتاريخ والانسانية جمعاء.