18 ديسمبر، 2024 7:40 م

قصة قصيرة
رَأَيتُ خَيالَ الظلِّ أَكبرَ عبرَةٍ لِمَن كانَ في عِلمِ الحَقيقَةِ راقي

شخوصٌ وَأَشباحٌ تَمُرُّ وَتَنقَضي سَريعاً وَأَشكالٌ بِغَيرِ وِفاقِ

تَجيئ وَتَمضي تارَةً بَعدَ تارَةٍ وَتَفنى جَميعاً وَالمحرّكُ باقي

 

السهروردي

 

قررت أن أهجر البيت وجدرانه الأربعة التي تطوقني وتخنق أنفاسي قررت أن أخرج الى ظل البيت في الشارع ، ومن حسن حظي إن الظل يستمر أمام بيتي طيلة ساعات النهار إلا ساعات الظهيرة إذ كثيرا ما تتعامد الشمس في شوارع مدينتنا بل إن الشمس تتعامد فوق البيوت والبساتين والحدائق في فصل الصيف الطويل ، ويستمر الظل أمام بيتي لأن بيت أبي مازن ( دبل فاليوم ) قياسا إلى بيتي المتواضع يحجب الشمس حتى ساعات الظهيرة قررت أن أقف لأنني أعشق الظل ، كل ظل ، ظل الأشجار أو تحت الجسور أو حتى تحت الماء لو استطعت أن امكث طويلا هناك ، الظل غير الظلام فأنا اكره الظلام وأمقته وحتي حينما اكتشف الأنسان الكهرباء واضاء البيوت والشوارع والساحات ألا أنه لم يقض على الظلام فهو يتسلل بقوة إلى الزوايا والأركان ، فالظلام يتيح للخفافيش حرية التنقل ، ويبيح للصوص حرية الحركة والعبث ويعطي المجرمين فرصة الوصول الى أهدافهم ، نعم قررت أن أقف في الشارع في يوم عطلتي هذه ولكني لم أحدد الوقت الذي سأقف فيه ، فإذا كان وقوفي بحسب الظل فأنني اعلم أن ظل بيت الجيران أمامي يمنحني المتعة والراحة طيلة ساعات الصباح ثم يمتد ظل بيتي بعد ساعات الزوال ، لا يوجد في البيت غيري لأن زوجتي وأطفالي غادروه الى بيت خالهم عصر أمس ، وقبل أن أخرج جلست على الأريكة أمام التلفاز اقلب النظارة السوداء ( السونار ) وأنا أتذكر جيداً كل تفاصيل العثور عليها، أتذكر جيدا قبل ستة أشهر بينما كنت اسير في شارع فلسطين بغداد وقت الغروب ،

 

كنت أحث الخطي على الرصيف بمحاذاة سياج حكومي قاصدا الى بيت عمي ، وكانت السيارات قليلة في الشارع وبعد أن مرت بي مركبة أمريكية مسرعة وتجاوزتني خمسين مترا أو أكثر بقليل انفجرت بفعل عبوة ناسفة وقد أصمّ صوت الانفجار سمعي وقذفني الصعق فاصطدمت بالجدار ووقعت إلى الأرض ولكنني تمالكت نفسي وتحسست جسدي ونهضت وأنا أرى النار تلتهم المركبة هناك صراخ بداخلها فاقتربت منها وكنت أول من وصل اليها بدافع الفضول وحينما اقتربت من المركبة وجدت بشرا متفحما والنار تأكل جسده والثاني يستنجد بي فاستجمعت قواي وحاولت أن افتح الباب الثقيل وسحبت الرجل من المركبة وقد قابلني رجل وصل للتو في سحبه إلى الأرض ، بعيدا عن النار ، وقبل أن نوصله الى المكان الآمن وقد بدا في حالة خطره والدم يغرق ملابسه من كل جانب تحسست جيبه الخلفي ، وقد برزت منه محفظة صغيرة اخرجتها وأخفيتها في كمّي بعد أن وصلت مركبة أخرى وشاهدنا أنا والرجل الآخر وقد انقذنا الجندي أو الضابط لا أعلم بالضبط ، نعم أنقذنا الرجل من النار التي أتت على المركبة بكاملها ، وقد تكررت انفجارات العتاد بداخلها ، وعندما ترجل رجال المركبة المسعفة نظروا الينا نظرة الشاكر لفعلتنا وقد طلبوا هوياتنا وسجل المترجم المرافق لهم اسماءنا وقال انهم يشكرون ما قمتم به ، وقد صوروكم من بعيد .

