10 يناير، 2025 12:26 م

حصار كريم شعلان / 1- 2 : قراءة في رواية ( حصار ، حكاية لم تحدث ) للقاص والشاعر العراقي كريم شعلان ..

حصار كريم شعلان / 1- 2 : قراءة في رواية ( حصار ، حكاية لم تحدث ) للقاص والشاعر العراقي كريم شعلان ..

كتب : هادي الحسيني – اوسلو 

العراق البلد الوحيد في المنطقة الغارقة روائياً ، بسبب الأحداث التي عصف بالبلاد منذ أكثر من أربعة عقود من الزمان ومازالت الحروب والمآسي مستمرة ولم تتوقف ـ لم يدون الأديب العراقي عن الحروب والحصار إلا القليل جداً ، مازالت تلك الأحداث تحتاج للكثير من التوثيق عبر القصة والرواية والشعر ، فبعد أن كان العراق وطنا للشعر تحول الكثير من الشعراء والكتاب الى كتابة الرواية التي من خلالها يتمكن الكاتب أن يقول ما يريد قوله خاصة إذا كانت المأساة كبيرة لا يمكن إختصارها عبر قصيدة أو قصة قصيرة ، ولهذا ذهب الكثير من الكتاب في العراق الى كتابة الرواية وقد أنجزوا أدباً روائياً رائعاً بحق خاصة في السنوات التي تلت سقوط نظام القمع البعثي الذي ذهب بالبلاد الى عمق الهاوية ومازالت آثاره شاخصة وتجهز على ما تبقى في العراق .
القاص العراقي كريم شعلان في عمله الجديد ( حصار ، حكاية لم تحدث ) الصادرة عن دار الرافدين في بيروت ، عام 2021 يقدم للقارىء مأساة عاش أحداث تفاصيلها بالدقة التي تفوح منها كميات الحزن العميق ، الحزن الذي يصعب على الإنسان تحمله بعد أن وضعت حرب الخليج الثانية أوزارها مُجهزة على البلاد وإحالتها الى ركام ودمار لم تشهده الحروب التي خاضها العراق من حرب استنزافية لمدة ثماني سنوات ليدخل مباشرة في حرب كارثية تعيده الى العصور المظلمة . العراق وبسبب الحروب وويلاتها والحصار والظلم الذي تعرض له الشعب جراء حكم نظام قمعي دكتاتوري لم ينل الدمار من البنى التحتية للبلاد فحسب إنما نال ودمر الجهاز الحسي لدى الإنسان جراء قوة الظلم والموت وقبل أن تنتهي هذه الفترة الخانقة والمظلمة في تاريخ البلاد كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أعلنت حصارها على الشعب العراقي محاولة إذلاله عبر التجويع والفقر والموت ، وتلك سياسة امتهنتها دول الإستكبار العالمي بقيادة أمريكا !. كنتُ شاهداً على مآسي الحصار التي عصفت بالبلاد في السنوات الخمس الأولى وفيها وصل المجتمع العراقي الى ذروة الجوع والقحط والذل والمهانة والموت وهو يستجدي الحصة التموينية المخلوط طحينها مع الروث والحصى الناعم وعلف الحيوانات والأزبال وأشياء كثيرة .. في رواية حصار للقاص والشاعر كريم شعلان ، تحيلنا لغتة الشعرية الجميلة الى فضاءات عالية ، نتنفس فيها الإبداع الحقيقي حين يأتي عبر اللغة ، اللغة التي هي مفتاح كل عمل إبداعي ، وبالرغم من دخولنا عبر أحداث الرواية في خندق الحزن والظلم والموت إلا أن لغة كريم شعلان الشعرية الأخآذة تجعلنا نتفاعل أكثر مع كل فصل من فصول الرواية الخمسة عشر . رواية ( حصار ، حكاية لم تحدث ) هي عمل متكامل بجوانبه الفنية ولغته الشعرية الساحرة ، وهذا نابع من أن كريم شعلان في بداياته كتب القصة وقدم نفسه كقاص عبر نصوص مهمة ، وبالإضافة لإمكانيته في كتابة القصة القصيرة فهو يكتب الشعر ولهذا فمن الطبيعي أن يكتب رواية مغمسة بالشعر ومن خلال أحداث ساخنة عاشها العراقيون في فترة الحصار والحرب التي انتهت بعد خروج الجيش العراقي من الكويت لتفرض أمريكيا شروطها على الرئيس العراقي الذي وافق على تفتيش غرفة نومه !..
