خاص: قراءة – سماح عادل
يقول المخرج الفرنسي”جاك تاتي” أنه انحاز للإنسانية من أجل الدفاع عن الفرد، ويرى أنه على المخرج ألا يكرر نفسه في أفلامه، كما يرفض الإفراط في استخدام التقنية واستخدام حركة الكاميرا السريعة مؤكدا على ضرورة الاهتمام بالمتفرج. بينما يعطي “مارسيل كارني” الأولوية للشخصيات وللوسط الذي تتطور فيه ثم الاهتمام بالأحداث، كما يعتبر الفن جزء من متعة الحياة، ولذا لا يحب تقديم الموضوعات السوداوية.
نواصل قراءة الكتاب المميز (قرن من السينما الفرنسية.. من خلال اعترافات مخرجيها)، تأليف “إيريك لوغيب”، ترجمة “محمد علي اليوسفي”، حيث يحتوي على عرض حوارات أبرز المخرجين في السينما الفرنسية. لنتعرف من خلال تلك الحوارات على السينما الفرنسية ورموزها واتجاهاتها.
جاك تاتي Jacques TATI
“جاك تاتي” مخرج فرنسي، ولد سنة 1908 وتوفي سنة 1982. نجم في مسرح المنوّعات، مخرج عدد من الأفلام القصيرة. مثّل دور الشبح في شريط كلود أوتون لارا “سيلفي والشبح”. من أبرز أفلامه:
أفلام قصيرة: (أوسكار بطل لعبة التنس (1932)؛ مطلوب إنسان فظ (1934)؛ يوم أحد مرح (1935)؛ عالج يسارك (1936)؛ عودة إلى الأرض (1938)؛ مدرسة سعاة البريد (1947)).
أفلام طويلة: (يوم عيد (1949)؛ عطلة السيد هولو (1953)؛ عمّي (1958)؛ وقت اللعب (1965)؛ حركة السّير (1970)؛ استعراض (1974)).
الابتسامة..
يقول “جاك تاتي” عن موقعه في السينما الفرنسية: “أحاول إدخال الابتسامة في ما يحدث لنا. بالتأكيد أنا لست ناقداً فنياً حتى أهاجم ما هو سائد حالياً، لكنني اكتفي بإسداء النصيحة: لا تشيدوا مدارس تمنع الشمس من دخول قاعات الدرس. هدفي هو القول: كل هذا العالم الراهن جيد جداً، لكن لا تكتفوا بالاستماع إلى المذياع ومشاهدة التلفاز، صفّروا، غنّوا، تكلموا، واصلوا العيش. في كل أفلامي تفلت مني الخاتمة، وتتشكل من دوني. هذا ما حدث، على سبيل المثال، في شريط “عمي”. تملكني القلق بسبب ديكور ساحر، متجاوز للشخصيات. إنني أحب الناس، وفي كل مرة أذهب بعكس رغبتي الأصلية. مواقفي لا تخلو من تفاؤل كاذب. أما في العمق من ذاتي فأنا لا أكف عن التساؤل: ما هذه الحياة التي لا يمكن أن تُعاش إلا بالنسبة إلى ثلاثة أخماس البشر، في أقصى تقدير؟
أعتقد أن هناك سينمائيين يعتبرون مؤلفي أفلام حقيقيين، مع كل ما يتضمنه ذلك من محاسن ومساوئ. لا يمكن إنجاح فيلم بنسبة مئة في المئة. وما يحدث لي يشبه ما يحدث لكل شخص يريد أن يحكي حكاية بصدق. ولا ينبغي الخلط بين الذين يقتبسون كتباً واسعة الانتشار وينقلونها إلى الشاشة وبين أولئك الذين يحاولون إبداع أعمال سينمائية. وأذكر من بين الأخيرين بوستر كيتون، شارلي شابلن، جان رينوار، فدريكو فلليني. ينبغي البدء، قبل كل شيء، بالتمييز بين هذين الصنفين من السينمائيين لأن هناك صنفين فعلاً.
أما في ما يخصني، وما أردت إنجازه، فأنا أشعر بنوع من الخيبة إزاء سلوك الفرنسيين. أعتقد أنني مثلت هذه البلاد التي أحب، بالمقدار نفسه من الكبرياء والجدوى.
مهنة تبيع رؤية..
ويجيب عن سؤال لِمَ يرغب المرء في إنجاز فيلم: “يصنع الإنسان فيلماً لأنه اختار أن يكون سينمائياً. الصعوبة الأساسية في مهنتنا هي أنها المهنة الوحيدة التي تبيع “رؤية” وتدفع بالمخرج إلى الادعاء والتأكيد: “سأجعل الآخرين يتفرجون على ما أريد أن يروه” والحال أن هناك ستمائة شخص يعملون مع المخرج. ولهذا السبب نجد الممثلين والمخرجين مجبرين دائماً على البرهنة على تواضع كاذب.
