تظل القضية الفلسطينية بارومتر الوضع العربي، فإن انتعشت القضية وصلب عودها انتعشت الحالة العربية بزخمها الثوري. وكانت حرب 48 هي النكسة الأولى للأنظمة العربية جميعا دون استثناء، فقد كانت هزيمة عسكرية وسياسية عرّت الأنظمة وكشفتها أمام شعوبها، فهي أنظمة تابعة وعميلة للاستعمار، ولأجل هذا حصلت انقلابات ثورية قامت بها منظمات الضباط الأحرار في 23تموز/يوليو عام 52 والتي ألهمت العراق ليحدث أنقلاب ثوري الى أبعد مدىً وأكثر جذرية منذ ساعته الأولى في صبيحة 14تموزعام 1958 ليجعل منه ثورة بحق، مما قلب ميزان حركة التحرر العربية المتمثلة بثورة الجزائر واستقلالها وثورة اليمن واستقلالها مع صعود المد الثوري للقضية الفلسطينية التي شكلّت فصائلها المقاومة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وأسهمت في تململ كثوري في الخليج لا سيما في عمان والبحرين حتى عُبّر عن الوضع الثوري بعبارة: ثورة عربية من الخليج الثائر الى المحيط الهادر!
ولم تكن حركة التحرر العربي واستقلال الدول العربية وتغيير الأنظمة الداعمة لها في مصر والعراق وسوريا والجزائرواليمن وليبيا.. بمعزل عن صعود حركة التحرر العالمية في آسيا وأفريقيا.. والذي وجّه ضربة للإستعمار العالمي وربيبته إسرائيل مع تصاعد النضال الثوري للمقاومة الفلسطينية المسلحة التي كسبت دعما هائلا من شعوب العالم ومن دول عدم الانحياز والدول ذوات النهج الاشتراكي..
لأجل هذا بدأت المراهنة على شن الحروب وتصعيد الصراع الى صراع عسكري قادته إسرائيل في حرب العدوان الثلاثي على مصر عام 56، ثم حرب الخامس من حزيران الذي كان هزيمة كبرى للأنظمة العربية القومية في مصر وسوريا والعراق.. التي ترفع شعارات الوحدة العربية بدون طائل.. ولإن كانت هذه النكسة هزيمة للأنظمة بيد أنها أذكت أوار الثورة واغتنت كثير من الفصائل الثورية الفلسطينية واليمنية بأفكار يسارية تقدمية زادت من ثورية المقاومة .. ورغم الأخطاء التي رافقت عملها في الأردن ولبنان، مهدت الأجواء لرياح المشاريع السلمية بالهبوب وكان منطلقها مشروع روجرز(مبادرة وزير الخارجية الأمريكي وليم روجرز) في حزيران 1970 وهي في حقيقتها مبادرة لاحتواء حرب الاستنزاف التي شنتها القوات المصرية التي أتعبت إسرائيل التي فقدت كثيراً من طائراتها الأمريكية الحديثة ومواقعها العسكرية، وذلك بإيقاف الحرب بهدنة أمدها ثلاثة شهور وافقت عليها مصر وخرقتها إسرائيل بعد أن عززت ترسانتها العسكرية بفعل المساعدات الأمريكية!
كانت حرب أكتوبر (العاشر من رمضان) 1973 التي حققت فيها مصر انتصارات هامة في عبور قناة السويس بعد تدمير خط بارليف ..ثم استدرجت مصر للمفاوضات السلمية واسارجاع سيناء مع سيادة نسبية عليها وليست مطلقة؛ واستطاعت سوريا استرجاع مرتفعات الجولان حتى بحيرة طبريا ثم تراجعت..
قاطع العرب في قمة بغداد مصر السادات ومحاولة عزلها لقبولها السلام مع العدو .. وعمليا تراجعت الدول العربية بما فيه خط صدام المتصلب، حيث كانت اتصالاته علنية طالباً المساعدة من مصر في حربه ضد إيران ووقعت الأردن وادي عربة عام 94مع إسرائيل.. ثم بدأت الأعلام الإسرائيلية ترفرف في مصر وعمان.. وما أن بدأت مفاوضات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينة رفرفت الأعلام الإسرائلية في الدوحة وفي أبو ظبي وفي مسقط!! وحين عقدت صفقة كامب ديفد سارعت العديد من الدول العربية بمغازلة إسرائيل وظهر مفهوم التطبيع العربي الإسرائيلي الذي سرعان ما تحول الى واقع ملموس وأصبحت الدول العربية المطبعة اليوم رسميا مع إسرائيل ست.. والباقي في الطريق وأهمها السعودية المطبّعة عمليا فالطائرات الإسرائيلية أصبحت متاح لها دخول الأجواء السعودية ناهيك عن تبادل الوفود الرسمية!
لقد ساهم الإعلام العربي متمثلا بفضائية الجزيرة في الترويج للتطبيع فهي الرائدة التي جعلت عتاة الساسة الإسرائيليين يدخلون البيوت العربية من خلال هذه القناة التي سرعان ما تبعتها قنوات أخرى! ناهيك عن الصحف العربية المشبوهة.. لقد روج الإعلام المطبع لمفهوم نظرية المؤامرة، فمن يكتب عن المشروع الاستراتيجي الصهيوني (مشروع الشرق الأوسط الكبير) يوصم بأنه من أنصار نظرية المؤامرة والحال أن المؤامرة لم تعد نظرية بل عملية تجري وتنفذ فصولها بكل دقة ويمهد لها بالتعجرف الإسرائيلي والتمادي في ضم الإراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات الإسرائيلية وضم القدس الشرقية وتهجير السكان العرب وتفتيت أراضي الضفة الغربية واتباع سياسة التمييز العنصري ضد العرب.. ومحاولة الاستحواذ على القدس المستمرة والاستحواذ على دور المواطنين الفلسطينين في شيخ جرّاح بالقوة رغم امتلاكم وثائق التملك دون الاعتبار للمواثيق الدولية وحقوق الإنسان .. الذي توج بتصاعد أعمال العنف من قبل الشرطة الإسرائيلية ضد المتظاهرين الفلسطينيين العزل وتنفيذ غارات على غزة ..الخ، التي راح ضحيتها العشرات من القتلى إضافة للجرحى، كل ذلك محصلة لسياسة الخنوع العربية المتمثلة بالتطبيع التي زادت من تمادي إسرائيل وعنجهيتها وعنفها؛ وهي أيضا فرصة لنتنياهو الذي يعيش مأزق الفشل في تشكيل الوزارة ليخرج من مأزقه..
ما يثير الغضب والاشمئزاز هو الموقف العربي المهين للحكومات العربية المطبِّعة التي استنكرت قولا لا عملا.. أنه زمن الخنوع العربي!