وليد : شخصية عصامية محبوبة ، ذو خلق رفيع ، كريماً سخياً ،متواضع ، عرف عنه الكياسة ورجاحة العقل . شخص ميال الى العزلة ، عاش سنوات عمره ومازال بعيداً ما أمكنه البعد عن الناس. لم يخرج في حياته العملية التي تجاوزت الــ (كذا) عاما، عن دائرة ضيقة سجن نفسه فيها ، اهتماماً وتفكيراً ، هواية وعملاً، وبقدر ما حولها الى صومعة لا يغادرها ، لا بالجسد ولا بالروح ، اصبح العالم الواسع خارجها بحراً للظلمات ، غريباً ومجهولاً مرفوضاً.
احبَ خلوته ، لا يزور انما يزار ولا يشارك في فرح او مأتم . قليل الكلام، يحب ان يسمع اكثر مما يتكلم ، حذر ومتحسب ، يمارس السرية والكتمان على مجمل ما يقوم به .معتد بشخصيته ، عزيز النفس ، ليست له طموحات مادية ، له ميول متنوعة ، احداها يقرأ بنهم كبير وفي مختلف العلوم والفنون ، نظرته للأمور دائماً سديدة ، لأنه يخطط كثيراً قبل الاقدام على اي عمل ، فيرى ما لا يراه الاخرون . يضع افكاره في مكانها وترتيبها الصحيح ، فينعم برؤية استشرافية قلما اخطأت ، وهذا ما جعله يتميز بقدراته وبآرائه الى درجة يُسفَه رأي الاخرين ويتشبث برأيه ولا يرضى عنه بديلاً الا اذا اقتنع بصوابيته اقتناعاً تاماً. يثق بانه على صواب فيما يتعلق بأرائه ولا يتأثر بسهولة بأراء الاخرين ،ومع انه ينبذ الظاهرات فوق عادية ، الا انه يستطيع قبول الجوانب المخيفة من الطبيعة البشرية دون ان يقلقه ذلك .
اذن ، ليس ثمة مكاناً للمذهل والغامض في حياته ، الوقائع اكثر من التأملات ، تحدد آرائه . انه يرى بوضوح على العموم ، ويُظهر قدرة على الموازنة بين الدليل وعكسه بطريقة موضوعية دون ان تتدخل الانفعالات ، لجعل القضايا غامضة.
يرى العالم كما هو ، ولا يرتاح لمظاهره الاكثر بشاعة ، يميل الى اصدار احكام واضحة ، ومسلكه في الحياة يظهر صلابته ، وشجاعته تتمتع بالسيطرة على مشاعره ولا تصاب الا بمخاوف قليلة.
شجاع وعملي ، ويبدو احياناً غير متسامح تجاه الاخرين الذين لا يشاطرونه وجهات نظره ، ذلك انه يميل غالباً الى اعتبار الحساسية ضعفاً.
اتسمت حياته بالجدية ،وطبعت سلوكه ،فهو جاد جدا بعمله ،وبكل تفاصيل حياته ، لايعرف الكسل ولا يتهاون فيه او يسمح به ،وقد تدفعه جديته واخلاصه المتناهي في كثير من الاحيان الى الصدام ،ولايبالي بالنتائج مهما كانت ،كما ان جديته الزائدة تجعله عصبي المزاج ، كثير الاعتداد بنفسه .
يتظاهر امام البعض بانه مصدق لما يقول الى احد التظاهر امامه بانه غبي حقاً ، ويدعه يظن بانه ذو ذكاء حاد، وانه غير قادر على ادراك ما يبطن وما سيتصرف به ، فأنه يعرف مساحة معرفته امام الذي يعرف اقل منه وامام الذي يعرف اكثر منه ، وعلى هذا الاساس يتعامل مع الاخرين . ومن هنا جاءت واقعيته ، يعرف ما يستطيع وما لا يستطيع وما الممكن .
يعيش بعض الاحيان بعصبية مزعجة ، ويشعر بالانزعاج من اقل الاشياء، لاسيما الغبية . يعمل بجد وسعادة اذا لم يشغل باله شيء او يشتت تفكيره او يعكر مزاجه أمر ما ، فالأجواء المتوترة تؤثر على عطائه وتزعجه.
متواضع في علاقاته مع الاخرين اذا كانوا على مزاجه والا فان العلاقة معهم تصبح مفقودة . لهذا تجده يتحفظ في اقامة اي نوع من العلاقات مع هذا الاخر ، ولا يجب نقاش تفاصيل حياته معه.
اتصف بنكران الذات ، لا يتنكر لعلاقاته الانسانية مع تغير الزمن وتبدل الاوضاع، عرف عنه بالذكاء وسرعة البديهية والفراسة وقراءة دواخل البشر ولاسيما المحيطين به ، ولا يجامل في الحق ، قوي الارادة والتصميم ، وقوي الشخصية والحجة . لا يتردد ولا يتراجع فيما يراه صواباً ، بعيد عن التعصب المذهبي والفئوي والعشائري ، يستأنس بآراء الاخرين . يغفر فلا ينتقم او يثأر ، فأنه لا يعرف الحقد والتعقيدات ، يحقق الرجاء لكل من يتقدم به اليه وكان بإمكانه ان يحققه من اجل اسعاده، فيعطي من دون ان يأخذ ، ويقاسم الغير زاده ، يتنازل لمن يستحق عن جزء من مدخولاته واحياناً ما تمنحه له والدته من مال – هو وحيدها – وهي لاتمنع عنه شيئاً يرغب فيه.
نزيه بالمطلق ، لم تسجل عليه طيلة حياته سوى الامانة والصدق والتفاني والتواضع. يجيد اللغتين الانكليزية والفرنسية ، وترجم عنهما العديد من الكتب والدراسات والمقالات… حاصل على شهادة ماجستير في التاريخ الحديث وبكالوريوس في اللغة والادب الفرنسي .
نشأ في بيئة عائلية متحررة بتفكيرها لكن ضمن اطار من المحافظة ، فتشبع بالقيم الاخلاقية العالية ، ترعرع في بيت تحولت جدرانه الى رفوف مكتبة . تناوب عليها هو ووالديه بقراءة محتوياتها ، وكانت الكتب على انواعها تتدفق ليتخاطفها هو والوالدان، وكأنها خبز الحياة . وكانت له مكتبته الصغيرة الخاصة به مثل كل واحد من افراد الاسرة، وكانت المكتبة تنمو باستمرار وتمتلئ بكتب تتناسب مع سنهِ، الى ان وصلت الى اكثر من 15,000 الف كتاب ، اي انه اعتاد القراءة منذ نعومة اظفاره … هكذا نمت فيه حب القراءة ثم الكتابة تدريجياً.
غرفة مكتبته ، ملاذه ، لايخرج منها ، ولايرد على اي كان او يتحدث الى مخلوق الا لضرورة . يقرأ ، فايفهم ما يقرأ ، ويستمع الى موسيقى من نوع خاص به ، فتنتشي روحه وتسمو وتغرق نفسه في الرضا والغبطة العميقة . يشعر فعلاً بانه سابح في نعيم السلام والسكينة الداخلية التي توفرها له والدته على الرغم من تيار الشعور المكتئب الذي ينتابه بين حين وآخر ، فيدور في المنزل لا يرى احداً يشكو اليه ولا يكلمه.