عدت وقتها إلى البيت وأنا أعيش صراعا نفسيا ، تراني كيف أدين الاحتلال وأحقد على هؤلاء الجنود الذين يجوبون شوارع بغداد وقصباتها ليلا نهارا ، ثم أنقذ أحدهم من موت محقق هل أردت منه أن يتعافى ويعود ليدوس تراب العراق ؟ أم تراني قمت بواجب إنساني حتّمه علي ديني وأخلاقي وثقافتي العشائرية ؟ عدت وأنا غاص بالحدث ، أريد أن أحكي مع أي انسان أعرفه لكي أقص عليه ما جرى ، وأعرف رأيه بفعلتي عدتُ مسرعاً والمحفظة الصغيرة التي أخفيتها في کمّي نقلتها إلى جيبي ، وأخبرت حينها زوجتي التي راحت تلومني وتقرعني لأنني نسيت بسرعة ما فعلوا بجيراننا قبل اسبوع ، نعم قبل اسبوع واحد فقط فقد داهموا بيتهم في الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، وارعبوا الأطفال والنساء ، وأخذوا الرجال مصفدين الى جهة مجهولة دون أن يعرفوا اسباب اعتقالهم وكانت تقول لي

 

 

: كنت أنت حينها تعض اصبعك حتى كدت تقطعه غيظاً وغضباً على ما فعله هؤلاء الأوغاد الذين لا يراعون حرمة البيوت ويستخدمون القوة المفرطة بوجه كل من يشتبهون بمقاومته لهم ، نسيت النظارة أو تناسيتها بعد أن دخلت في نقاش حاد مع زوجتي وقلت لها : إن كرهي للأمريكان ومقتي لهم لا يعني أنني أتخلى عن انسانيتي وديني ومعتقدي ثم أني أردت أن اضرب لهم مثلا نادرة في الشهامة والمروءة ولكنها لم تقتنع وأجابتني ساخرة : نعم سيتعلمون من شهامتك ومروءتك ، ولن يخربوا النسل والحرث بعد الآن ، ولن يعتقلوا الأبرياء ، إنك تعيش أوهاما تصور لك أن هؤلاء من جنس البشر ! وعند منصف الليل بعد أن قامت زوجتي وأطفالي فتحت المحفظة التي اصطحبتها معي ووجدت بداخلها نظارة سوداء واسعة وثقيلة نسبية وما إن وضعتها على عينيَّ حتى أصابني الذهول فقد نظرت الى زوجتي وكانت ترقد بجنبي وقد تغطت بغطاء سميك ، فاذا بي اراها كما خلقها ربها ، ثم أدرت النظر الى جوانب الغرفة فرأيت أطفالي في الغرفة المجاورة عراة ، قلت : لا اله الا الله ، يا رب ما هذه النظارة انها ( نظارة سونار )، إنها عجيبة من عجائب الدنيا ، يا أولاد الكلاب الأمريكان تتجسسون على الناس في بيوتهم وفي مخادعهم وتطلعون على محارمهم ، من أين لكم هذا الأعجاز هل صنعتموه بعين الله ؟ كما قال سبحانه وتعالى النبي نوح (ع) (( واصنع الفلك بأعيننا )) ؟ لقد هالني ما رأيت ، وصعقت من هول الصدمة ، وكنت أصرخ وقد تذكرت قول الأمام علي (ع) (( لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً )) لقد كشف لي الغطاء وها أنا أرى الأشياء من خلف الجدران ، ومن خلف الثياب ، يا الهي ، ماذا فعلوا هؤلاء ؟ هل قصدهم النص المقدس (( وعلمنا الانسان ما لم يعلم )) وحينها أدركت كيف إن فرنسا وألمانيا بل أوربا كلها تثير ضجة التجسس علي مكالماتها من قبل المخابرات الأمريكية ، وقد سبقتها ضجة في أمريكا نفسها حيث التجسس على المكالمات الشخصية في أمريكا بطولها وعرضها .