يضاف إلى ذلك أنها مهنة تتطلب الكثير من الجهد. مشكلتي الحقيقية أنني أحتاج إلى العلاقات الإنسانية. إنها ضرورية بالنسبة لي حتى أتمكن من العيش. لقد انحزت إلى هذا الجانب الإنساني من أجل الدفاع عن الفرد. في شريط “حركة السير” لم أنكر الخدمات التي توفرها السيارة للعائلة مثلاً. غير أن السيارة لم تصنع من أجل عزلة الإنسان على أحد الجسور النائية لعدة ساعات، كما حدث لي ذات يوم، ولم يتضامن معي أحد ولو بابتسامة. إنه سباق من أجل المزيد من الأمكنة، يحوّل كل فرد ويقدم له محركاً غير نافع يكون امتداداً لبطنه.
أعرف أن كلامي لا يمكن أن يؤثر في كل الناس. الناس في منتهى الخضوع للإعلان. ومع ذلك ما زلت آمل نشر الابتسامة”.
وعن القواعد التي تحدد عمل المؤلف السينمائي الكوميدي يقول: “ينبغي على المؤلفين والممثلين الكوميديين أن يكونوا كذلك قبل بدء الفيلم. وعليهم ألا يتركوا أية مبادرة للمتفرج، وخاصة استباق الأحداث والتنبؤ بالمواقف اللاحقة.
ينبغي على المخرج أن يتعلم كيف يرى ما حوله بانتباه كبير، بدل الاكتفاء بتأمل ذاته في المرآة، أو النظر إلى الآخرين باستخفاف. هنا، في فرنسا، يدفع الجمهور بالمخرج إلى تكرار نفسه. بعد “يوم عيد” توجّب عليّ تصوير “ساعي البريد في برلين” ثم “ساعي البريد في مركز البريد والهاتف” أنا عاجز عن ذلك. في كل مرة أجد نفسي مدفوعاً إلى شيء جديد ومختلف. لا أستطيع تكرار الشريط نفسه. ولقد قيل عني إنني لا أتعامل إلا مع الفنانين الهواة. وهذا خطأ. ففي شريط “وقت اللعب” مثلاً، هناك 60% من المحترفين.
من أجل إخراج فيلم بصري لابد من توافر وقت طويل، والحال أن أي نجم كبير لن ينتظر طويلاً حتى ينتهي جاك تاتي من الإخراج. من جهة أخرى أنا لا أستطيع العمل بطريقة مختلفة وأخيراً فإنني أختار ممثلين يكونون تحت تصرّفي تماماً. ولأنني أرغب في الحصول على التأثير الكوميدي بالاقتراب من الواقع أكبر قدر ممكن، فأنا أفضل سائقاً حقيقياً عندما أحتاج إلى مشهد يتعلق بالسيارة، كذلك أحتاج إلى شرطي مرور حقيقي. وهكذا يكون الأشخاص الواقعيون أكثر طرافة وصدقاً من الممثلين الصغار. ويأتي حضورهم ليضفي غنىً وقيمة على الموقف. هذه المدرسة الواقعية تطرح مشكلة حقيقية أمام النجوم الكبار باعتبارهم شخصيات أكثر منهم ممثلين. لقد ظل غابان هو غابان، كما ظل بلموندو هو بلموندو. وهما شخصان أقوى مما تستدعيه أفلامي. عندما أعود إلى أفلامي لا أستطيع تفادي المقارنة. الأفكار الجيدة لا تباع، أما الاغتيالات والجرائم فتباع بأغلى الأسعار.
وعن هل قام من قبل بتقييم الماضي يقول: “أمضيت حياتي محاولاً ممارسة مهنة. العمل هو ما يدافع به التقني المختص عن ذاته. ويوم أحس بأنه لم يعد لدي ما أقول، سوف أنسحب على أطراف أصابعي”.
تحريك الكاميرا..
عن التقنيّة يقول: “أعتقد أن كل سينمائي يحتاج إلى تقنيته الخاصة. ويخطئ الشباب الذين يعطون أولوية للسرعة. وهذا أدى إلى “مدرسة” تزعج الكثير من السينمائيين الحاليين. تحريك الكاميرا بشكل سريع جداً يعتبر عائقاً إضافيا بالنسبة للكوميديا السينمائية. والحال أن الصورة، في هذا المجال، كثيراً ما تحتاج إلى لقطة ثابتة، في حين يكون الموضوع هو المتحرك. شخصياً أسعى دائماً إلى جعل المتفرج يضع نفسه موضع الممثل. وأظن أن هذا الأمر يفسر استمرار أفلامي لعمر طويل. فالجمهور طرف معني. وهذا أسلوب وليس تقنية. وتبقى المشكلة في شد المتفرج باستمرار. والكاميرا الثابتة تمكنه من تأمل الديكور ومن الوقت الكافي للإلمام به. وبذلك يساهم في خلق الفيلم.