المهم أراد البقاء في منصبه وليذهب العراق وشعبه الى الجحيم ، تمكن كريم شعلان في روايته ( حصار ) أن يسخر من النظام برمته عبر الراديو الذي كان يردد مثل الببغاء أخبار الحرب والحصار والتطورات السياسية في البلاد الذاهبة الى الهاوية بكل ما تعنيه الكلمة الراوي يتحدث بضمير الأنا وهو يحاكي صورة والده المعلقة على حائط صالة البيت ، الأب الذي رحل عن الدنيا تاركاً الأم تتكفل بحياة صعبة وشاقة في ظل القحط والجوع وفي عنقها خمسة أولاد وثلاث بنات ، وظلت صورة الأب معلقة وسط البيت كنبراس للعائلة .الرواي يلجأ لابيه يحدثه عبر الصورة عن الوضع والأيام بعد أن تحمل وعانى من مرارة العيش والنظام الكثير ، يعود الراوي وأخوته ووالدته الى صورة الأب حين تبطش بهم الحياة وقسوتها ومرارتها التي لا ترحهم . الحصار الذي فرض على الشعب العراقي الذي تناولته رواية ( كريم شعلان ) كان قد شمل كل الجوانب المأساوية التي خلفها ذلك الحصار من موت وسجون وجوع وقساوة وفساد وهتك لأعراض الناس في بناتهم وأمهاتهم وزوجاتهم أمام منصات التعذيب التي كان النظام يعذب فيها معارضية والرافضين لسياساته العرجاء التي ذهبت بالعراق الى أبعد نقطة في الهاوية والضياع الذي مازالت آثاره شاخصة حتى بعد أن مضى أكثر من ثلاثين عاما على تلك الجريمة البشعة التي إرتكبتها أمريكا والدول المتحالفة معها .! كانت وصمة عار في تاريخ الولايات المتحدة وهي تقتل الشاب والشيخ والأطفال عبر التجويع في الوقت الذي ترسل كل شيء الى النظام وجلاوزته الذين لم يشعروا قيد شعرة بآثار الحصار بل إستئسدوا على الفقراء وغير الفقراء ومارسوا معهم التعذيب والقتل والموت اليومي كما سنلاحظ من خلال سرد الأحداث بلغة كريم شعلان السلسلة والجميلة التي يتقدمها خياله الشعري المبهر وهو يستذكر أحداثا مرت قبل ثلاثة عقود من الزمن المرّ .الأحداث داخل الرواية متسلسلة وهو يحدثنا عن والده وعن عائلته وعن المثقف راجح أو ناجي وعن الشيخ والشاب داخل السجن وحفلات الإعدامات التي كان رجال الأمن يحيونها داخل السجون ، يحدثنا عن صفية صاحبة النهدين المنتفضين كرأس القط من الغسلِ ! وعن أختفاء البصل من الأسواق بتعمد من النظام لاشغال الناس بأمر تبعدهم عن الوضع المزري ، يحدثنا عن جارتهم أم حسين وعن المقابر الجماعية والفرارية الذين يكرهون النظام وحروبه المقيتة ، يحدثنا عن التوابيت والموت والهجومات وأشياء كثيرة يصعب على العقل تصديقها لكنها حصلت في بلاد النهرين وقد عشنا أحداثها كما سنرى في هذه القراءة كيف نجح الروائي في هذا العمل المتكامل أن يجعلنا نعيش الأحداث ونتفاعل معها بقوة …
في الفصل الأول من الرواية وهو بعنوان ( الكرسي ) يأخذ بأيدنا كريم شعلان وببراعة السرد وبلغة الشعر الشفافة وهو يروي لنا الأيام الأولى من الهجوم على بغداد في الطائرات عام 1991 التي هرب رئيس النظام وجلاوزته وأختبأوا في جحورهم ، كان أهالي العاصمة بغداد يتفرجون على الطائرات التي تقوم بتدمير بلادها لكن دموعهم كانت تذرف بغزارة بينما النظام كان هارباً من المواجهة الغير متكافئة ! وسرعان ما تتراجع أمريكا وبعض الدول الجارة للعراق عن اسقاط النظام وتقوم بدعمه عسكريا ليقضي على معارضيه والذي اسماهم بالغوغاء لينفش النظام ريشه من جديد ويمثل دور الأسد ضد الفقراء والمظلومين من أبناء الشعب العراقي ويقوم بإرتكاب أقذر المجازر والمقابر الجماعية التي مازالت تكتشف في الكثير من مناطق العراق حتى يومنا هذا ، رغم كل المآسي ظل الرئيس ماسكاً بكرسيه الذي لا يحب أن يغادره حتى لو قتل كل الشعب العراقي !..فيقول في الفصل الأول الروائي كريم شعلان ص 14 :
