بلا شك أن اللغة والتاريخ والجغرافية والاقتصاد والسياسة والدين، كل هذه العوامل وغيرها صنعت المجتمعات. أما الدين فهو الأهم والأخطر في تاريخ البشرية، وكما يقول” اصحاب نظرية مبدئية التاريخ، أننا نعتقد عرفنا مجتمعا ما بمعرفة تاريخه أو بمعرفة دينه”
وأنني أؤمن بالقدر المرعب الذي تعيشه البشرية حينما أصبح الإنسان أسيرا في قبضة مايسمى (رجال الدين) منذ العصور الوسطى والذي أطلق عليه المؤرخون (بالعصر المظلم) وكيف سيطرت الكنيسة والقساوسة على أوروبا، وقد شرح ذلك بالتفصيل الكاتب أحمد علي عجيبة في كتابه الرائع (البابوية وسيطرتها على الفكر الأوروبي في العصور الوسطى).
على سبيل المثال لا الحصر كان (راس بوتين) فلاحا روسيا لايعرف القراءة والكتابة مترنحا من شرب الخمر دوما، إلا أنه كان مقدسا لشريحة كبيرة في روسيا، وقد أطلق عليه( الراهب أو الحاج) إلى درجة أن قيصر روسيا (نيقولا الثاني) وصفه(بالرب).
أما الدين المسيحي فهو دين سيدنا المسيح عيسى ابن مريم ( عليه السلام) الذي محق العجل الذي عكفت عليه اليهود ومهّد الطريق لثورة النبيّ الأمي المهدي محمد بن عبد الله في جزيرة العرب.
وليس أنا المسلم الذي يدافع عن ديننا الإسلامي العظيم ونبينا الكريم محمد (ص) ولن استشهد بأية شخصية مسلمة، مفكر أو فقيه أو عالم ديني، وإنما روعة الدين الإسلامي وعظمة رسول البشرية محمد شرحها عملاق الرواية والفكر، عميد الأدب الروسي ليو تولستوي في كتابه ( حكم النبي محمد) واصفا رسول الله (بنبي المرحمة والملحمة).
إن ما ذكرته في عنوان المقال(العمامة) هي الخاصية التي تميز رجل الدين وتميز وجوده عن باقي أفراد المجتمع، سيما هناك البعض منهم لايرتدي العمامة. لكن بعد تجربة مئات السنين مع من يدعون أنهم حماة الدين والشريعة، أثبتت تلك التجربة أنهم جماعة ديكتاتورية فاشية، حيث فرضت أيديولوجيتها بالعنف التكفيري، وفصلت البشرية عن العلم والتاريخ، والهدف هو لخدمة مدارسها العقائدية ومصالحها الذاتية، وبالنتيجة اوصلتنا تلك العمائم إلى حالة ميتافيزيقية بامتياز. ومع أن العمامة بكل اصنافها وألوانها كانت محل احترام وتقدير الشعوب، قبل أن يدخل كثيرا من أصحاب العمائم معترك السياسة سواء بطريقة مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة من خلال تأييدهم للسلطة في حالتي الصواب والخطأ، وتأويل النصوص الدينية بما يتوافق مع رغبة الحكام والنخب المتنفذة. من هنا فقد تفاقم الجهل بمبادىء الدين الإسلامي تحديدا بسبب غياب رجال الدين ودورهم الديناميكي بصدد معالجة القضايا التي تواجه المجتمع وخاصة قضية الإرهاب والتطرف والفساد وغيرها، حيث كان المجتمع في الماضي يجد في الرموز الدينية القدوة والمثل الأعلى، قبل أن يتحول الكثير من رجال الدين إلى مجرد طبقة مصالح، أو كما يطلق عليهم (فقهاء السلطان). ولهذا فقد أصيب جزء كبير من هؤلاء بداء الانهيار الأخلاقي والسياسي، لأنها ارتكبت ومازالت ترتكب كم هائل من الخطايا بحق الشعوب قبل الشريعة والدين. وبالتالي سقطت الأديان مشلولة عاجزة، ومعوقة انحصرت في زوايا الجوامع والحسينيات وقاعات الكنائس.
ولايخفى على أحدا أن من أهم نتائج التغيير في العراق بعد عام 2003 وكوارثه هي عاصفة الفساد التي اجتاحت البلد وكيف تحول العراق إلى ضيعة يملكها مجموعة من اللصوص وبمباركة من ( رجال الدين) ، فكان على اصحاب العمائم أن يغيروا السحنة القديمة للمجتمع العراقي المدني، فامسكوا بخناق العراقيين، لأننا من وجهة نظرهم باطل، صلاتنا وصومنا باطلان، بمعنى أننا نعيش في عصر الجاهلية قبل مجيئهم. من ثم فقد اعطوا شرعية للفاسدين والقتلة، ودافعوا بكل قوة عن اللصوص والمجرمين تارة من خلال الفتاوى المؤدلجة، وتارة أخرى عبر نفاق المنابر. فتحولت هذه العمائم إلى ثورة ضد الشعب العراقي.. ثورة خراب وتدمير في كل أنحاء البلاد، وفي كل مؤسسات الدولة، ثورة أفسدت الحياة الاجتماعية، ثورة خراب الاقتصاد، وفشل السياسة، ثورة رجعية أعدمت كل نصوص العدالة، وحطمت المثل والقيم الإنسانية. فليس أهل السياسة هم المتهمون أصلا في إنهيار العراق، بل أصحاب العمائم هم الأصل.
وتأسيسا لما تقدم، وبعد أن أصبحت التجربة بكل سلبياتها نموذجا للأجيال القادمة، أضحى حلم السواد الأعظم من الشعب العراقي أن تجتث هذه العمائم الفاسدة عدوة الإنسانية من جذورها.