وهكذا فأنا لا أقول أبداً: “سأصير حداثياً” بل أقول: “سأروي شيئاً ما”. ينبغي ألا تكون بعض لقطات الفيلم غريبة إذا نقلت إلى فيلم آخر للمخرج نفسه. في السابق كنا نشعر بتوقيع المخرج انطلاقاً من أسلوبه في التقاط الصور، تماماً مثل توقيع الرسام على لوحته.
هناك إفراط أيضاً في الخلط بين الأدب والسينما. لم يكن بوستر كيتون مبدعاً أدبياً قط. كلا، الكاميرا ليست قلماً.
وعن نظرته إلى المستقبل يقول: “في هذا المجال أنا متفائل. سوف تكون هناك أجهزة وآلات أخف وزناً باستمرار، وفي متناول المبدعين الحقيقيين غير “التعبويين”. ذلك أن كل تقنيات العالم لا يمكنها الحلول محل المؤلف. والأهم حقا، هو خلق مناخ مؤلفين على الشاشة.
عندماً بدأت بإخراج شريط “يوم عيد”، وعلى الرغم من إخراجي لثلاثة أفلام قصيرة، لم أكن أعرف حتى كيف توضع الكاميرا، وبدأت بالتصوير مثل رسام أمام حامل لوحته.
وعن إدارته للممثلين يقول: “أوضح لهم ما أريد. أستند قليلاً إلى الدروس الإيمائية، بحيث لا يدركون، مع مرور الوقت، إن كانت الكاميرا قد صورتهم أم لا”.
مارسيل كارني Marcel CARNE
“مارسيل كارني” مخرج فرنسي، ولد في باريس سنة 1909 وتوفي سنة 1996. عمل مساعداً لرينيه كلير، وريتشارد أوزوالد وجاك فيدر. من أبرز أفلامه:
(نوجون، إلدورادو الأحد (1924)؛ دراما طريفة (1937)؛ رصيف الضباب (1938)؛ فندق الشمال (1938)؛ طلوع النهار (1939)؛ زائرو المساء (1942)؛ تيريز راكان (1953)؛ الغشاشون (1958)؛ أرض فضاء (1960)؛ ثلاث غرف في مانهاتن (1965)؛ قتلة النظام (1970)؛ الزيارة الرائعة (1973)؛ الكتاب المقدس (1976)؛ ذبابة (1990) (غير مكتمل)).
السوريالية..
يقول “مارسيل كارني”، عن كيف بدأت موهبته السينمائية: “تعلقت منذ سن مبكرة بمسرح المنوعات ثم بالسينما. ولما بلغت الثامنة عشرة صرت أقضي فيها سهراتي. ولعبت الصدفة أو الحظ دوراً جعل فرانسواز روزي تقدمني إلى جاك فيدر الذي قبلني مساعداً له. وعندما عدت من خدمتي العسكرية كانت السوريالية رائجة، في حين كان يتوجب عليّ التفرغ إلى أفلام إعلانات وأخرى وثائقية. وذات يوم شاهد رينيه كلير بعض تلك الأفلام، فشجعه ذلك على أن يطلب مني العمل كمساعد له. ومن جديد مارست مهنة مساعد مع جاك فيدر في شريطي “اللعبة الكبرى” و”بنسيون الميموزا” ظللت مقيداً بهذه الوظيفة لفترة. غير أنني توصلت في النهاية إلى إخراج شريطي الشخصي. وأنا مدين بكل شيء إلى مرحلة التمرن”.
وعن معاييره في اختيار الممثلين وعن طريقة إدارته لهم يقول: “أختار الممثلين حسب الشخصيات، والحكاية، ووفق ملامحهم وأجسادهم. فأنا أكون على معرفة مسبقة بهم، أو تكون لدي فكرة عن أدائهم. وحدها الأفلام المخصصة للشباب تتطلب مني منطقياً اختيار ممثلين مجهولين ومراهقين مبتدئين. وبعد العثور على النموذج الجسدي، أسعى إلى تكوين فكرة عن قدرة التمثيل وغنى الأداء لدى كل ممثل. في المرحلة الثانية، وجواباً على سؤالك الثاني، أؤكد لك بأن المخرج الذي يترك حرية الأداء للممثلين لن يحصل على شيء يذكر. ينبغي أن يكون هو المعلم، ويصحح المواقف، والنبرات الصوتية، كما يتوجب عليه فرض إدارة عامة تجعل الجميع يعملون في انسجام منشود.