لم أنم في تلك الليلة وقلت : يا ربي ماذا دهاني ، ليتني لم أمر في ذلك الشارع ، في ذلك المساء ، ليتني لم أخطف النظارة من جيب الأمريكي المصاب إني في محنة من أمري ، هل هذه سرقة أو غنيمة ؟ هل أقدف بالنظارة في سلة

 

 

 

المهملات بعد لأن أحطمها بقبضتي ؟ أني أخفيها عن زوجتي وأطفالي الذين يستبيحون أغراضي ويقلبون صوري وأشيائي الخاصة في خزانتي خاصة زوجتي التي تبحث دائما حتي وأنا موجود في البيت عن رقم هاتف أو عنوان وكانت تمازحني وهي تمد يدها في جيوبي وتقرأ وتتصفح كل وريقة أو قصاصة ، اين أخفي هذه النظارة اللعينة ؟ هل أضعها في السيارة تحت المقعد الأمامي مثلا ؟ أو في خزانة السيارة ؟ أو في مكان آخر بعيد عن عيون عائلتي ؟ اصبحت النظارة منذ الآن عبئاً علي وأصبحت تحت ضغط كل هذه الأسئلة ، لكنني في الوقت نفسه أصبحت متشوقاً لكي أجول بهذه النظارة في الشوارع في صباح هذه الليلة وأری ما أرى ، أرى النساء عاريات ، والرجال عراة وفي أوضاع مختلفة ، ومنذ ذلك الحين قبل ستة اشهر وأنا أتحين الفرص لكي أقف في شباك غرفة الاستقبال التي لا يفصلها عن الشارع سوى سياج الحديقة ، لأنظر في الشارع ثم أعود وأخفي النظارة في مكان بعيد مثل الساعة الرقاصة في صالة الاستقبال بعد أن افتح مقبضها الخلفي ، وكنت حريصا على أن أغير مكان النظارة بين حين وآخر ، كنت خائفاً ففي كل يوم كنت أتخيل أن يرسل علي الأمريكان ويسألونني عن النظارة ، ولكنني كنت أسائل نفسي كيف يسألونني عن النظارة وقد احترقت المركبة بمن فيها وبما فيها خلا الرجل الذي سحبته خارج المركبة وقد بقي منه ما بقي من روح بل انني اعتقد انه مات لا محاله بسبب الحالة التي رأيته عليها ، ستة اشهر ولم يرسل عليَّ الأمريكان كما اخبرني المترجم ، إنه وعد من وعودهم الكاذبة الكثيرة ، إنهم لا يفون بوعودهم ، ولكن مهلا إن ستة اشهر قليلة في حسابات الامريكان ، وليس سهلا عليهم أن يشكروا من يقدم إليهم إحسانا لعلهم يرون ما قمت به واجباً أرد فيه جميلهم ، ولعلهم لا يرون أن ما قمت به يستحق الشكر والتكريم ، ولكن لماذا ؟ أليس هم أصحاب نظريات حقوق الأنسان ؟ هذه الهراوة التي يشهرونها بوجه كل دولة تعارض سياساتهم أو مواقفهم أليس الانسان لديهم قيمة عليا وإن إنقاذ نفس يأتي في المقام الأول في اهتماماتهم ؟ فكيف اذن يغفلون أو يتغافلون عن تكريمي ؟ أنا أيضا لم أحفل بهذا كثيرا زد على هذا إن

 

 

 

 

التكريم سيخلق لي خلافا حادا مع زوجتي ويثير حفيظة بعض أصدقائي لأن الجميع لا يحبذ أي تكريم يأتي من قوات الاحتلال.

وقفت أتخيل أنني أخاطب صديقي الحميم صالح ، وأخبره بهذا الحدث منذ ذلك اليوم المشؤوم ، وأطلب منه أن لا يروي ما سيسمعه لأحد ، وأرجوه أن يحفظ هذا السر على قاعدة المثل الشائع (( كل سر جاوز الأثنين شاع )) ثم إنك يا صديقي لن تجد من يصدق ما تقول ، او ستواجه بالإنكار كما واجه الأنبياء

والرسل من الجحود والأنكار من أقوامهم .

وحينما وضعت النظارة على عيني ، ووقفت أزاء باب بيتي عرفت ميزة أخرى لهذه النظارة أغرب من الأولى وعرفت هذا بالصدفة فقد خرج جاري من داره وهم أن يركب سيارته ، ولم يسلم علي وظننت أنه لم ينتبه لي فرفعت يدي ملوحا ، ولكنه لم يرد على تحيتي فأعطيته العذر وقد دلف الى سيارته وقبل أن يدير محركها جاءه رجل وسأله :

– أين دار استاذ غريب ؟

– ذلك الباب البني ، قال جاري وأومأ للرجل على باب داري

– شكرا ، أجابه الرجل ، ثم قصد الى باب بيتي ، وتوقعت أن يسلم عليَّ ،

ولكنه قصد إلى جرس الباب فقلت له :

– تفضل أنا غريب – فدهش الرجل وقال : أخي أنت تناديني من وراء الباب هل أنت استاذ غريب ؟

– أمسكت يده وقلت له : نعم أنا استاد غريب ، فجفل مني وسحب يده بقوة وأدار ظهره لي ولم يلتفت وقد اسرع في مشيه بشكل لافت للنظر .

حينها عرفت أن النظارة تخفي من يلبسها بحيث لا يراه أحد لأن جاري لم يرد علي تحيتي على غير عادته ، والرجل ظنني جنيّاً أمسك به فهرب بلا رجعه ، لقد لبستني الحيرة ولم أعد أفكر في الرجل وماذا يريد مني أنه رجل غريب لا أعرفه وانا لم اره من قبل ترى هل جاء من طرف الأمريكان يخبر سار أو سيء؟ لقد انصرف ذهني بعيدة الى انني استطيع الذهاب الى اسرائيل ، والدخول الى

 

 

مكتب رئيس الوزراء ، ثم اضربه بأية دواة أو تحفيه على مكتبه وأخرج لكي تملأ صورة رئيس وزراء اسرائيل الصحف العالمية في اليوم التالي وهو مخضب بدمائه وقد نقل إلى المستشفى مع مجهولية الفاعل حيث تبدأ التساؤلات والتحقيقات التي تثير الشكوك أزاء أقرب المقربين له أو توجيه الاتهام الى المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية ، وستكون هناك اعتقالات وانشقاقات ، ولكي أوغل في الاقتصاص من اسرائيل وما تختزنه ذاكرتي من صلفها وجبروتها بعد أن حققت اكثر من نصر على العرب وهي تتبجح بتفوقها العسكري الساحق ، وتخيلت أنني أذهب في اليوم الثاني إلى مكتب وزير الدفاع الاسرائيلي وأضربه الضربة ذاتها فتزداد الفوضی في حكومه اسرائيل وتهوي هذا البالونة الكبيرة بفعل صغير جزئي وأتخيل وأنا أسير في شوارع تل ابيب كيف آكل ما أشاء من حوانيت الأغذية والفواكه وأنام في أفخم الأرائك في المقاهي حتى تفتح في اليوم الثاني حتى أنني استحضرت صورة يوسف العاني وهو يبيت في حانة الخمر وقد غلب عليه السكر في تمثيلية ( عبود يغني ) يا رب ما أيسر أن تسقط الدولة القوية التي تمتلك آلة عسكرية جبارة بفعل صغير يشبه فعل الفارة التي تنخر السد الكبير ، نعم فكرت أن استثمر هذه النظارة في نشاط سياسي يغير وجه العالم بعيدا عن الانشغال برؤية الناس عراة خاصة النساء ، ترى هل سيكون الأمر مألوفاً بعد أن أرى كل من يسير في سوق الشورجه أو الكرادة كما خلقهم الله ، وأنا الوحيد الذي لا أُرى عارياً ولكن من يدريني لعل كثيرا من الذين يلبسون النظارات السوداء من الشباب أو من رجال الأمن والحمايات يتمتعون بنفس الامتياز هذا ولكن المشكلة أنني أراهم يلبسون نظاراتهم وأراهم وهم يمسكونها بأيديهم أو يضعونها في جيوبهم إنني أراهم في الحالتين ، لقد تأكدت من عمل هذه الآلة العجيبة وادركت ما اثير حول السونار في المنطقة الخضراء حيث اعترضت النساء من أعضاء مجلس النواب علی الأمريكان ورفضن الدخول في قمرة السونار التفتيش لأنها تظهرهن عاريات إن هذه الآلة التي أصبحت في حوزتي جعلتني أحسب أن الغرب توصل الى اختراعات عجيبة وغريبة وهم الآن يرون الأجسام عارية من خلف الملابس والجدران ولكن الحمد لله لم يكتشفوا ما تحت جلودنا أقصد ما تضمره النفوس من

 

کره وحقد عليهم وعلى أسلحتهم وجنودهم واساطيلهم التي تجول البحار والمحيطات وتنشر الرعب والموت نعم لم يتوصلوا بعد هذا الأمر ومن يديرنا لعلَّ لديهم ما يحقق لهم ذلك ، وقد اكتشفوا جهاز الكذب والتنويم المغناطيسي وغير ذلك ، المهم انني وقفت في الظل غير وقفتي في كل مرة كانت تمر عليَّ زرافات الرجال والنساء والأطفال والشيوخ وكنت أراهم كما خلقهم ربهم في هيئات وأحجام مختلفة يا ربي إن إنني ألوغ في حرمات الناس واطلع على محارمهم ، أغفر لي يا رب فانا لست طالب لذة ، ولكنني في غاية العجب والانبهار ، ترى هل أن هذه الاله تشحن من أشعة الشمس أو من التيار الكهربائي أم أنها متصلة بالأقمار الصناعية ، بدأت اخاف لعلَّ القمر الصناعي يصور وقفتي هذه الآن وأنا اضع هذه النظارة على عينيَّ ، وستأتي أحدى المدرعات الأمريكية لتضع الكيس في رأسي وأنا متلبس بالجريمة ، انتابتني رعدة وأوشكت أن أعود الى البيت وأخفي النظارة في مكانها الأمن ، وأنا أقول يا ربي ماذا دهاني وكيف تغيرت حياتي ومشكلتي الكبيرة انني لا استطيع أن أطلع أحدا على هذا الأمر وقد صرفت النظر عن فكرة مفاتحة صديقي صالح فهذا سري الذي سينتقل معي إلى قبري ولم أفكر هل اكتب النظارة في وصية میراثي أم ألقيها في فتحة المياه الثقيلة فيختفي سرها كما اختفت اسرار هائلة في تاريخ البشرية ، اسرار القتل والسرقات والاعتداءات الجنسية والمؤامرات الدولية والانقلابات العسكرية ، لقد هالني ما رأيت وأنا أعيش صراعا مريراً إذ اقبلت امرأة يتدلى شعرها على اكتافها وقد حملت حقيبتها في يدها وكانت ترتدي بدلة سوداء مطرزة بالبياض طويلة وحذاءً بنياً انيقاُة ولكنها كانت رجلا إنها من المخنثين فقد رايتها وهي تقترب مني وكنت أتوقع أن أرى ملامح رجل في وجهها من شعر الذقن أو الشوارب ولكن الغرب أيضا هيّأ لهذا الأمر عدّته فقد اصبحت المساحيق والدهون المختلفة تغطي كل التجاعيد وتنزع كل شعره وتغير ألوان البشرة والعيون والشعر ، إن هذه المرأة في حقيقتها رجل ، كدت أصرخ يا ناس يا ناس هذه ليس امرأة إنها رجل بلباس امرأة انني اكتشفت الآن خفايا كثيرة نراها ولا ندري ما خلفها ، إن الحواس لا تعطينا الحقائق كاملة وتذكرت حينها حركات المثليين في الغرب وأنا أعيش لحظات تهزني فعقلي وقلبي وكل أعصابي

 

 

 

 

وجوارحي تشتغل لكي أفهم ما يدور حولي ، ولا زال الظل يغطيني رغم أنه بدا ينحسر رويدا رويدا مع صعود الشمس في كبد السماء ، وأنا أطالع البشر الذي يمر في هذا الشارع الذي ينتهي بمرآب عام يتوزع فيه الناس إلى أحياء المدينة ويأتون منها فيكون اللقاء في هذا المرآب الكبير فضلا عن الأسواق والمحلات التجارية التي تقع في الجانب الآخر من شارعنا ، أنا واقف والكل يتحرك حولي الشمس القمر والأرض والناس والسيارات والعربات كل شيء يتحرك وأنا واقف وما إن أفرغ من مشهد يؤرقني ويفزعني حتى أرى مشهدا جديدا اكثر غرابة ودهشة فقد أقبل رجل يلبس عقالاً ويشماغاً وثوبا کُوي بعناية تامة ولديه شاربان أسودان هُندسا بدقة فوق فم كمَّثري الشكل وكان يمشي بسرعه وصدره مندفع إلى الامام قليلا وما إن تمعنت به حتى بان لي أنه امرأة وقد نظرت الى ردفيها الواسعين واتضحت لي عانتها المنتفخة ، امرأه شابة ترتدي زي الرجال هذا أمر لا يصدق مفارق لما قبله فالشارع مليء بالتناقضات والمفارقات ولولا هذه النظارة الملعونة لم أدرك هذه الأشياء وهو قطعة مما لا يدركه غيري ، لقد سئمت من هذه المشاهد المربكة ، وقررت أن أدخل إلى بيتي قبل أن ينحسر الظل علی غیر عادتي ، ولكنني فوجئت بجندي يسير باتجاه المرآب ، جندي طويل القامة ممتلئ الجسم ، واسع الخطوات أسمر اللون ، زادت سمرة وجهه لحية خفيفة ، وحين وقعت عيني عليه بان لي أنه يحمل حزاما ناسفا يلفه بقوة حول خصره وتحت ملابسه أنا لم أر الحزام الناسف في حقيقة الأمر ، ولكننا نراه في البرامج التي تعرضها الأجهزة الأمنية حينما تعثر على وكر للمسلحين ، وتجد فيه أحزمة ناسفة أو عبوات أو أجهزة تفخيخ السيارات ، وهنا انتابتني رعشة سرت في كل أنحاء جسمي کدت أتراجع إلى الوراء وأخفي جسدي خلف الباب بسرعة ، وكأن هذا الحزام سينفجر في هذه اللحظة ثم استجمعت قواي وقررت أن أقوم بدور بعد أن اجتازني الرجل وقد رأيت ملامح غضب وهم تعلو قسمات وجهه ولامبالاة بمن حوله عندها تذكرت مسدسي الذي أضعه عادة في ثنايا أحدى مقاعد الصالة الداخلية وأسرعت بما أوتيت من قوة لكي أحمل مسدسي وأتبعه قبل أن ينفذ فعلته المشؤومة ، وبالفعل وجدت المسدس وحملته مسرعا وأنا أصيح بأعلى

صوتي إنه ارهابي يرتدي حزاماً ناسفاً ، ايها الناس ابتعدوا عنه ، ابتعدوا عن هذا الجندي انه ارهابي سيفجر نفسه بينكم ولكنني كنت أصيح عبثاً فقد هزَّ جسمي دوي صوت تعالت معه كتلة من نار وسط الشارع الى مصاف البنايات ثم تلا ذلك دخان كثيف وصياح وأصوات سيارات ، ولم اتبين حقيقة ما حصل إلا وأنا علی أريكة بيضاء في المستشفى محاطا بأهلي واصدقائي وهم يبشرونني بسلامتي من ضربة الانفجار الثاني الذي حصل خلفي وأنا أركض وأصيح واحذر من الأول وقد حصلا في وقت واحد تقريباً وقد تحسس جسدي وقد أجريت لي عمليات اسعافية وأخرجوا مني شظايا في أنحاء جسمي ظهري ورجلاي ، وكان موتي حتمياً لو أن أحدى هذه الشظايا استقرت في مؤخرة رأسي ، وعندها تذكرت النظارة التي سقطت حتما أثناء سقوطي على الأرض ولا أدري هل تكسرت أم عثر عليها شخص سيء الحظ مثلي فقد كان حزني شديداً عندما شعرت بأنني لم أنقذ أكثر من خمسين شخصاً بين شهيد وجريح وقد عرفت أن الموت يسير نحوهم وتمنيت لو أنني أعثر على هذه النظارة لكي أجول فيها بنواحي المدن وأصطاد هؤلاء الذين ينشرون الموت والرعب والخراب وقد اشتقت إلى الظل الهادئ الذي كنت استمتع فيه لأنني التقي عنده بالحياة والحركة وقلت في نفسي لا بدَّ ان اخرج في الأسبوع القادم لقضاء ساعات استجمامي المعتادة بعد أن أغادر المستشفي .