لايذكر رمضان في اللغة العربية إلا وتسبقه كلمة شهر لزوماً، وهو أسم قديم من قبل الإسلام نقل من تسمية الأشهر القديمة التي تتلائم معنىً مع الجو أو مع تبدلات الأحوال الجوية، فمازال الناس يذكرون دلالات الأسماء المناخية، فعلى سبيل المثال:
* تموز ينشف الماي بالكوز.
* آب اللهاب يحرق المسمار بالباب.
أما رمضان فهو يدل على الحر!ّ، وقد قالت العرب: كالمستجير من الرمضاء بالنار! والرمضاء الرمل الذي سخنته الشمس القوية في الصحراء.. وللقول حكاية:
حيث خرج كليب بن ربيعة في جنح الليل مستتراً بالظلام، فلمحه وتتبعه رجل من قبيلته يدعى جساس يحمل في نفسه عداوة، حتى تمكن كليب منه ليطعنه طعنة غير قاتلة وأطلق ساقيه للريح، وترك كليباً ينازع الموت في ليل موحش، ينتظر على أحرّ من الجمر من ينقذه ويسقيه شربة ماء حتى أشرقت شمس الصباح، فمرّ به رجل من قبيلته اسمه عمرو يعرفه حق المعرفة توسم فيه الخير، وإذا بعمرو يجها فرصة ليفرغ موجدة في صدره ويباغته بطعنة نجلاء بكل خسّة قضت عليه قضاء مبرما، وقد قال قائل العرب قولاً غدا سائراً حتى اليوم في شطره الثاني وقلما يذكر البيت كاملا:
المستجيرُ بعمرو عند كُربتهِ – كالمستجير من الرمضاء بالنارِ
***
ظل رمضان يعيد نفسه لقرون، يحمل في إهابه طقوساً وعادات تكرر نفسها، وتنطوي على معنى المشاعر الروحانية والأخلاقية التي تحث على العبادة وعمل الخير والغفران وصون اللسان عن الغيبة والنميمة وتدعو الى المحبة والتكافل الاجتماعي في العطف على الفقراء، وأقامة ولائم الإفطار في المساجد.. ناهيك عن الصوم والصلوات وقراءة الأدعية.. وتعد مصر رائدة في معالم البهجة الرمضانية وأهمها الفوانيس الملونة.. ناهيك عن أناشيدهم وأغانيهم التي تتصدرها أغنية “رمضان جانا وفرحنا به” لمحمد عبد المطلب..
في العراق اشتهر بطقوسه وأهمها المنقبات النبوية، حيث تقرأ فيه قصائد المدائح النبوية وأهل بيت النبي على المقامات العراقية المبهحة مثل الهمايون والطاهر والبشيري والمثنوي والأورفة …الخ. وفي مدن الفرات الأوسط والجنوب تقرأ الأدعية وأشهرها دعاء الافتتاح الذي يترنم به بمقام الدشت.. وأمين الله وكميل وأبي حمزة الثمالي، وبعد مقتل الإمام علي تقام المجالس الحسينيه وتولم الولائم لعموم الناس..
اشتهرت مجالس السهرات التي كانت تتم فيها المبارات الشعرية من المطاردات والتقفية، وهي تقتصر على محبي الشعر ومتعاطيه.. أما في الحارات الشعبية فتكون مسابقات لعبة المحيبس التي تعتمد على الفراسة والمران في معرفة حامل المحبس من بين قبضات الأكف، بل معرفة اليد التي تحمله.. والضيافة إما على الفريق المضيف أو الفريق الخاسر لصواني البقلاوة والزلابية..
للأطفال نصيبهم في المرور على البيوت وغناء الأغنية التراثية المشهورة “ماجينا يا ما جينا حلِّ الكيس وانطينا” متوسمين أن يعطف عليهم أصحاب المنازل ليمنحوهم شيئاً من من مال! ثم يتقاسمون ما جمعوا بينهم! أما في مقاهي المحلات فكان غناء “المربع” المشهور في بغداد خصوصاً ويمتاز به العراق، وهو قديم، يتألف من أربعة أشطر ثم يقفل بعد العودة الى المستهل وقد يكون من المخمس والمثمن تبعا لعدد الأشطر، وهو يغنى بالأفراح كالأعراس والأختان اشتهرت بأدائه أحياء باب الشيخ والفضل والمربعة وبعض أحياء الكرخ وهي الأحياء نفسها المشهورة بالمقام العراقي. وأظنه مازال يمارس في هذه الأحياء..
كانت الطقوس والسهرات على بساطتها فإن لها دلالات الإنسجام الاجتماعي والتماسك المجتمعي العابر للطائفية والعنصرية.. لقد اندثرت كثير من العادات والطقوس الاجتماعية وحلت محلها كثير من النزاعات والتنابذ المجتمعي بفعل التقلبات السياسية الحادة أولا وما آلت اليه الصراعات الى ظهور التعصبات العشائرية والقومية والطائفية والمناطقية… وبفعل الهجمة التكنولوجية؛ فظهور التلفزيون كان حدثا مشهوداً جذب الناس لمشاهدة الأفلام والمسلسلات كما ساهم في تقليص وضمور العادات والطقوس الشعبية، وقلل من التماسك الاجتماعي لصالح السهرات المنزلية.. ومع ظهور الحاسوب ظهرت تفاعلات وممارسات عززت النزعة الفردية والاختلاط على أرض الواقع لتسود الانشغالات ذات الطابع الترفيهي والعاطفي، فكل منشغل في موبايله وما يقدمه من مشاغل وثقافة وعلاقات عاطفية ضمن مواقع التواصل الاجتماعي حتى قيل أن الحب أصبح هو الآخر رقميا (ديجيتال)!..
وغدات عوامل الانترنت مدعاة لتفكيك الأواصر الاجتماعية حتى ضمن العائلة وتحويلها الى روتين مكرر من أجل تمضية الوقت ومكافحة السأم.. أو ملاذ لتفريغ التوترات النفسية والعاطفية! على أن أن عالم الانترنت لايخلو من برامج وتطبيقات مفيدة للغاية.. لكن التواصل بها قليل ويقتصر غالبا على النخب..
ومن ناحية أخرى لا يمكن بأي شكل من الأشكل جحود الفائدة الكبيرة للشباب المتمرد على الحكومات الفاسدة وعلى البيروقراطيات الظالمة المصادرة لقوت الشعب وحريته في المطالبة بإسقاط هذه الأنظمة المتعفنة..فقد لعبت مواقع الاتصالات في توطيد أواصر الشبيبة ولقاءاتها المستمرة ودعوتها للتظاهر من أجل تحقيق أهدافها في أسقاط الأنظمة الفاسدة والعميلة وتعزيز الاستقلال السياسي والاقتصادي ومن أجل حكم يحقق نظاماً ديمقراطياَ حقيقياً بعيد عن المحاصصة التي أذكت الطائفية والتبعية والتي تمهد للتطبيع مع العدو الصهيوني، ومن أجل حكم علماني ينفتح على منجزات العلم والحداثة والتطور ويجعل العراق الغني أن يلحق بموكب النور..
التاسع عشر من نيسان 2021
السابع من شهر رمضان 1441