( الأيام طابور يتهيّأ للمرور ، والحصيلة أشياء تقاوم النسيان ، ونحن نتفرج على اللحظات وهي تتطاير كاشفة أعوامنا التائهة في دروب شائكة ومعيبة . مرّتْ مجاميع هائلة لأيام ترقص على إيقاع مسيرة عسكرية يحضرها زعماء كانوا مختفين طيلة فترة إطلاق النار ، تجمهروا يلوحون لنا بأسنانهم ومخالبهم في أن نكون أكثر قسوة لكي نبيد الأعداء والأصدقاء ، وأن نتعاون على إبادة بعضنا عند الضرورة ، لذلك كانت إشاراتهم المؤدبة فيها أكفان وأعضاء بشرية تنزُّ سوائل ملونة ورصاصا يمطر مثل القُبّل ، كانت الدبابات تخرج من أفواههم مع كل ابتسامة هجمومية طارئة ، فننظر إليهم بصمت وهم يقذفون من فوهات سباباتهم وأعضائهم التناسلية عتادا أسود على المساحات الخضر من خيالاتنا . تموت أحلامنا يابسة وتزحف نيران حروبهم لتبدّد كل ما يمكن أن يبعث بنا أملا أو أمنية بسيطة ..
وفي الفصل الثاني وهو بعنوان ( هل أنا في السجن ؟ ) يزج الراوي في السجن مع آلاف من الشباب الذين انتفضوا بالضد من النظام بعد قصم ظهر الجيش العراقي وإنكساره عام 1991 وخروجه من الكويت ، ثار الشعب على النظام وسقطت المحافظات الجنوبية والشمالية وحتى العاصمة بغداد التي هرب النظام منها وأصبحت خالية تماماً لكن أمريكا حين رأت السقوط المروع للنظام الحديدي سمحت له بإستخدام الطائرات العمودية بعد أن منعت الطيران العراقي ضمن خطوط طول وعرض ! أمريكا ساعدت النظام المجرم على النهوض من جديد وتمكن من قمع الشباب الثائر . يسرد لنا كريم شعلان تلك الأيام العجاف التي إرتكب فيها نظام القمع البعث الجرائم تلو الأخرى بحق الشاب الثائر وغير الثائر ، لقد أعدم اللآلاف في منطقة الرضوانية القريبة من مطار بغداد ، كانوا يحفرون خندقاً ويوقفون الشباب على حافته ومن ثم يطلقوا النار عليهم ويأتي ( الشفل ) ليرش التراب على الخندق مكوناً مقبرة جماعية لم يكشف سرها . أما في السجن فالموت أيضا بالجملة يأتون بالناس الذين يمسكون بهم في الشارع أو في البيت ومن دون ذنب يذكر ، وكما سرد لنا قصة الشاب المعيل لأمه وزوجته وأطفاله كيف أن رجال الأمن شتموا والدته وشتموا زوجته وشتموه بأقذر الشتائم والتنكيل بالعرض والشرف لكن الشاب المسكين لم يتحمل كل هذا ، حتى شتم ضابط الأمن السافل الذي لا شرف له ومن ثم تمت تصفية الشاب بعد أن سمع الراوي صوت خافت قادم منه وسكتْ ! الإعدامات كانت في غرف التعذيب على قدم وسائق ، النظام ورجالاته بعد أن أختبئوا لأسابيع في جحور بدءاً من رئيسهم وحتى أصغر بعثي ، أختبوا مثل الجرذان في ملاجئهم خوفاً من الطيران الأمريكي ، لكنهم عادوا بمساعدة أمريكا ! التي أعطتهم الضوء الأخضر بعد أن عرف الأمريكان أن قدوم نظام غير هذا سيسبب لهم الصداع المزمن فالأفضل البقاء على نظام البعث الذي سينفذ كل ما تريده منه الولايات المتحدة ! النظام ورجالاته تفننوا بضرب الناس وسجونهم وتعذيبهم وقتلهم . وفي السجن كان ثمة الرجل المثقف صاحب الكتب الكثيرة أو المجنون ( راجح أو ناجي ) أدخلوه الى السجن مصحوباً بهلوساته النابعة من كتب عتيقة ، كان يشير للراوي بمشاركته التحديق والرأي حتى لو ماتا جميعا ! لحظات مرعبة عاشها الإنسان العراقي في سجون النظام تحت مسميات ( الغوغاء ) أو الذين هم ضد النظام . كانت وحشية النظام صارمة وفتاكة بالمجتمع العراقي . في الفصل الثاني الشعر يتفوق على السرد الجميل فتبدو الجملة والأحداث قطعة واحدة كما نلاحظ في المقطع أدناه من الفصل الثاني ( هل أنا في السجن ) ص32 :
