احتفلت روسيا ومنظمة اليونسكو العالمية والكثير من بلدان العالم عام 1999 بالذكرى المئوية الثانية لميلاد الشاعر الروسي الكبير ألكساندر سرغيفيتش بوشكين ( 1799-1837), وكنت آنذاك معاون عميد كلية اللغات للشؤون العلمية في جامعة بغداد, واقترحت ان نساهم باحتفالات العالم هذه ونقيم حفلا في كلية اللغات بهذه المناسبة , وقد أيدني مجموعة من الزملاء وبحماس, وهكذا ذهبت الى عميد الكلية وطرحت عليه هذه الفكرة, فتقبلها العميد أ.د. مخلف الدليمي بالترحاب باعتبار ان هذه الفعالية تعني ( كسرا للحصار ), وهو التعبير السائد في ذلك الوقت لكل نشاط خارج النطاق التقليدي والاعتيادي. بعد ان حصلت موافقة العمادة على المقترح كان يجب مفاتحة رئاسة جامعة بغداد لاستحصال الموافقات الاصولية حسب مقتضيات التعليمات السائدة آنذاك, اذ ستجري دعوة سفير روسيا الاتحادية في بغداد للمشاركة في تلك الاحتفالية, وهكذا تم توجيه كتاب رسمي من عمادة كلية اللغات الى رئاسة جامعة بغداد بهذا الشأن, الا ان رئيس جامعة بغداد أ. د. عبد الاله الخشاب لم يحسم رأسا الموضوع. لقد كان الدكتور الخشاب اداريا حاذقا وحذرا جدا , وبالتالي كان يتجنب الوقوع في اي خطأ اداري محتمل, وبالطبع كان يعرف ويفهم ان موضوع بوشكين وروسيا والسفير الروسي ترتبط بالسياسة قبل كل شئ, وان هذا يقتضي عدم اتخاذ قرار نهائي دون الرجوع الى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي و استحصال موافقتها, وهكذا حسم الموضوع وأحال طلب كلية اللغات الى الوزارة لبيان الرأي بشأن ذلك, ولم تستطع الوزارة المذكورة من المديرية الفلانية الى المديرية الفستانية ان تحسم الموضوع ايضا ولنفس الاسباب طبعا, وهكذا تم احالة الامربرمته الى الوزير نفسه, وكان آنذاك أ. د. عبد الجبار توفيق, ولم يستطع الوزير ايضا حسم هذا الموضوع الدقيق والذي كان يفهم انه يمتلك طبعاابعادا سياسية بالنسبة لذلك الزمان, وهكذا قرر ولنفس الاسباب,و من اجل التخلص من تبعات المسؤولية انيرفع طلب كليتنا الى رئاسة الجمهورية لاستحصال رأيها وموقفها حول ذلك. كنا نحن في كلية اللغات بالطبع نتابع تفاصيل هذه الاخبار بقلق وحذر شديدين, بل اني بدأت اسمع بعض التأنيبات تجاهي شخصياوبعض الاشارات والتلميحات والملاحظاتبشأن اقتراحي هذا, ولكننا لم نستطع– بعد كل هذه الاخباروتطور الاحداث – القيام باي خطوة للتسريع باستحصال الموافقات او حسم القضية بخصوص ذلك الحفل لحساسية الموضوع والابعاد التي دخل في متاهاتها, وفي يوم من الايام رنٌ جرس الهاتف في مكتب السيد عميد كلية اللغات, واذا بالمتكلم وزير التعليم العالي والبحث العلمي أ.د. عبد الجبار توفيق نفسه , والذي قال للعميد ان رئاسة الجمهورية تطلب الاجابة عن سؤالين بشأن الاحتفالية المذكورة لتقرر حسم الموضوع , وهما – اولا هل بوشكين يهودي ؟ والسؤال الثاني – ما هو موقف بوشكين من الحزب والثورة؟( وهو السؤال التقليدي والسائد آنذاك بالنسبة للجميع ), واستدعاني العميد فورا وطلب مني الاجابة عن هذين السؤالين ( المهمين !! ) بدقة ووضوح , لان رئاسة الجمهورية ستحدد على اساس تلك الاجابة – السماح او عدم السماح باقامة تلك الاحتفالية, وقد اجبت رأسا بشأن السؤالين المذكورين وقلت له, ان بوشكين ليس يهوديا وانه روسي مسيحي ( ارثذوكسي ) ومن ابوين روسيين بالولادة (مستخدما طبعا المصطلحات التي كانت سائدة في حينها ),وانه ولد عام 1799في موسكو وتوفي عام 1837 في بطرسبورغ, اي قبل تأسيس الدولة العراقية بعشرات السنين , ولهذا لا يمكن ان يكون له اي موقف تجاه الدولة العراقية, وبالتالي لا يمكن ان تكون له علاقة بتاتا بالحزب والثورة في العراق , وهكذا وبناء على تلك الاجابة تمت موافقة رئاسة الجمهورية على تنظيم الاحتفالية, والتي حضرها وزير التعليم العالي والبحث العلمي نفسه والسفير الروسي والجالية الروسية في بغداد ورئيس الجامعة وممثلو وزارة الاعلام والصحافة واساتذة جامعة بغداد وطلبتها, وقد كنت عريف الحفل فيها لأني صاحب المقترح اولا, ولانه يجب التحدث باللغتين العربية والروسية في ذلك الحفل ثانيا, وكانت تلك الاحتفالية بحق نموذجا ابداعيا رائعا لقسم اللغة الروسية في كلية اللغات والتي أشادت بها في حينها وسائل الاعلام العراقية والروسية. لقد ساهمت الفنانة التشكيلية نادية محسن السوداني برسم عدة لوحات خاصة بتلك الاحتفالية لبوشكين وزوجته ورسومات مستوحاة من قصائده, وقد وضعنا تلك اللوحات الفنية العديدة في مدخل القاعة, وافتتح المعرض التشكيلي هذا السفير الروسي و ابدى اعجابه الشديد بكل تلك اللوحات , و يمكن القول ان السفير الروسي لم يكن ابدا يتوقع ذلك, وقد أهدينا له في نهاية الحفل باسم كلية اللغات لوحة جميلة جدا من هذا المعرض تمثٌل زوجة بوشكين- ناتاليا غونجروفا, وقد كان ممتنا جدا لذلك لدرجة انه رفع تلك اللوحة بكلتا يديه امام القاعة لغرض عرضها على الجمهور وذلك وسط تصفيق حاد من الجميع. هذا وقد تضمن منهاج الحفلة المذكورة فقرات عديدة ساهم في تقديمها طلبة قسم اللغة الروسية واساتذة كلية اللغات , حيث كان هناك عرض لاطاريح الماجستير التي انجزها القسم المذكور باللغة الروسية حول اللغة الروسية وآدابها, والذي أثار انتباه الجالية الروسية واندهاشها, ومن الطريف ان نذكر هنا ان المرحوم الاستاذ الدكتور حسين محفوظ من قسم اللغة الفارسية في كلية اللغات كان من اشد المتحمسين لتلك الحفلة وانه أصرٌ ان يشارك في تلك الاحتفالية بكلمة حول بوشكين ومكانته واهميته الكبيرة(باعتباره احد التدريسسين سابقا فيالكلية الشرقية في جامعة بطرسبورغ – لينينغراد آنذاك ), والتي قدمها ارتجالا كعادته وبلغته العربية الفخمة, وقد قدٌم لنا المرحوم محفوظ ايضا لوحة صغيرة جدا لبوشكين رسمها بنفسه للشاعر الروسي, ولم تكن في الواقع سوى تخطيط بالقلم الجاف وعلى ورقة مستلة من دفتراعتيادي لوجه الشاعر, والذي لم يكن يوحي لا من قريب ولا من بعيد به , والذي قال انه قام به اثناء عمله في لينينغراد آنذاك, ولكننا تقبلنا منه ذلك رغم كل هذا وعرضنا التخطيط في مدخل القاعة بشكل بارزاحتراما وتقديرا لشخص بمستوى ومكانة الاستاذ الدكتورحسين محفوظ واحتراما لحماسه بالمشاركة في تلك الاحتفالية.
لقد تضمن هذا الحفل كلمة لرئيس جامعة بغداد وكلمة للسفير الروسي والتي ألقاها باللغة العربية والتي استقبلها الحضور بتصفيق حاد وقصيدة للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد حول بوشكين والتي القاها في مهرجان بوشكين عام 1974 في روسيا وحاز على جائزة في حينها , وساهم طلبة قسم اللغة الروسية بتقديم فعاليات مختلفة من القاء قصائد وعرض مقاطع من مسرحيات بوشكين باللغة الروسية, وقد سبق لي ان كتبت عن القاء الطلبة الروس من جامعة موسكو والذين كانوا يدرسون عندنا لبعض قصائد بوشكين في تلك الاحتفالية بترجمة المرحومة الاستاذة الدكتورة حياة شرارة ( انظر مقالتي المنشورة في عدة مواقع الكترونية بعنوان – حياة شرارة والادب الروسي في العراق – لقطات )