بقي العراق منذ عام 2003 ، وحتى ساعة إعداد هذا المقال بعد منتصف أيار 2021 ساحة تصفيات لنفوذ ثلاث أو أربع دول ، تتحكم في مقدرات هذا البلد ، وقد وجدت في ساحته المكشوفة ، وصراعات قواه المتناحرة ، طائفيا وقوميا وعرقيا، فرصتها لأن تتقوى على حساب ضعف العراق والفوضى التي ضربت أطنابها في مختلف مناحي الحياة، وتلقي بتأثيراتها الخطيرة على مستقبل أجياله لسنوات طوال!!
ولم يكن رئيس الوزراء السيد مصطفى الكاظمي بأكثر من سابقيه حماسة ، في أن يكون بمقدوره ترويض أي من أطراف الصراع، والعمل على تحييدها على الأقل، في شأن تدخلها في العراق،وإن كانت الكفة الايرانية هي الراجحة ، طوال السنوات الثمانية عشرة التي مرت على العراق، وبقي فيها هذا البلد مرهون الإرادة ومستلب القوى ، وخاضعا كليا لإرادات دول وكيانات مرتبطة أغلبها ، إن لم نقل كلها ، بولاءات خارجية، لم تكن مصلحة العراق حاضرة أبدا، والمهم أن ” البعض” من رؤساء حكومات العراق وبعض زعاماته، حاولوا أن يلعبوا أدوارا مختلفة على هذا الوتر، الا أن كل محاولاتهم تعثرت وواجهت إخفاقات وعراقيل، إبتداء من أول حكومة عراقية بزعامة الدكتور أياد علاوي وإنتهاء بحكومة الكاظمي، التي تعد الأضعف دورا ومكانة في تاريخ كل الحكومات العراقية منذ قيام الدولة العراقية عام 1921، بشهادة رموز سياسية عراقية مؤثرة، تحدثوا عنها قبل أيام.
واذا أردنا تقييم مسارات ما حاول السيد الكاظمي إستخدامه من “دبلوماسية التهدئة والحوار ” إن صح التعبير، مع تلك الدول مجتمعة، فإنها لم تسفر حتى الآن عن حصول تقدم يذكر، أو نتيجة يمكن الإرتهان اليها، واذا ما تم التحدث عن مفاوضات سعودية إيرانية برعاية عراقية، فقد جاءت بعد عهود من إنهيار اقتصادي ، ربما لم تشهده إيران طوال تاريخها، حتى في حرب الثماني سنوات مع العراق، بهذا المستوى من التدهور في العملة والاقتصاد والعزلة الخارجية عن المجتمع الدولي، وما زالت إيران تحت زعامة خامنئي تعد السعودية عدوها الاول، الذي ما إن راوغت في إجراء بعض أشكال المباحثات وعلى مستويات متدنية، بين حين وآخر، فهي تعد ” مناورة تكتيكية ” للحصول على ” مكاسب آنية” وليست رغبة حقيقية من طهران في تطوير آفاق التعاون بينهما، وستبقى ايران تنظر الى السعودية على أنها خصمها اللدود فكريا ومذهبيا، ولم تصل مستوى أية علاقات معها في إطار تبادل محدود لبعض اللقاءات وعلى مستويات دنيا، لن ترتقي أن تسمى حتى علاقات ثنائية في يوم من الأيام، وتدرك السعودية حقا وحقيقة النوايا ايرانية ، وقد أفصحت عن هذا المنهج في مستقبل تلك العلاقة أكثر من مرة، كونها تدرك آلاعيب طهران ومراوغاتها لإنقاذ نفسها من الخناق الاقتصادي والسياسي والعزلة الدولية، إن مدت خيوط بعض أشكال العلاقة مع الرياض في إطار لعبة ذر الرماد في العيون ليس إلا.
أجل لقد عمل الدكتور اياد علاوي منذ عام 2005 جهودا مضنية مع إيران لتحسين علاقتها بدول الخليج وعموم الدول العربية التي توترت علاقاتها بطهران ، والتقليل من حجم تدخلها في الِشان العراقي، لكن كل تلك المحاولات ذهبت هباء منثورا، ولم تعترف طهران بكل تلك المساعي وعدتها محاولة من أياد علاوي لانقاذ نفسه لكي يكون رئيسا للوزراء، وهي من رفضت بقوة توليه مهام رئاسة أول حكومة عراقية بعد الإحتلال، وعدت علاوي “خطا أحمر” لايمكن التعامل معه بأي شكل من الأشكال، كونه محسوبا على الخط العروبي.
كما بذلت حكومة الدكتور ابراهيم الجعفري هي الأخرى جهودا من هذا النوع ، ولو بدرجة أقل بين الرياض وطهران، وفشلت في مسعاها، وجاءت حكومة المالكي لكي تعمل في هذا الإتجاه ، وحاولت ” التوسط” ولم توفق ، وفي حكومة الدكتور حيدر العبادي حاولت هي الأخرى فتح قنوات للحوار ولم تفلح ، ان لم يزد العداء الايراني لها ولمحاولاتها ، ثم لم يكن نصيب حكومة الدكتور عادل عبد المهدي بأقل منها وفشلت، وجاءت حكومة السيد الكاظمي ، لتلعب على وتر ” الدبلوماسية الهادئة ” أو “دبلوماسية الحوار” ، بين طهران والرياض ، وقد أرادت إيران إستغلالها فقط للخروج من أزمتها الخانقة، وكانت محاولات على مستويات متدنية لم ترق الى مستويات عالية من الحوار، لأن طهران لن تسمح لأي من أطراف الصراع الأخرى ان يكون لها دور إيجابي في إخراج العراق من أزماته الخانقة ، وهي تريد ان تبقى هي من تتحكم في ادارة شؤونه ، ليكون طريق حريرها الى بلاد الشام ، ومنه الى بقية دول الجزيرة العربية ، وشمال افريقيا ، وبقيت التسريبات عن محاولات ” وساطة عراقية ” بين طهران والرياض من هذا النوع ، هي من أدخلتها في أجواء المبالغة ، للبحث عن دور يقال أن حكومة الكاظمي قد لعبته، لكن الحقيقة ليست كذلك، وربما لاتخرح تلك الترويجات الدعائية ، الا في إطار حملة حرب نفسية دعائية ، وكأن السيد الكاظمي حقق “فتحا مبينا” في آفاق الصراع الثنائي الايراني السعودي ، حيث لن تسمح طهران للرياض بأن يكون لها دور في العراق ، حتى وان كان إيجابيا، ولصالح شعبه، وما أثير بشأن ” الوساطة العراقية” ومحاولات “التقريب” بين وجهات نظر الطرفين متدنية كما ذكرنا، وهي تدخل في اطار ” الإثارة الإعلامية” ليس إلا.
