ربما شعرت في اعماقي ان كتابة عمود سياسي في صفحة الثقافة يمثل مفرقة، وربما افصح القارئ عن هذه المفارقة صراحة، والحق معه. لنتبادل الاعتذار والمسامحة اذاً، وليبق القرار اخيراً بيد صاحب القرار- رئيس التحرير – في تحديد الممكن والجائز والصحيح، ولما كنت متحيزا بعواطفي نحو رئيس التحرير فسوف انحاز ايضا صوب قراره، مع ذلك كتبت عددا من المقالات خارج السياسة على هامشها، داخل الثقافة في متنها، اذ من غير المقبول ان تنفصل الثقافة عن السياسة، كما انه من غير المعقول ان تنفصل عن الحياة.
ولقد استوقفتني ظاهرة مجتمعية بين الناس عندنا وعند غيرنا على نحو اقل، هي ظاهرة التعتيم Generalization في الحديث عن احوال الاخرين على نحو خاص، وعلى النفس والذات على نحو اكثر دقة وخصوصية، الا ان العلاقة بين وضع الاخرين ووضعنا عبر صفة ما تبقى متضادة او متناقضة او مختلفة، والمعادلة باختصار تضم ضميري الحاضر المتكلم المفرد والغائب (انا- هو) او الجمع (نحن- هم) وفي الغالب الاعم فان التعميم هنا يجعل من صفات (انا ونحن) بيضاء كالشمس وصفات (هو وهم) حالكة كالظلمة وما بينهما موجود ومتاح ولكن من غير اعتراف او ترسيخ، وفي التطبيق فان (أنا- هو) تنقلب على نفسها فيصير العكس اذ تصير (هو – أنا) بالمنظور المقابل، وهذا نسبي وعالمي وتاريخي فضلا على مجتمعيته، اي ان ما نراه (هو) يفكر في اللحظة نفسها انه يصير بصيغة المتكلم (انا) وهكذا، اما مصداقية التعميم او صدقه العملي او الفلسفي فلم (ويبدو ولن ايضا) يلتفت احد في معادلتي (انا- هو) و (نحن- هم) اليها بالقدر الكافي او في الوقت المناسب او بالطريقة الصحيحة.
وتلك هي المشكلة التي تطلق من رحمها مشكلة التعميم المضاد او ازالة التعميم التهمة على مفهوم Degeneralization، وهكذا يحمل الفرد (س) صفة التعميم التي اطلقها على الفرد (ص) برجعة مقبلة وهجوم مضاد ولو بتعبير جديد او معنى اخر، انما المهم هنا هو حدوث التضاد في مفهومية التعميم، اما في المنظور الاجتماعي فان هذه الظاهرة تتقدم الافراد الى المجموعات او المجتمعات Communities على مختلف شرائحها واصنافها المهنية والديموغرافية والانثروبولوجية، اذ تتولد منها حكايات وامثلة Parables ساخرة في الغالب الاعم، من بينها متضادات (البخل والكرم) و (الشجاعة والجبن) و (السذاجة والشيطنة) و (العلم والجهل) وما على هذا الواقع من تحفظ جذري او مانع قوي، انما التحول من هذا السياق المألوف عالميا وتاريخيا ومجتمعيا في كل مكان وزمان الى حالة الاحكام التي تقرر مصير المقابل وحدود كينونته ووجوده ومعتقده وميوله.. الى اي محاولة تحويل (هو) الى (انا) وقلب (هم) الى (نحن) ثم محاولة (هو) و (هم) الى ممارسة الدور هذا نفسه يتبؤ الشخصية المقابلة (انا- نحن) فأننا نعبر تماما الخط الانساني الاحمر الذي يجعل الحق واحدا والعدل واحدا والانسان في مجتمعه واحدا مع السماح بالاختلاف على محمل التنوع والتنوع على محمل الاجتهاد. هذا السماح الذي قد يأخذ الشكل الدستوري الموثق او العرفي المحترم، وان مجاوزة الخط الانساني الاحمر هنا تلتقي في ممارسة فعل التعميم اجرائيا وجسديا من غير سند قانوني او اخلاقي واضح. وبذلك يمنح (انا- هو) و (نحن هم) الذات سلطة تنفيذيةاو سلطة الدولة من دون وجه حق او مسوغ مشروع، وعندما يحصل رد الفعل على هذا السلوك فانه يعني الغاء التعميم وازالته من جهة واعادة التخصيص