مثقف ذو معرفة واسعة ، في التاريخ والفكر واللغات والادب … جمع في شخصيته : الكاتب ، والباحث ، والمترجم ، والمؤرخ ، والناقد … من دعاة التجديد والتحرر ، والانفتاح ، والتوجه نحو الحضارة العصرية.
عالمه الصغير الذي لم يغادره منذ ان تأهل للحياة العملية هو عالم القلم ، اي عالم الثقافة وعالم الصحافة والبحث والترجمة … وقد اشتبكت هذه العوالم وتوحدت واسقطت ثنائيات الوسيلة والغاية او الاداة والهدف . فكل منها مطلب ومسعى في الوقت نفسه ويستحق الجهد نفسه.
عالم الكتابة الذي حبس نفسه فيه عالم واسع يشمل المقالة الصحافية والدراسة وترجمة الكتب.. هذا هو عالمه الذي اعتز به ، كان هواية قبل ان يصبح مهنة، وكان حباً دائماً ولم يكن نزوة عابرة ، وكان انتمائه اليه طوعاً وشرفاً ولم يكن واجباً مفروضاً.
حياته تمضي على وتيرة واحدة ، وعلى نمط واحد ، وانما هي في العادة مليئة بالخبرات والتجارب المتنوعة التي تبعث فيها مختلف الانفعالات والعواطف، اذ يشعر بالحب حيناً والبغض والكره حيناً آخر ، يشعر بالخوف والقلق تارة ، وبالأمن والطمأنينة تارة اخرى . يحس بالفرح والسرور بعض الوقت ، وبالجنون والكآبة في بعض الاحيان ، وقد يتملكه شعور بالإخلاص والتفاني والتضحية احياناً آخر ، وقد تستولي عليه اوقات غضب شديد فيثور ، وقد يخلد في اوقات اخرى الى الهدوء والسكينة ، فينعم بلذة الحياة وبهجتها.
لم يكن وليد – الذي مازال يعيش في العراق بجسده لا بروحه – وكان يعاني كثيرا من طبائع العراقيين وسلوكياتهم بسبب شخصيته المتميزة والمختلفة عنهم، ونتيجة لهذه المعاناة، قرر ان يعتزل الناس في منزله، بعيدا عن محيطه الاجتماعي والوظيفي بعد ان ضاق بكل شيء حوله.
ضاق بأسرته التي عجز عن التعايش معها، على الرغم من رقيها الثقافي و علو انحدارها الطبقي ومستواها الاجتماعي، وضاق بأصدقائه الذين لا يعرفون معنى الصداقة، وضاق بالشارع والأرصفة والأحياء البغدادية التي تريفت بما حوته من سلوكيات وممارسات تعكس غباوة الطبع وانعدام الذوق وبلادة الحس.
لم يكن ذلك كله لعيب فيه فقد كان ذو خلق حميد وطباع فريدة. كان يحب اتقان العمل و الوفاء بالوعد والصدق في القول والثبات على المبدأ وفوق هذا كان كريما ومعتدلا في مواقفه تجاه الآخرين، وميزة الاعتدال وانصاف الأخر والثبات على المبدأ، تعد نادرة بين العراقيين اليوم والمثقفين منهم خاصة.
من هنا كانت تستفزه كثيرا الشخصية العراقية التي تتميز بالضعف والتلون والهشاشة والتسيب وضيق الأفق وضيق الصدر ایضاً، بالإضافة الى اميتها الثقافية وميلها الى الشهوات، وذلك غير ما يشاع عن العراقيين او غير ما يصوره الاعلام العراقي المضلل.
-2 –
تیار من الشعور، مكتئب، جارف، يجتاح كياني بين مدة واخرى، مثلما تجتاح عاصفة ترابية سماء صافية . شعور سوداوي تدفق في وجداني الصافي المستمد من صفاء المنزل وهدوئه، ربما احلم بفك قيود اسر الوالدة وطقوسها، بحيث شعرت للمرة الأولى بالضألة أمام شيء في الوجود غير ملموس وغير مرئي. هذا الشعور المتدفق بقوة، جرف الكرى من جفني، جعل عيني تمتصان طلال الليل وتسكبانه في القلب الجريح النازف بالحب. حفرتان تكدس فيها السهر والكآبة والعجز.
تنوح امواج الحسرة مستعرة، تستوقفني، تتداولني أهات تدك صدري مجردة الا منها، واسافر من جديد لمذاق الغربة والرحيل، اسافر من سماء البحر، من سراب الحلم منهوكين، الم يحتطب نبض قلبي، استعيد من الحياة بعضه لا كله فيكون لي ان استعيد شذا الروح ولو قليلا، واحمل النور بكفي لكل بيت يشكو العتمة، أحمل همس الريح امام الحقل، انفض الذكريات، اطلق لها العنان بارضها، اشلاء الصور تملأ اركان غرفتي، واسماء اصدقاء المصالح تمزقت مع تلك الصور، وتمزقت حروفها واضحت طلاسم لا معنى لها.
اتخيل العدد اللامحدود من الأحياء الذين مكثوا فوق نفس الرقعة من الأرض، وابدأ بلا كلل أو ملل اسرد اسماءهم، ومع بزوغ فجر اليوم التالي اعلم المجهول/ الطيف في عدة لقاءات وعدة تناقضات فيمن يعيشون داخلي، وليبدأ الصراع بين العديد من الأرواح الهائمة بلا حصر على تبوء القيادة في نفسي، حيث تتم عملية تناسخ اللا محسوس لأصبح بوقا يعزف الحاناً مختلفة على نوطة الحياة التي لا تنتهي الا وهي الروح ، لتصنع مني مخلوقاً حياً يختلف عن كل الباقين، بسر ربائي عظيم هو الخالق للروح التي هي من عمله هو وحده لا غير.
تنفست الصعداء، سحبت كمية من الهواء لأطفئ حريقا اشعلته شهب الأحلام في هشيم الذكريات الذي امتص حياتي. أطلقت لذهني العنان سارحاً في جنات الخيال، داعبني حلم جميل، ثم فررت وبقيت في الظلام. لم أغادر مكاني قيد انملة لكني تمتعت بشيء من الحرية في اثر انطلاقة فكرة حالمة.
کم ورقة امتلأت، وكم مقالة كتبت وامتلأت بالألم المرير، ألم المفجوع في كل شيء، ألم من دفع ثمن كل شيء مقدماً، وما زال الجرح ينزف والألم يستمر بلا عقبات، والسكين تستكن بإصرار في ضلوعي المهشمة.
-3-
كانت ومازالت مهنة وليد هي الكتابة والترجمة وقد حملته هذه المهنة الكثير من المتاعب والآلام، متاعب مع الجهات الرقابية التي وضعته تحت المراقبة والمتابعة ورصد كل ما يكتب وينشر بشكل مستتر ومتاعب مع خصومه وحساده من المثقفين (تجاوزاً) الذين لم يستطيعوا تحمل ارائه ومواقفه.. وحتى متاعب مع أصدقائه ومعارفه الذين كانوا يخافون منه ويفهمون اراءه على وجه الخطأ.
كتب وليد العديد من المقالات والدراسات ولم يجد صدى لكتاباته، كتب في السياسة والتاريخ والفكر.. فكسب المزيد من الحساد والأعداء. انتقد سيادة العقل الروائي وسيطرة عقل الماضي والحالة المذهبية السائدة وسط مجتمعه العراقي على مستوى السنة والشيعة .