ولم تكن العلاقة مع تركيا بأقل من هذا المستوى، وإن كان شكل العلاقة مع تركيا لم ترق الى مخاطر شكل العلاقة مع ايران،التي هيمنت على كل مقدرات العراق ورهنته لإرادتها، بل لم تبق للولايات المتحدة الا قشور لاتغني ولا تسمن، وفاق التدخل الايراني كل أشكال التدخلات الاخرى، وربما لايتعدى نسبة التدخل الأمريكي 20 % من حجم التدخل الايراني ، أما التدخل التركي فلا تتعدى نسبته الـ 10 % في كل الأحوال، وهو الأقل ضررا على العراق، وكانت جوانب العلاقة تتركز على الجانب الاقتصادي والعلاقات التجارية الضخمة بما يزيد على 20 مليار دولار سنويا.
ما نريد التوصل اليه في خاتمة هذا الإستعراض المهم والأخطر من نوعه، هو أن أي حديث عن ” إختراق عراقي” في العلاقات حققه الكاظمي في العلاقة بين طهران والرياض إنما يدخل فقط في إطار حملات من الحرب الدعائية النفسية، للتأكيد على أن “دبلوماسية الحوار ” قد نجحت في تقريب شكل العلاقة، لكنها في ظاهرها بقيت شرخا عميقا ، لأن جذورها التاريخية والسياسية غائرة في الأعماق ، ولا يمكن ردم خصومة أكثر من قرن من العداوات التاريخية وتلك الهوة المستعصية بسهولة، لأن تعقد العلاقة وصعوبة تفكيكها بين الرياض وطهران، أمرا يكاد يكون من قبيل جهد على مستوى دول عظمى ، وليس بمقدور دولة ضعيفة منهكة في مشاكلها وحروبها الداخلية مع قواها السياسية حد العظم مثل العراق، أن يكون بمقدورها أن تكون ” جسرا” لرابطة او “علاقة ايجابية” ، مادام طرفا الصراع قد أوصلا الخصومة وحالة العداء بينهما الى حد أن ينهي كليهما الآخر إن إستطاع، وما حرب اليمن الا محاولة لانهاء الدور السعودي وانهاكه في حرب خططت لها طهران ، لكي تفتعل معارك داخلية مع اليمن ، خسرت فيها الرياض المليارات وانهكت ميزانيتها، وهي الأخرى تريد الخروج من هذا المأزق بأية طريقة، لكن طهران ترفض إيقاف تلك الحرب ، ظنا منها أن بمقدورها أن تمرغ انف الرياض في مزيد من الحروب والتوترات، حتى تزيحها عن مكانتها التي تحلم بها، ويبقى دور طهران هو المهيمن في المنطقة، وهي تريد الاستحواذ على الاماكن المقدسة في السعودية ( الكعبة المشرفة والمدينة المنورة) ، لكي تهيمن عليها، كما أشار اليها الخميني في بدايات حكمه في ايران عام 1980 ، ولدى ايران من الأذرع والادوات في العراق وسوريا واليمن وحتى داخل دول الخليج، مايحقق لها مثل تلك الرغبة الجامحة في الهيمنة على مقدرات المنطقة، لكن وضعها الاقتصادي وتدهور عملتها وتصاعد الرفض الشعبي الداخلي لتوجهاتها الاقليمية بعيدا عن طموحات شعوبها والموقف الدولي المناهض لها هو الآخر، هو من يدخلها في ” مناورات حوار” عله يوفر لها بعضا من حالة الحرج أمام شعوبها والمجتمع الدولي الناقم عليها وعلى أحلامها التوسعية الإمبراطورية، وقد وجدت طهران في أزمة غزة مخرجا تنفيسيا لها لتستغل تلك الازمة أسوا استغلال، عله يكون بمقدورها كسب الرأي العام العربي والإسلامي الى جانبها ، لكن الرأي العام العربي والاسلامي سيكشف في القريب العاجل كما كشف ألاعيبها من قبل ، مغزى تلك الاسطوانات المشروخة والتحركات البهلوانية، كما أن أكبر خطأ إرتكبته الأدارات الامريكية كما يؤكد مسؤولون أمريكيون كبارا أنها تركت الحبل على الغارب لطهران ، لكي تلعب طهران بذيلها في العراق والمنطقة على هواها ، وهو ما شعرت، أي الولايات المتحدة، أنها أخفقت هي الأخرى في تلك السياسة الغريبة الأطوار والمتهمة بالغباء وانحدار الدور والمكانة ، بأنها عرضت مصالح الولايات المتحدة لمخاطر كبرى لايمكن التنبؤ بما ستتركه من ويلات ومصاعب على نفسها وعلى شعوب المنطقة والعالم بأسره.