وترسيخه من جهة اخرى، وحكم الله في ذلك كله (ولا تزر وازرة وزر اخرى) هذه الاية التي تحولت الى اكثر من عشر صيغ قانونية وفقهية في القوانين الوضعية والقوانين الدستورية القديمة والحديثة في الشرق والغرب، بل قام على مدلولها الكثير من الاحكام والعقوبات لمنع التعتيم الذي يمنحه بعضهم لنفسه، قادما من غيره او منطلقا من ذاته، سواء، ولكن بحق اخرين لا تنطبق عليهم مواصفات (التعميم) اطلاقا الا بقشرة ضعيفة او متهرئة، ولا تفسير لهذا الخرق الاخلاقي والقانوني في السلوك العام الا عوامل نفسية اجتمعت وجمعت بين الاحباط في الحياة واسقاط ما في النفس على الاخرين وتعويض ما فقد بغير جدارة ومن دون استحقاق بطريقة العدوان والتبرير والهوس احيانا، حتى اذا سقط البريء خطأ او عمدا مضرجا بدمه فان جريمة بحق المجتمع باكمله قد حلت تماما ولكن القصاص حياة (ذلكم في القصاص يا اولى الالباب) وان القصاص بيد متخصصة ومخولة بل يجب ان تكون موثوقة، وليس في تبادل الكلام وكيل الاتهام على غير مسؤولية قانونية او ادبية، وان تصفية الحسابات الشخصية بمعايير شخصية ليعد كارثة على صاحبها ومروجها تماما وقبل كل شيء ولو بعد حين، وان النجاح في اهراق الدم في هذا السياق لا يعني النجاح في وضع اسس العمل السياسي او العقائدي او الديني في شيء او في شيء انما العكس صحيح تماما. ونحن هنا لا ننفي صيغة (الضد) في العلاقات الانسانية الفردية والمجتمعية المحدودة في عماد التراجيديا في الادب العالمي في كثير من الاحيان، اي انها حقيقة مجتمعية عامة تقريبا. وان الشاعر العربي يؤكد هذه الفطرة بقوله:
ليس يخلو المرء من ضد ولو
حاول العزلة في رأس جبل
الا ان تحول المرء الى قاض او جلاد في الوقت الذي يشعر فيه انه ضحية او مظلوم فان ذلك يعني الانسلاخ من كل القيم والقوانين السماوية والارضية معا مهما كانت الذرائع لانها لن تخرج عن مبررات نفسية فاشلة وليس مسوغات موضوعية مقنعة. واحسب ان مخاطبة من يختار ذلك مع سبق الاصرار وقد وضع نفسه في وضع حرج ازاء العدل او القانون يكفي بذلك علما حيال قول الشاعر العربي:
من ظن ان الدهر ليس يصيبه
بالحادثات فانه مغرور
وهذه الصورة من المغالطة لا تطابق سطوة القادر بقوة او المهيمن بفكر كما شهدت اوربا ذلك في عصر اللوثرية والكاليفينية ثم ولادة الضد او في زمن العباسيين عندما تسيد الاعتزال الحكم والشارع معا ثم ولد الضد في زمن المتوكل، هذا التاريخ ليس كهذه المعاصرة. ان تبدأ من اسفل وتريد الضرب على الاعلى، خبط عشواء في الحقيقة وانتظام مواقف في الظاهر، اذ هذه الظاهرة لا تؤجج الا صواب ما توصل اليه شاعر عربي اخر في قوله:
لو انهم ركبوا الكواكب لم يكن
ينجيهم عن خوف بأسك مهرب
وكما ان الضمير الجمعي يعود لمرسلي هذه الظاهرة بغير مسؤولية ولا وعي فان ضمير المخاطب المفرد يعود الى كل من تحمل مسؤولية امن الدولة، اية دولة شرعية، وحماية مجتمعها، من شر التمزق والتآكل والاندثار تحت اية غاية نظرية كانت لانها لن تصير اكثر من تجريد ببغائي واقعة موت زؤام وندم هو تاليه، ليس على مستوى الفرد والمجتمع حسب. بل على صعيد التاريخ والجغرافية والدين.
لان معادلة التوازن بين (المجتمع- الدولة) لا تخضع مطلقا للتغيير في جزء المجتمع مقابل تغيير كل الدولة، بل جزء مقابل جزء وكل مقابل كل ، وبذلك يتحدد دور العوامل التاريخية في التغيير وليس رغبات من شرق او غرب.أ
[email protected]