كان وليد يتمتع بميزة هامة ونادرة بين العراقيين ، وهي امتلاكه ارادة حرة وعدم التزامه بسلوكيات الوظيفة المتخلفة، فقد كان متفرغاً للكتابة والترجمة ولا يهتم بالمال، وفوق ذلك، كان حر الحركة ينتقل بين زوایا بغداد يرصد ما يجري من حوله ويدون مشاهداته ويسجل ملاحظاته.. ولم يكن يملك رصيدا في البنك او سيارة او عقار او حتى زوجة وأسرة.. من الممكن أن تشكل ضغطاً عليه.
كل ذلك جعل العديد من اصدقائه يحسدونه على ما يتمتع به من حرية وما يملك من ارادة حرة لا يملكونها هم او لا يستطيعون امتلاكها.
وهذه الميزة كانت تتيح له القدرة على الصمود في وجه الضغوط ، ومن جهة أخرى كانت تشكل معوقا امام حساده وكارهية الذين كانوا يبحثون له عن ثغرة او نقطة ضعف كحال غيره من المثقفين الذين يعملون في وسائل الاعلام المقروءة والمرئية التابعة لهذه الجهة او تلك، الذين كانت تشكل الوظيفة نقطة ضعف بالنسبة لهم وثغرة تتيح لهذه المؤسسات استغلالها في الضغط عليهم وترويضهم بواسطتها.
وقد ارتبط الكثير من المثقفين والسياسيين العراقيين المعارضين والمؤيدين للحكم سواء قبل ۹/نيسان / 2003 ، او بعده، بالعديد من الجهات الخارجية، وتربحوا من وراء هذا الارتباط . اما وليد فلم يكن موضع اهتمام الجهات الخارجية او الايادي الخفية التي ترسم خارطة مسار البلد من خلال توظيف هؤلاء النكرات، والأمعات، لكونه لا يصلح لتحقيق أغراض هذه الجهات، فقد كان يملك شخصية فكرية مستقلة تجعل من الصعوبة ترويضه ليعمل لحساب جهة معينة أو يتبنى فكرة او مبدأ دون أن تكون له قناعة به.
-4-
انهض من بين كومة الكتب التي اسيج بها نفسي، وألقي بكتاب كنت أطالعه جانباً. اشعر بان جسدي الثقيل تحول الى فراشة تتحرك برشاقة في أرجاء ملاذي، غرفة مكتبتي، اتقدم من جهاز التسجيل وادفع بكاسيت الى داخله لتنطلق موسیقی من نوع خاص، لكن الأمر مؤخرا أصبح بالنسبة لي غير ذلك، حيث لا أدري لماذا اخذت تتملكني كل هذه النوبات من الغضب الجنوني كلما استمع الى هذا النوع من الموسيقى، فمن شدة انفعالي اکور قبضة يدي ملوحا بها في الفراغ، واتمنى لو كان في قدرتي أن أمسح عن وجه العالم كل قبحه ووحشيته.
نظرت في المرآة، لم اصدق نفسي؟! انكسة كبيرة شملتني؟ لا أدري؟ بقايا عزيمة شبه واهنة تحصي ضجر السنين، اشهق وجعاً والألم يخترق كامل احشائي، وأعضاء جسدي مرغمة بتذوق طعم الحجر، أنهكها موت عصي فبانت تئن من قلق نيء.
يتابعني ارق الغربة- الذي عانيته سابقا- من بعيد برغم تشقق الجسد تعبيراً عن ضياع زمنه الأتي. رغم اتساع الضحكات من منبتها –الصوت .
يطوقني الحزن الهازج، يكبلني كالخطايا، يسلبني ويواصل… التقط أنفاسي الشاردة، انهض، اقف، اخرج في الفضاء محاولاً ابعاد انفاسي عن هذا الجو الخانق من دون جدوى، ويبدأ الشريط العتيق يستحثني على تذكر أولئك الأصدقاء الأحباب من زملاء الدراسة في لبنان وفرنسا الذين رحلوا، اولئك الذين رحلت عنهم ، فلا املك سوى الانصياع لذلك النداء، لتلك الضحكات التي تثير شجوني.
اشخاص اوفياء رسمتهم في مخيلتي ومازالت تنبض بهم وتثبت ذكرياتهم، والأيام الحلوة التي سامتنا القدر کي نعرف بعضنا بعضاً عن قرب، فأصبحت املك ذلك الاحساس الحميم نحوهم، وحزنت جداً ولم أملك الصمت والهذيان امام طوفان الأيام، وهو يجرفهم على مرأى مني ذلك الشعور الغريب بالحنين والرغبة في العودة الى تلك الأماكن ملء ذلك الفراغ القاتل الذي خلقته سنين العمر بعيداً عن كل ما تتمناه الجوانح والشعور بالحاجة اليهم.
-5-
لقد دخل وليد الآن منتصف الخمسينيات من العمر، وادت به حالة المعاناة والتجارب الطويلة، بالاضافة الى الآلام التي عاشها وسط مجتمعه الى التوقف للمراجعة ، المراجعة مع نفسه، والمراجعة مع واقعه… من هنا قرر الاعتكاف لاعادة قراءاته حول العراق والعراقيين. وكانت تلك هي المرحلة الأخيرة من رحلة وليد هذه في العراق وبين العراقيين والتي وصل فيها الى رؤية تبدو متطرفة في نظر البعض، وتبدو موضوعية في نظر أخرين.
اصبحت ایام وليد في بغداد من أصعب ايام حياته، اذ اشتدت عليه ابتلاءات ما كان يجري حوله من صور الفساد والانحطاط و اللامبالاة ، ولاسيما في محيطه الوظيفي .. وبدأ يشعر وجوده في العراق لم يعد له أهمية مما اوجب عليه التفكير بسرعة الرحيل عنه قبل أن يجن او يلقي حتفه على يد أحد السفلة وغلمان الأجرام، أو يلغي عقله ويقبل العيش على الفتات كبقية العراقيين في ظل حكام اغبياء بليدي الحس، لا يبالون بهم ولايعنيهم امرهم، وهم يعيشون في واد آخر، ومن طول فترة حكمهم تصوروا أن العراق والعراقيين لن يعيشوا من دونهم.
والحاكم هذا، أصبح يمثل عبئاً كبيراً على ميزانية الدولة بسبب نفقاته الباهظة، خاصة ما ينفق من اجل حمايته وراحة حضرته وما ينفق أكثر من اجل الحفاظ على صحته المتدهورة، وقد أصابت لعناته جميع طبقات العراقيين عدا أنصاره من الحثالات.
وفي ظل هؤلاء الحكام البليدي الحس والعديمي الفهم، انهارت الشخصية العراقية في زمانهم انهياراً لم يحدث للعراق من قبل ، وهو ما يشير الى ضعفها وهشاشتها. ويظهر ذلك بوضوح من خلال صور الجريمة التي تجري على ساحة المجتمع العراقي اليوم.
ومن خلال التفاوت الطبقي الرهيب الذي حول المجتمع العراقي الى طبقتين لا ثالث لهما: – طبقة عليا غاية في الترف والثراء، وطبقة سفلى فقيرة مسحوقة. ومن خلال الفضائح التي تنشرها وسائل التواصل الاجتماعي مابين الحين والآخر… ومن خلال الحفلات الماجنة التي يقيمها المترفون وينفقون فيها ملايين الدنانير … ومن خلال نهب البنوك الوطنية وسرقة الآثار وتهريب المخدرات.. ومن خلال استيراد المواد الغذائية الفاسدة للشعب الجائع.. ومن خلال استيراد النفايات والبالات بانواعها.. ومن خلال الاتجار بالنساء في مجال الاعلانات والرقص الماجن والدعارة المنظمة والسائبة ومن خلال الاتجار بالأطفال.. ومن خلال السفهاء وتسليط الأضواء عليهم واجهاض العقلاء وتدمير الكفاءات.. ومع ظهور الصحف غير الرسمية والقنوات الفضائية هرع كل من هب ودب نحوها من باب اكل الخبزة واصطياد الرزق او خطفه كما هو حال العراقيين دائماً… وكثرت السفاهات والفضائح على صفحات هذه الصحف وفي دائرة هذه القنوات التي تم صبغها بصور المجون ، التفاهة واللهو ،وازدحم العراق بالمئات من المطربين والمطربات والراقصين والراقصات الذين هرعوا نحوه من أجل أن يثبتوا وجودهم فيه.
وازدحم ايضا بالكثير من مدعي الثقافة والكتابة ولصوص الكتب والاعمال الفنية المنتشرين في الساحة الثقافية والفنية ، والعديد منهم أصبح من الأسماء اللامعة في مجال الكتابة والصحافة والسينما والمسرح والموسيقى اليوم.
ووصل الأمر بــ وليد، الى ان يصاب بحالة من الاكتئاب، واعتكف في بيته لا يخرج الا نادرا لشراء حاجاته الضرورية، وتجنب الخروج خوفاً من الاصطدام برجال السيطرات الذين ينصبون متاريسهم بالطرقات ويستوقفون المارة ويحققون معهم بطريقة استفزازية.
ورجل الأمن العراقي يتعمد اهانة المواطن وهو متيقن بخنوعه وعدم وجود رد فعل من قبله، واذا ما حدث ووجد من يعترض عليه فانه سرعان ما يفرغ عقده فيه وينتقم منه بالقبض عليه لتأديبه کي يسير بعد ذلك مع القطيع بانتظام.
-6-
اصبح القلم رفيقي على مدار اللحظات، أنفس بمداده ما يختلج في صدري من اهات حارقة ومشاعر جياشة مخزونة في صدري، وافرغ عن طريقه ما يحتويه رأسي من افكار كثيرة… وعلى الرغم من كل ذلك فاني أقسو عليه أحيانا بل اكون قاسياً جداً، فهو الوحيد القادر على تخفيف الآمي، فانا وقلمي صديقان، كلانا يشارك الاخر افراحه، واحزانه، فهو صديقي الذي ينصت إلى شكواي، وأنيسي الذي يشاركني فرحتي، وان غلبتني الحيرة لجأت اليه، وان ملكتني الحسرة شكوت اليه، لا أخفي عليه سر، فقد فتحت له قلبي، وصرت اسرد له عما يجول في نفسي من كلمات موحشة تهز كياني، وعندما اشعر بان اليأس قد قيد يدي واغلال الغم قد اثقلت جسدي، أبدأ بنشر أهاتي المكبوتة على السطور وآلامي المدفونة في مشاعري على الورق.
أصبحت الكتابة حياتي، تسري في شراييني، وتتغلغل في نبضات احساسي، ألجا اليها في كل وقت لا أفارقها، خاصة في المساء، حتى اعتدت أن أسهر وحيدا الا من ورقتي وقلمي، واظل ساعات طويلة مع سكون الليل الذي يخيم على أجواء غرفة مكتبتي، ملاذي الدائم. حينها يشجعني قلمي ويهمس عقلي بالكتابة، فتبدأ اناملي بخط الكلمات، فكل الارهاق يهون، وكل الآلام تهون، مادام قلمي هدفه الإبداع في الخلق والصدق في التعبير عن ذوات الأخرين.
فانا، كما يعرف قلمي، انحني بخشوع امام قلم الابداع اذا كان نظيفاً، واهتف للقلم الذي يمسح دموع الحزن اذا كان في خدمة الحق والعدالة، ولست مع الذين يتصورون أن القلم في خدمة الحق والباطل على السواء.
فعمر القلم الصادق أكبر من عمر البشر، فعندما يبحر القلم في محيطات اللغة بحثاً عن مواطن الكلمة الصادقة وموانئ الفكر الهادفة، حينها يجد لذة في مقاومة التيارات المضادة في سبيل الوصول الى ما يصبوا اليه ،فهو يخترق دهاليز الذاكرة عنوة ويدخل القلب بعد ان يفتح صمامات بشوق وهدوء، ويحمل في ثنايا الروح بشرى حتى يدعنا نغني أغنيات الصباح الفيروزية ببهجة، ونرقص على انغام ایقاعاتها التي خطت عناوين جديدة جميلة.
-7-
حاولت الكتابة، الكتابة عن اي شيء، لم اتمكن، شيء ما استشعر بي، فعصفني بمداه، حاورت نفسي، اكلمها تارة واعابثها، وتارة أسايرها. استمر في محاورتها وانسى كل ما هو لي وانظر بعينين لا تريان شيئاً سوى غشاوة بيضاء كثيفة، واهز كتفي لا مباليا، وبين حين وآخر تتوارد خواطري الأف الخواطر، تتصارع في عقلي الغائب عن سطحيات الأمور ، اقتفي أثر الأرواح الشاردة والساكنة، وتأتي الأصوات مزيجاً غريباً كنداءات من عوالم اخری، توجهني على انها نفسي التي تحدثني وتستجوب ما بداخلي عمن يسمعني ومن يرد على أسئلتي: ماذا اكتب اليوم؟ أي الكلمات؟ اجلس و انزوي وحدي واظل اسرح وسط خیالات هي مجموعة اطياف تمر من أمامي.
احياناً اجد نفسي بلا فكرة مسبقة ولا استعداد مسبق، فامسك بقلمي فأجده يكتب وكأنه قلم سحري، فقناعتي تدلني عليه وهو يستدل على طريقي، وهكذا قيل، وهكذا يشير الضمير ايضاً.
الكتابة عندي اشبه بالحب، لا تخضع لقوانين ولا مواعيد ولا اعداد… وقد افاجأ بحالة من السيولة الفكرية بعد حالة من القحط واليأس، تماماً كما يفاجئك الحب بعد أن يظن انك قد احكمت اقفال قلبك بعد أن خاض أخر تجاربه.
احياناً، اجدني اريد ان اكتب رغم استعدادي لذلك، وفي هذه الحالة اعاني من حالة رفض او یأس شديد، وهذه الحالة يصاب بها كل شخص يحاول أن يكون صادقا مع نفسه أو يحس أن الكتابة فعل ورصد وتعرية وتغيير وتحدٍ وجهاد وتعبير عن واقع اكبر من الذات.
ترى، هل أطلعنا او أطلع البعض على ما كتبته الأقلام النزيه؟ وهل اطلعوا على ما سطرته الأقلام المأجورة التي تبحث عن التزييف بعد أن فقدت الضمير؟ وشتان بين هذا وذاك. فمن يشوه الحقائق وينطق الكذب ويلهث وراء الزيف، يسقط ، ومن يسبح وسط مناخ قائظ ليكسب بالخديعة نقطة فهو غافل، والخديعة ما عادت تنطلي حتى على السذج من الناس.
البعض يدور في حلقة مفرغة في قراءة ما يكتبه البعض والرد عليه، ويعتقد البعض أن من دونه اغبياء وجهلة و هو الوحيد الذي يمتلك ملكة الفهم والاستيعاب والذكاء، وينسى هؤلاء كلهم أن اغلبية الناس مسحوقة ومشغولة ولم يعد لديها الوقت لتقرأ حتى جريدة بائسة بتفاهاتها..
أه، ياقلمي العزيز، عندما حاولت أن أكتب عنك خفت ان لا اوفيك حقك، فانت الذي امددتني بالشجاعة الكافية التي من خلالها اصبحت قادراً على مواجهة اختلاف وجهات النظر. فكلماتي التي اكتبها فيك قليلة في حقك، فكثيرون من تحولت حياتهم بسبب اقلامهم المتزنة التي لم تنحرف عن طريق الصواب . أما أنا، فلست منهم بل شخص أصبح يعشق القلم مثل عشقه لسهر الليالي من اجل رفد مدادك. فقد قامت صداقة كبيرة بيني وبينك ان لم تكن عشقا، فالعاشق يتشبه بمعشوقه، أما انا، فاتشبه بك واتخيلك متقلداً الوسام الذي بودي أن أمنحه اياك. فقد عبرت معي حاجز الخوف والتردد الى عالم ابداء الرأي والمشاركة وعدم الخوف في قول الحق خشية من لومة لائم غبي وحقود وحسود، فلك أن تتخيل حالتي وانا بعيد عنك، انها حالة اشبه ما تكون بحياة الصحراء، فكل شيء فيها مخيف ولا يتحرك.
ليتك تعرف شعوري عندما تجبرني الظروف واكون مجبرا على الابتعاد عنك، انه شعور من فقد عزيزاً لديه، فقد عاهدنا بعضنا ان نكون سوية ولا نفترق الى الابد.
ان كلماتي التي اكتبها تعجز احياناً عن وصف شعوري ومدى تعلقي بك، أنه شعور الرسام عندما يمسك بريشته، يغرق معها في احلامه وطموحاته، وانا كذلك.
لقد عرفت معك احلام العالم المسمى بعالم الخيال، مبحرين الى اعماقه، مستمدين منه المادة لتحفظ اجمل عبارات الثناء والتقدير لك، متمنيا ان تظل صداقتنا الى الأبد، وان لا يكون هناك مزق يبد هذه العلاقة .
عندما وجدت ان واقعنا اليومي لم تعد تجدي معه الكتابة ولا الكلمات، قررت بإرادتي ان اريح قلمي واضمه الى مجموعاتي من الانتيكات والاثريات والى ما اجمعه من انواع السبح والساعات والاقلام، لانني احسست انه مطلوب مني ان اغير مداده وازيفه لازيف بالتالي حقيقة الواقع، لانني اخذت ارى البعض يبيعون اقلامهم وافكارهم لمن يدفع اکثر او اولئك الذين يحاولون ان يظللوا الجماهير ويلونها بتجاويف يسمونها ادباً ثورياً وشعراً جماهيرياً، بينما جمهرة الناس مشغولة بتوفير لقمة الخبز التي تزداد صعوبة الحصول عليها كل يوم. أما الأهم من ذلك، فهو ان الجماهير تعرف مقدار الزيف الذي يبيعه البعض لذلك، هي ترفض ان ينطلي عليها كل هذا الهراء وتدير ظهرها للذين يدعون انهم يتحدثون باسمها وهم يتحدثون باسم المال والسلطان، وتكتب الجماهير بطريقة واسلوب مختلف وتلتهم كتبا من نوع آخر، وتقدس اناسا من نوع مختلف .
-8-
لقد رأى وليد الكثير من المعممين الجدد التافهين، قد اصبحوا من أصحاب الملايين ويعيشون في قصور وفي عصمتهم العديد من النساء.. والعديد من المثقفين من الحزبيين والمستقلين لم يعد لهم دور سوى الكلام والقيل والقال.. والكثير من
السوقية والاراذل قد تحولوا الى مطربين مشهورين على الرغم من افتقادهم للصوت والصورة.. منهم عامل بسيط كان يعمل في دكان لا يجيد القراءة والكتابة ولا يفقه في أي شيء واصبح اليوم محل تهافت الصحف والقنوات الفضائية.
والعجيب ان العراقيين الكادحين الذين يشكون الفاقة والحرمان هم الذين يرفعون هؤلاء السوقة والاراذل ، ويحولونهم الى سادة وكبراء بالتهافت على اغانيهم الهابطة والتصفيق لهم ليل نهار وهم في حقيقة الأمر يحسدونهم على ما هم فيه من ثراء وترف وهو ما يؤكد السنة التاريخية للعراقيين الذين يصنعون جلاوزتهم بايديهم ثم يلعنونهم.
ولقد رأى وليد في العراق أن جميع الطبقات العليا في العراق اليوم من الأثرياء وأصحاب الملايين والمليارات وهي تتكون من رجال الأعمال والمسؤولين ورجال الأمن والجيش والسياسية واعضاء مجلس النواب وكبار المطربين والممثلين والراقصات.
قطاع السياسيين واعضاء مجلس النواب وكبار الراقصين والطبالين.. جمعوا أموالهم عن طريق الابتزاز والمصروفات السرية وعطايا الحكومة.. ورجال الأمن والجيش استغلوا نفوذهم في تمرير الصفقات غير المشروعة وتهريب المخدرات. بالاضافة الى ما يتلقونه من مكافآت.. ورجال الأعمال فتحت لهم الأبواب على مصارعها للصفقات المشبوهة والنصب على البنوك وتهريب الأموال للخارج واقامة المشاريع الوهمية خاصة من كان يعمل منهم لحساب هذا الامعة او ذاك النكرة من الجلاوزة..
والممثلين الذين كانوا يطلق عليهم في الماضي اسم (شعار) و هم موضع احتقار الناس ولا تقبل شهادتهم في المحاكم ولا تقبلهم العائلات كازواج لبناتهم.. أصبحوا من علية القوم وأجورهم ملايين الدنانير…
لقد تبين لـــ وليد ، انه لا امل في تغيير العراق، واقتنع بأن الأزمة في العراق هي ازمة شعب وليست ازمة حكم. وقد توصل لهذه النتيجة من خلال مواقف العراقيين وسلوكياتهم ومن خلال انهزام الشخصية العراقية عبر التاريخ، ذلك الانهزام الذي اتاح للأجنبي ان يطمع في العراق ويستعمره ويستعبد شعبه، واتاح للغريب أن ينتج فيه ويعلو بينما اكتفى العراقي بان يفلح الأرض ويعتكف بجوار النهر، الأمر الذي جعل الغزاة والغرباء يستخفون به ولا يضعون له حسابا بل تجاوزوا هذا الحد واستعبدوه وألهبوا ظهره بسياطهم كما فعل الصفويون والعثمانيون والانكليز وذيولهم حتى الآن.
-9-
اخذت انعم بالوحدة بعد أن ارتضيت حياة العزلة، على الرغم من أحساسي احيانا بالكآبة تتخلل مهجتي والحسرة تملك وحدتي، أما الوحدة، شجرة باسقة لم تحظ بمجد عاشق ما، كتب عليها اسم حبيبته المجهولة، في مثل تلك الأساطير البعيدة.
على أية حال، الوحدة هي الوحدة، في الفلسفة والاشعار والاساطير، والحياة لا تحمل معنيين، مع ذلك لها نكهة خاصة ، أن المؤمنين لا يتخلصون من الوحدة الا اذا أمنوا بالتجرد ، هكذا وجه شويترز كلامه الى اندريه مالرو، لكن أحسب أن تلك الوحدة التي عناها شويترز لا تعني سوى هذيان فلسفي لا معنى له ازاء ذواتنا، لأن حياتنا القاسية محت كل ما يحتمله ذلك المعنى من قلق وجودي يعيشه مفكرنا المسمی مالرو.
أن الوحدة لا تعني الإيمان بالتجرد فقط، فانا مثلاً في لحظات العزلة ارى الاشياء المحيطة بي كما لو اني اراها لأول مرة، فاشعر ان الشارع ليس غريباً عني لكن انا غريب عن الشارع.
عندما يسقط الواحد منا لا بديل له. هذا ما نؤمن به، لا أحد في الحياة يحل محل الأخر. بعضنا يأخذ وحدته الى القبر لينام بجانبها ، البعض تأقلم مع تلك الوحدة، أصبحت تشبهه تماماً، حتى ان امثال هؤلاء البعض لا يشعرون بجدوى أن ينفض احد عنهم الغبار العالق من بقايا الحياة، وهذا الكلام مقتنع به هذا البعض الى درجة تجد رماد السجارة لا لون له بين أصابعهم.
مع الوحدة والعزلة، كلنا ننتظر الموت دون أن تشعر برغبة للتعبير عنه، اشياء كثيرة احلامنا مؤجلة… البيوت النظيفة، السيارات الحديثة، النساء الزوجات، ولا تنسوا المال الوفير انه اغراء شخصي لا اكثر، محاولة لاثبات اننا ما نزال على قيد الحياة لا أكثر، كأننا نقود سياراتنا في صحراء ثم نكتشف لهذه السيارات أبواقا فتنتابنا رغبة مجنونة في الضغط عليها والتعرف على اصواتها.
بوق سيارة في الصحراء؟!
أهذا ما نفعل؟!!
افتحوا دفاتركم او حين تعلقون اعماركم على جدران الوهم، هل تذكرون الفنان فان كوخ حين قطع اذنه وقدمها للمرأة التي اعجبت بها، كان مجنوناً، لكن تستطيعون أن تقولوا انه جنون العبقرية, وضاعت تلك المرأة وضاع معها عمره وراح يعتزل الناس ويقال انه أمن بالوحدة والتجرد.. ومات…
هل للموت لون؟!
حدث مثل هذا حين قالت احدى ملكات القبائل الأفريقية لفيلسوف فرنسي:
ممنوع أن يتكلم احد عن الموتی والا ما يكون نفع الاحتفال الجنائزي الذي يقام لهم؟! ذلك أن الفيلسوف الأخرق أراد أن يفلسف لملكة ترى في الأقنعة الأفريقية تعويذة ضد الزمن، هي تتحدث عن الميثولوجيا في بكارة المجرات و هو يلمس الموت في بؤس الواقع انهم لم يسمعوا باعتراف ستالين: انتصرنا وهزمناهم، لكن المنتصر الأخير هو الموت.
ليس من ملاذ للموت سوى الموت. احدهم من الذين تأكلهم الوحدة على طبق العزلة والوحشة، أسلم نفسه للوحدة، على أحد جدران المنازل يحدق ساهماً في الفضاء.
هل تعرف أن البيت بحر من الظلمات؟
حين يقول ذلك يثير اشكالية معمارية واجتماعية، ولم لا تقول ان بيوتنا التي نسكنها حالياً هي بحر الظلمات، ممنوع دخول الهواء اليها بفعل قوالب الأسمنت. ويجب أن نموت داخل هذا الحصار الذي اسمه البيوت العصرية.
اذن، عدنا الى الموت من حيث لا ندري!
هل فكر احدنا في اي قبر سيدفن؟
القبور واحدة، ما الفائدة؟
لكن، أليس من حق الانسان منا أن يرى قبره الذي يستريح فيه للابد؟ ليس مهماً، مادام الانسان لايرى نفسه وهو يموت؟
يا للجواب الرائع؟!
قفزنا الى اللانهاية. ولماذا لا تقول الى اللابداية، حيث تعود الكلمات الى ينابيعها الأولى او لنكن اكثر دقة، تعود الكلمات الى اصلها الاشاري في العصور الحجرية السحيقة بحيث لا تعود المفردات… الموت أو الوحدة او العزلة او حتى المبادئ… اي دلالة سوى عجز الكلمة عن التعبير وسقوطها المريع في اللافعل.
-10-
كان وليد يتوقف كثيرا أمام العديد من التساؤلات التي تدور في أذهان العراقيين ولا يجدون لها اجابة:
كيف يدار العراق وهو يعيش هذا الكم من الفوضى والتسيب؟
كيف هو صامد وباقي على الخارطة؟
ولماذا حال العراق والعراقيين هكذا لا يتغير؟
ولماذا سبقتهم وتفوقت عليهم الكثير من البلدان التي لا تمتلك نصف او ربع امكانياتهم؟
ولماذا يشعر العراقي بالغربة في وطنه؟ ولماذا ينتهك فيه على الدوام؟ ولماذا لا يرتقي حاله الى الافضل؟
ولماذا يشعر انه في سجن كبير ويرنو ببصره دوماً الى الخارج؟
ولماذا يتعمد تغييب نفسه عن الواقع عن طريق الانغماس في اللهو وسائر أنواع المسكرات والمخدرات..؟
ولماذا هو كثير الكلام قليل العمل؟
ولماذا يبدو امام المراقب وكأنه لا يعاني شيئاً وحاله على مايرام؟
ولماذا يرتكب مثل هذه الجرائم البشعة؟
ويتوقف ايضاً امام الكثير من الكلمات التي تجري على ألسنة العراقيين وتتردد في وسائل اتصالاتهم بانواعها.. دون الاشارة الى معنى محدد لها.. والاغرب ان العراقيين لا يعرفون ما هو المقصود بهذه الكلمات، ورغم ذلك يرددونها كالببغاوات من هذه الكلمات: – انضرب بوري، اكله لليدة، انطاهيا ترس… وهناك كلمات أخرى اكثر غرابة يتداولها الجيل الجديد وهي تظهر بوضوح من خلال موجة الاغاني الشبابية ومعظم كلماتها من ابتداع العراقيين.
وتداول مثل هذه الكلمات بين العراقيين خاصة في الأغاني يظهر بوضوح انهم من السهل عليهم أن يضحوا بلغتهم. والمراقب لهذه الأغاني لا يجد فرقا بين ما تعرضه وما يجري في النوادي الليلية ولا يجد سوى الأحضان والقبلات والرقص والغناء والجريمة وسوء الخلق والعقد النفسية.
وما اكثر المفاسد والموبقات وصور الانحطاط والجرائم التي ترصدها مثل هذه الأغاني والمسلسلات التلفازية والتي لا تستوعبها مجلدات. وهو ما يجعل العراقيين ينطبق عليهم المثل الشائع (ان لم تستح فافعل ما شئت).
واصبح لا يعني المؤلف أو المنتج أو المخرج او الممثل او حتى الحكومة التي تسهم في انتاج هذه الانحلالات صورة العراق ولا كرامته. وكل ما يعنيهم هو تحقيق أكبر قدر من الأرباح من وراء هذه الأعمال الهابطة والمقززة التي تستخف بالعقول .
ويشير وليد الى أن الإعلام ووسائله كافة تقود الى الافلام والتسيب وتفريغ العقول وكانه يؤكد أن طريق الثراء والرقي يبدأ من هنا. وهو يسعى من جانب أخر الى توطين الخرافة في نفوس المتلقين من خلال الدعوة الى فكرة تحضير الجن والأرواح وقراءة الفنجان ومعرفة الغيب عن طريق ورق لعب القمار.
والاعلام يجاري التجارب بهذا السلوك الشخصية العراقية القابلة للتغييب الغارقة في تفسير الاحلام والاتصال بالجن والاستنجاد بالدجالين والمشعوذين.. والغريب أن العراقي يواجه هذا السفه الاعلامي وهو مصور اللهو والمجون السائدة من حوله باتسامة رضا. وهو لا يفكر أن يسأل نفسه كيف لبلد يملك كل هذه الامكانيات يعيش هذا الفقر؟ وما هو السر وراء حالة الإحباط والأفلاس والفشل الدائم في النهوض والتقدم وتحسين الأحوال المعيشية رغم توافر كل هذه الامكانيات؟
والجواب يكمن في حالة الإغراق في اللهو عند العراقيين التي جعلتهم يستخفون بكل شيء حتى بدينهم ووطنهم ولا يميزون بين الحلال والحرام ولا يريدون معرفة الفواصل بينهما خاصة اذا كان الأمر يتعلق بلقمة العيش وهو ما يجسمه المثل الدارج (حلال اكلناه .. حرام أكلناه).
في العراق الكثير من المسؤولين الذين جمعوا ثروات ضخمة عن طريق العمولات والتسهيلات والخدمات وتمرير السلع الفاسدة.. والكثير من الفنانات اللاتي يتفنن في هز مؤخراتهن وكشف افخاذهن والتلاعب بجسدهن لجمع المزيد من الأموال الى ان يفنى شبابهن، وعندما يجدن زمانهن ولی، تعلن الواحدة منهن اعتزالها وتوبتها.
والكثير من اللذين يطلق عليهم المعممين الجدد استوطنوا القنوات الفضائية ليصرخوا في وجه الناس ويرهبونهم ويسمموا افكارهم باسم الدين ويتهافتون على الأجور العالية التي تدفعها هذه القنوات ويعتبرونها بركة ورزق من الله. والادهى من ذلك، أن الحكومة لاتتحرك لمواجهة مثل هؤلاء الدعاة الذين يهددون السلام الاجتماعي وامن الوطن.
ويوماً دار حوار بين وليد وأحد ضباط الامن:-
قال الضابط – نحن جميعا في خدمة الوطن.
قال وليد – يجب ان نتفق اولاً على الطريقة التي تخدم بها الوطن.
الضابط – فسر كلامك
وليد – انتم تضغطون على الكتّاب والمثقفين وتهددونهم وتعتقلوهم بدلاً من أن تدعموهم ليقاوموا الارهاب والتطرف وكثيراً ما تصادروا كتب بعضهم مع ان هذه الكتب ضد الارهاب والتطرف، هذا في الوقت الذي تكتظ فيه الساحة بعشرات الكتب التي تدعو للارهاب وتضفي عليه المشروعية، وهذه الكتب لا احد يصادرها ولا تتحركون لمنعها ومعاقبة ناشرها بل أن البعض منها يطبع بمباركة مؤسسات الدولة الدينية، فهل هذا يخدم أمن الوطن؟
الضابط – انت تريد منا أن نمنع الناس من معرفة الدين، والدستور ينص على أن دين الدولة الرسمي هو الاسلام.
ولم يجد وليد رداً على كلام هذا الضابط الغبي، فقال – انتم تقاومون الجماعات المتطرفة وكل يوم تبرز لكم جماعة جديدة بسبب هذه الكتب التي تمثل منابع الإرهاب، فان لم تتحركوا لسد هذه المنابع فسوف نظل ندور في دوامة الارهاب والتطرف
وبالطبع كان هذا الحوار فوق مستوى عقلية الضابط وقدراته في الفهم، فهو يشعر في قراره بأن هناك خطأ ما لكنه لا يريد ان يشغل نفسه به او يفكر فيه لكونه مجرد مُنفذ للاوامر دون تفكير.
والأوامر لم ولن تصدر بالتحرك لسد هذه المنابع وذلك لكون هذه الجماعات جزء من اللعبة السياسية التي تلعبها الحكومة على حساب الوطن، واجهزته الأمنية ايضاً جزء من هذه اللعبة.
ولا يمكن القول أن رجل الأمن العراقي ليس لديه قناعة بما يرتكب من جرائم في حق المواطنين المستضعفين وانما هو يرتكب جرائمه بقناعة كاملة، فتنفيذ أوامر السلطة الجائرة في منظوره نوع من العبادة وهو ما يبرر المثل الشهير المتواتر على السنة العراقيين – انا عبد المأمور – وبواسطة الأوامر تقتل الناس في مراكز الشرطة والأمن والمخابرات والمعتقلات وتؤخذ النساء رهائن من اجل احضار المطلوبين.
-11-
ارجو ان لا يغضب المنظرين الذين يصرون بحماقة ان تكون الكلمة هي الفعل، لانه يخيل الينا بعد كل ما حولنا من العذاب والفاقة وتبديد مقومات الروح، أن حرفتنا في هذا العصر وتحديداً في هذه الأرض، اشبه بحرفة حدادي القرى الأولين الذين يهددون حياتهم كلها على محاولة ابتكار اشكال جديدة ومغرية لحدوات الخيول ثم يكتشفون فجأة أن الخيول نفسها قد انقرضت من العالم.
ولكننا نكتب …. ومع ذلك نكتب
أولاً، ليسعد بالتفرج علينا هواة اللعبة.
ثانياً، لاننا بتنا اليوم بعد يوم بحاجة الى ما ندفع به عن ارواحنا مذلة انتظار الموت.
هكذا تمضي حياتي في تغير مستمر وتقلب دائم. وهذا بلا شك يضفي عليها جزءاً كبيراً مما لها من قيمة وما لها من متعة . فبغير هذه الأحساسات الوجدانية والانفعالات والعواطف المختلفة، تصبح حياتي مملة لا متعة فيها، وتصبح شبيهة بحياة الجماد الذي لا يحس ولا يشعر ولا ينفعل. وعلى الرغم من ذلك، فمازالت الحياة لغزا لم يستطيع أن يفسره الإنسان، فهو يولد على غير قصد منه، ويذهب عنها على الرغم منه، ليس ذهابه باقل عجبا من وجوده.
والانسان في ذاته مازال لغزاً فاق في غموضه لغز الحياة، بل هو لغز الالغاز، فما اسهل ما تصدر على بعضه احكام موضوعية، واذا به لا يخلو من تصرف مشین، وقد يظهر لك بمظهر التقي واذا به شهواني جامح، وقد يتكلم كثيرا عن معاني الانسانية ودفع الضرر عن الناس، ولكنه لا يتورع عن امساك السلاح وشن الحروب وقتل الانسان.
احيانا، افكر، اذ اننا نعيش ونلهو في هذه الحياة الدنيا، ونعصي ونتمرد، وايضاً نركض وراء ملذات الدنيا كأننا نعيش للابد، كأننا ملزمون بان نملأ افواهنا وجيوبنا اكثر مما تطيق حتى تتكور بطوننا وتتهدل، وفي لحظة نغادر هذه الدنيا كما اتينا، فقط وبقطعة قماش بيضاء رخيصة الثمن، وأحياناً أو غالباً يغادرالبعض بدون تلك القطعة؟
ماذا نريد نحن؟
وراء أي سراب نلهث؟
لماذا نحس هكذا اننا عطشى بالرغم من اننا نعبئ من سراب اوهامنا؟
يخيل ألي، أن الإنسان شيطان رجيم في جانب كما هو ملاك رحيم في جانب أخر، وما نراه من تناقض في أعماله ليس الا نتيجة لهذا الصراع الدائر بين قوى الخير وقوى الشر فيه، ولست مبتدعاً شيئا فيما اقول، فهذه هي النتيجة التي توصلت لها خبرة الإنسان على مر العصور… وماذا بعد؟
لا اريد ان يفهم من كلامي، أن نركن وننزوي في زاوية ما، ونضع ايدينا على خدينا ونندب على وتيرة واحدة، انما اردت أن أقول: هل تستحق هذه الدنيا كل هذا العناء؟ هل هناك خلود يستحق أن نرهن أنفسنا من اجله؟ وكيف يكون المجد والخلود؟ ولماذا نسمع فقط بأسماء اناس قدماء مازالوا بيننا كأنهم احياء؟ ولماذا البعض منا لازال لاهٍ؟
كيف نملأ بطوننا، وكيف نتوسد ركام قناعتنا وننام ولا نحس حتى بالذباب وهو يدور حولنا على شكل دوائر وكأنه يحدد قيمتنا في هذه الدنيا؟ ماذا فعلنا لغيرنا؟ وماذا سنُورث للأجيال الاتية؟ لا شيء، سوى مجموعة مشاكل معقدة هي كل ما سنترکه لهم!!
ما العمل اذن؟ كيف نخفف عن النفس عناء الحياة وغموض الحياة وآلام الحياة؟
في رأيي، أن يتخلى الإنسان عن الاعتداد بما لديه من قوة عقل و فکر منصبة جلها في خدمة نزوات… ويفتح قلبه اكثر للحياة، فهناك حياة في التأمل بالطبيعة وجمالها، وهناك اجتهاد في الحصول على الصديق، فما كل من عرفته وتعاملت معه وضحكت معه وعشت معه بصديق. لأن الصديق الحقيقي هو المرأة التي ترى نصفك الثاني فيها، ويرتاح قلبك حين تحيا معه.
كن مسامحا في كثير من الأمور، وتحمل اذى الناس، وتذكر. انما انس القلوب الصفاء – ولا تخف كثيرا من الفقر والحاجة في المستقبل، فحياتك الحقيقية هي اللحظة هذه التي تعيشها الآن، وليست ماهو خافٍ في علم الغيب. واذا ما صعب عليك هذا الكلام فما عليك الا ان تعتزل الناس، ولكن في هذه الحالة لا تكن فارغاً لان في فراغك هذا وحشة لك والماً.
لكن، هل هذه قيمنا كبشر؟
لا اعتقد، فما خلقنا الله الا من اجل هدف ورسالة سامية جدير بنا أن ندركها ونؤدي رسالة سبحانه تعالى في الأرض.
-12-
سيطرت على وليد العديد من الهواجس وتواترت امامه العديد من المشاهد المؤلمة التي مرت عليه، وقد ادى ذلك الى فقدانه القدرة على النوم، فكان يشغل نفسه بالقراءة تارة والكتابة تارة اخرى وكثيرا ما كان يقضي الليل متجولا في غرفته.
كانت الحوادث الوظيفية التي مرت به وصور الاحباط والتكالبات الدونية والاذى التي لحقته من محيطه الوظيفي.. كافية للقضاء عليه نفسياً الا انه كان يتسلح بالصبر منتظراً الفرج من عند الله. والفرج في مفهومه كان الرحيل/ الهجرة من العراق وهو ما كان يشغل فكره منذ سنوات مراهقته الا انه كان ينتظر الفرصة المناسبة، التي على ما يبدو لم تأت.
كان وليد يخشى على نفسه من أن يصاب بالجنون او يصيبه ما اصاب بعض المثقفين الراحلين الذين ماتوا كمداً او سقطوا على قارعة الطريق ولم يعبأ بهم احد.
فتذكر صديقه الكاتب الذي كان ينشر مقالاته في مختلف الصحف والمجلات العراقية ويتألم لحال العراق ويشاركه تصوراته عن شعبه حين سقط امامه في شارع الكتب المتنبي الذي كان يداوم على التواجد فيه وفاضت روحه على الرصيف. وكيف أصر ضابط مركز شرطة الميدان المجاور لشارع المتنبي على ارسال جثته للمشرحة لمعرفة سبب الوفاة لولا وساطة البعض لينتهي الأمر بتسليمها لاهله ليدفن في صمت وكأن لا يعرفه احد.
وتذكر وليد ايضاً احد معارفه من كتاب الصحافة العراقية عندما أصيب بانفجار في الدماغ، نقل على اثره الى المستشفى ليلفظ فيها آخر انفاسه وهو يرى امامه الكثير من السفهاء والسقطة في عالم الصحافة والاعلام وقد تم تصعيدهم وتسليمهم بعض الصحف اليومية والقنوات الفضائية، بعد أن اشهر القدامى افلاسهم وفاحت رائحتهم.
ورأى وليد الكثير من المثقفين النابهين أصحاب الرأي وكيف انهاروا تحت وطأة الضغوط المعيشية واستسلموا للامر الواقع، ومنهم من سار في ركاب السلطة وسلطت الأضواء عليهم وفتحت أمامهم الأبواب على مصارعها ليدخلوا عالم الاثرياء.. ومنهم من اختل عقله فأصبح يهيم في الطرقات يحدث نفسه ويسخر منه العامة.
ولازال وليد يذكر احد معارفه من الصحفيين الذي كان يردد امامه دائما – نريد ناكل خبزة – وكيف اصبح رئيس مجلس ادارة احدى المؤسسات الصحفية ويدافع باستماتة عن الفساد والمفسدين بعد ان انتمى الى زمرة الزمارين والمتملقين والجلاوزة السلطويين.
وعلى الرغم من ذلك كله بقى بعض الاصدقاء ملتصقين بــ وليد منهم من كان يشاركه آلامه ومتاعبه ، الا انه لا يمكنه ان يكون على شاكلته ويجهر بما يجهر به من اراء ومنهم من هجره مخافة منه ومنهم من كان عالة عليه .. ومنهم من كان يدعي الثقافة متمسح بالمثقفين … وامثال الاخير اصبح لهم وجود وصوت ببركات التعليم المجاني وتذويب الفوارق بين الطبقات … وكان وليد قد اهداه بعض الكتب ثم اكتشف انه لا صلة له بالقراءة وانه مجرد مدعي.
-13-
لخيباتي وخيبات غيري … خيبات كثيرات ستأتي في قابل الايام .. اتعتقدون لحينها سأصمد وسأتمكن من الكتابة عنها …؟!!!!.