( وقف مرة أخرى ذلك الأحدهم مُشيراً الى الشمس التي ضاعت خلف صورة الرئيس العتيقة المُتصدرة كل الجهات ، وكأنه وهو يشير بيدٍ مرتجفة قد غاب مع الشمس ، أو خلف الصورة .. واحتشد جمع يهمهم ، ثمة دخان كثيف يخرج من أفواههم ، ثمة سعال يتصاعد من شقوق الأرض ، يتحركون ببقعة ضيقة وكأنهم يتعانقون ، يهزون أجسادهم بتأثير الصّوت ، ذلك الصوت الذي لا يسمعه سواي ، هل أنا في السجن ؟ قلت للرجل النحيل الذي أوشك على التسامي ، فهز رأسه موضحاً عدم معرفته الجواب ، لم أسمع شيئاً سوى إرتطام أدوات التعذيب بالأجساد المتورمة ، أدوات التعذيب هي أدوات بدائية فاعلة تتمثل بالسياط والعصيّ وقناني الزجاج واصابع وسطية لجلادين ينتصبون بوضوح ، كأنهم تماثيل آلية مضنوعة منذ أزل بعيد أعدتهم طبيعة مجرمة وقذفتْ بهم الى عالمنا السفلي الذي نحياه بجهل ورعونة ، وصدى أفعالهم العشوائية يترنم ممزوجاً بتأوهات ضحايا يحاصرني ، ولا ملاذ . لا أقوى على فعل سوى اللجوء الى الله ، الله الذي لا أعرفه إلا في مثل هذه الحالات . ) ..
أما الفصل الثالث من رواية كريم شعلان ( حصار ، رواية لم تحدث ) وهو بعنوان ( سمفونية البصل ) ، فقد لعب النظام العراقي المجرم في سنوات الحصار الظالمة على الشعب العراقي كما يلعب الأطفال لعبة ( الطمة خريزه ) فكان النظام ما بين فترة وأخرى يفتعل الأزمات في شحة المواد الغذائية أو يفتعل أزمة للوقود أو أزمة للمشروبات الروحية وسرعان ما ينهي الأزمة ، وبعد ذلك يطل على الناس مذيع نشرة الأخبار في التلفزيون أو في الراديو ليزف للناس بشرى المكرمة من قبل القائد ونظامه في توفر الحاجة في الأسواق وكانت واحدة من هذه الأزمات هي أزمة البصل في السوق التي أعتبرت بعد حلها بالمكرمة ! وهكذا مكارم النظام تغدق على الناس بهذه الطرق السافلة التي يفتعلها بين الحين والآخر في الوقت الذي يحفر الكثير من المقابر الجماعية للشباب المعارض سوى كانوا في السجون والمعتقلات التي أصبحت أماكن لتنفيذ أحكام الإعدام من دون محاكمة . فيوضح لنا الروائي في هذا الفصل متى استهتار النظام بقوت الناس اليومي ونقرأ هذا المقطع من الفصل الثالث والذي هو بعنوان ( سمفونية البصل ) والتي يقول فيه كريم شعلان ص 41 :
( كل شيء مبالغ فيه إلا الحب ، وكل شيء زاد عن الحد إلا الحق وكل شيء مشرق من السطح ، ويصافحك أحدهم مبتهجاً متراقصاً على أنغام الموسيقا الوطنية ، لكنه سرعان ما يتراجع متذكراً عدد الموتى من عشيرته هذه اللحظة ، وتخرج كلمات الجريدة الأم ، كل شيء فداء للوطن ، كلنا فداء للقائد ، كل من عليها فان ، ولا يدوم إلا الحي القيّوم ، ويصرخ الشيخ ضارطاً من خلال مكبرات الصوت في الجامع القديم ساحلاً جثة اللغة في الشوارع المزدحمة ( الله أكبر ، النصر ، النصر ، لنبارك ونبايع قيادتنا العظيمة ، أيها الناس ، أيها الشرفاء ) . يتساءل المزدحمون أمام السوق عن سرّ اختفاء البصل في السوق . في ما بعد لم تكن هناك أحداث بالطريقة التي اعتادها العالم ، العالم الذي هو أرض مسكونة بأنفاس حبة تتسابق لإرضاء ذواتها متقمصة أدوارا متناقضة ، فمثلا عندما يرطن المهرج المثقف ( راجح أو ناجح ) متسائلا عن معنى الحرب أو معنى النصر أو معنى الصبر أو معنى الوجود الضئيل ، مالذي تعنيه هذه الأشياء في ظل أزمة غياب البصل عن السوق ؟ ) …

الكتاب : رواية ( حصار ، حكاية لم تحدث )
الناشر : دار الرافدين ، بيروت / لبنان
الطبعة الأولى : 2021
لوحة الغلاف : كريم رسن
الكتاب من القطع المتوسط ، وب 128 صفحة

أوسلو / 07/05/2021

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة