18 ديسمبر، 2024 10:46 م

ثنائية الخير والشر في الديانة الزرادشتية

ثنائية الخير والشر في الديانة الزرادشتية

بالأصل إن التوحيد لله سبحانه كإله واحد لا شريك له ولا شبيه ولا مثل ولا مثيل ولا مثال ولا ند . كذلك إن الله عزوجل كخالق للمخلوقات كلها وللكون والعالمين كلهم ، هو مدار وأساس الديانة الزرادشتية والأديان السماوية كلها بشكل عام ، لكن العديد من المؤرخين والباحثين لم يفلحوا من فهم دقيق وصائب لفكرة التوحيد الزرادشتية ، ولفكرة قوة النور والخير مقابل فكرة الشيطان ، بالتالي فهموا وتوهموا إن الزرادشتية قائمة أسسها على مبدأين ، هما : النور والظلام ، أو الخير والشر ، وهما بحسب فهمهم قوتان متساويتان ، لكن العكس هو الصحيح في ذلك .

لقد جاء ذلك الفهم الخاطيء بالحقيقة بعد وفاة نبي الله زرادشت ، حيث طرأت على الديانة الزرادشتية تطورات وتغيرات وتحريفات وإضافات لم تكن موجودة بالأصل فيها ، بخاصة بعد حادثة الأسكندر المقدوني التي أشرنا اليها أكثر من مرة ، وهي حرقه للمعابد وكتاب [ الآويستا ] الديني الزرادشتي خلال هجومه على بلادفارس وآحتلالها عام 325 ق ، م .

وقد تناسى هؤلاء بعد عدم تدقيق وآستقراء صحيح لكتاب ( آويستا ) والنصوص التوحيدية الخالصة الواردة فيه إن الحجر الأساس في الديانة الزرادشتية ، هو التوحيد والوحدانية والفردانية المطلقة لله الخالق سبحانه وحده لا شريك له .

ففي الديانة الزرادشتية التوحيدية لا إستقلالية أبدا لصراع قوى النور والظلام ، أو قوى الخير والشر ، إذ كلاهما غير خارجة إطلاقا عن سلطان الله جل في علاه ولا عن إرادته ومشيئته وسننه المبثوثة في الكون والحاكمة عليه . وهذا مؤداه الحقيقي ومعناه ومغزاه الواضح ، كل الوضوح إن الله تعالى الخالق لكل شيء ، وهو سبحانه المدبِّر لكل شيء ، وهو وحده تعالى المؤثِّر في العالمين والحاكم عليهم .

عليه ، نجد إن عقيدة التوحيد ، هي أصل الأصول في الديانة الزرادشتية ، أما الثنائية فهي طارءة عليها ودخيلة فيها ، وقد إلتبس هذا ، أي الثنائية المزعومة على الكثيرين الذين بحثوا في الديانة الزرادشتية ، وذلك – كما قلنا آنفا – لعدم مراجعتهم الإستقرائية والتحليلية الدقيقة والصحيحة للنصوص والآيات التوحيدية الخالصة الواردة في ثنايا كتاب ( الآويستا ) ، منها ، وهي الأهم والأولى لآتِّخاذها مصدراً ومداراً في المتابعة والإستناد والقبول أقوال النبي الكريم والحكيم زرادشت نفسه :

ألف / { إلهي .. الآن ، ومن البداية يداي مبسوطتان أدعوك وأصلِّي لك وأسألك العافية والطمأنينة } ينظر كتاب ( آويستا ) ، تقرير وتحقيق جليل دستخواه ، الترجمة الفارسية ، ج 1 ، ص 7

ب / { إلهي .. خالصا مخلصا توجهتُ اليك ، فأكرمني بثواب الدارين } ينظر نفس المصدر والمقرر والمحقق والترجمة والصفحة المذكورة

ج / { إلهي .. فليخسإ الشيطان الضعيف والملعون والرجيم والمطرود }. ينظر نفس المصدروالمقرر والمحقق والترجمة المذكورة ، ج 2 ، ص 581

في هذا الشأن أيضا يقول الباحث الكوردي فرهاد عبدالحميد : ( لكن لنعرف ، لماذا آنتشرت هذه الأفكار من إن الديانة الزرادشتية ، هو دين ذو إلهين للتعبد . لقد صدر هذا المفهوم للعديد من الكتاب ، حيث أخطأوا في أن < أهريمن > ، أو < أنغرمينو > [ أهريمن وأنغرمينو ، هما لفظان أطلقهما زرادشت على الشيطان ، ومازال اللفظ أهريمن مستعملا في اللغة الكوردية حتى اليوم كلفظ ودلالة على الشيطان . م عقراوي ] ، هو قوة أمام ومقابل < أهورامزدا > ، [ أهورامزدا : يعني الله الحكيم العليم في لغة زرادشت وخطابه . م عقراوي ] ومنافسا له .

وقد توضَّح لدينا إن نصوص الغات [ الغات هو نصوص آويستائية . م عقراوي ] لم تصرِّح بأن < أهريمن > ، أو < أنغرمينو > ، هو مقابل ل< أهورامزدا > ، لكن بالشكل الذي تم فيه وصف الخير فقد تم وصف الشر أيضا ) ينظر كتاب ( زرادشت وفلسفة التوحيد ) ، جمع وإعداد فرهاد عبدالحميد ، النسخة الكوردية ، ص 127

ويقول الباحث الايراني الزرادشتي أرباب كيخسرو شاهرخ في نفي الثنوية عن الديانة الزرادشتية : ( إن لفظ أهورا الذي أطلقه زرادشت على الذات الأحدية كثير في جميع أنحاء الآويستا ) ينظر كتاب ( زرادشت النبي الذي يجب أن يُعْرَفَ من جديد ) لمؤلفه أرباب كيخسرو شاهرخ ، النسخة الفارسية ، ص 56

كذلك في هذا الصدد يقول الباحث العربي الدكتور الشفيع الماحي أحمد في دحض فكرة الثنائية عن الديانة الزرادشتية : ( فكرة التوحيد إذن قوية في الدين [ قصد الدكتور أحمد هو الدين الزرادشتي . م عقراوي ] لا تكاد تخفى على أحد ، والثنائية التي خدع بها الكثير ليست منبثقة في الأصل من التوحيد ، وإنما من فكرة الصراع والتنافس بين قوى متوهمة ، ولعل هذا ما قاد بعض الباحثين الى التحفُّظ تارة والإستدراك تارة أخرى في أصل الإعتقاد الزرادشتي ، فقال جماعة منهم : إن الثنائية في الدين نظرية ، ومال آخرون الى تأكيد أن الثنائية هي ثنائية في الظاهر فقط ) ينظر كتاب ( زرادشت والزرادشتية ) لمؤلفه الدكتور الشفيع الماحي أحمد ، ص 39

فالذي أوردناه آنفا من مختلف المصادر والوثائق ، هو أدلة دامغة على توحيدية الديانة الزرادشتية وبُعدها من جانب آخر عن الثنائية التي أُلصقت بها ، أو إنه قد أُسيء فهمها.