يحدث أن يكون المرء أمام ممثلين ينتمون إلى جيلين؛ جيل في العشرينات وآخر في الأربعينات. ولا يمكن لأدائهم أن يكون متماثلاً. وهنا يأتي دور المخرج للتوحيد بينهم وجعل أشكال أدائهم منسجمة. ينبغي تفادي البطء في الإيقاع أو التسرع فيه، بسبب اختلاف الأعمار.
ومن الواضح أن على المخرج تكوين فكرة دقيقة عن الحركة العامة للفيلم حتى لا يفقد تجانسه. ينبغي أن تكون الأولوية للشخصيات، وللوسط الذي تتطور فيه، ثم تأتي الأحداث في مرحلة لاحقة. إن أصالة الشخصيات أهم من الحبكة. وهذا ما يوضح إعجابي اللامحدود بالانطباعيين. كانوا يرسمون زاوية من باريس أو ضواحيها، تبدو بلا أهمية أو قيمة، ظاهرياً، لكنهم يعرفون كيف يضفون عليها روحاً.
أعتبر الفن جزء من متعة الحياة. وعلى الراغب في الإبداع أن يبدأ بحب كل أشكال التعبير الفني. لست منظّراً حتى أبرر ما أقوم به. كل ما هنالك أنني أمارس مهنتي كما أشعر بها، أي على أكمل وجه ممكن”.
عدد مفرط من الكتاب..
وعن من يعجب بهم من صناع السينما يقول: “أعتبر أنه لم يعد هناك اكتراث بما قدمه مخرجون مثل رينيه كلير، ورينيه كليمون، وجان رينوار… ولا ينبغي إهمالهم باسم الشباب الذين لا ندري ماذا سيقدمون. ومع ذلك فقد شجعت الشباب طيلة ممارستي للمهنة. وهناك سبعة أو ثمانية ممن ساعدوني، صاروا مخرجين، والتاسع على الطريق حالياً. هناك شباب في العشرين وليست لديهم أية موهبة، بينما تجد موهوباً في العقد الثامن من عمره. لست ضد المعونة التي تقدم للعمل الأول، لكني ضد طريقة تطبيقها. فاللجان المكلفة بتوزيع المساعدات تتشكل من كتّاب باطنيين يخلطون بين الكُتيّب الصادر على نفقة المؤلف وبين السينما. وهذا أحد أسباب التراجع في ارتياد قاعات السينما. ذلك أن التلفاز والسيارة ليسا المسئولين الوحيدين عن هذا التراجع.
أكرر بأن هناك عدداً مفرطاً من الكُتّاب داخل أجهزة السينما. ومن المستغرب ألا يكون من بينهم أشخاص مثل كايات، وكلوزو، ورينوار، وشابرول! المخرجون العشرة، أو العشرون، الذين صنعوا السينما الفرنسية لا يُستشارون قط. أما أن يقال لنا بأننا نمثل العصر الذهبي للسينما الفرنسية نفسها فهو ثناء كئيب! إنه شكل من أشكال العزل”.
وعن أهمية التقنية لديه يقول: “أرى شخصياً أن تحريك الكاميرا، مثلاً، ليس تقنية، بل هو تعبير عن أسلوب. وذلك وفق تنفيذه وعلاقته بالحكاية. أما التقنية فهي نوعية الأفلام الموجبة والصوت. وما تبقى فهو الأسلوب.
عندما يقال اليوم: “ما أجمل هذه الصورة!” لا أعتبر ذلك ميزة. من الطبيعي أن تكون الصورة جميلة. في الماضي كان ذلك يشكل صعوبة، أما اليوم… والواقع أن المخرج، منذ بضعة أعوام صار في حل من الاهتمام بالتقنية. لقد صارت الأجهزة والمعدات أخف وأيسر تحريكاً. حتى الإضاءة لم تعد تشكل همّاً يشغل البال. وفي المستقبل، قد يتم اللجوء إلى كاميرا، 16مم، وهذا من شأنه التسريع في العمل”.
وعن تأثره بسينمائيين سبقوه: “كنت أظن أنني تأثرت بجاك فيدر. لكن إذا كان هناك من تأثير ملموس في بدايات أعمالي، فهو يعود بالأحرى إلى التعبيريين الألمان. وفي هذا المجال أذكر فريتز لانغ، ثم مورنو في ما يخص اللغة التشكيلية، وأخيراً جوزف فون سترنبرغ بخصوص الإضاءة. لقد ساعدوني كثيراً في إنجاز هذه السينما المعبّر عنها بـ “الواقعية الشعرية” في إشارة إلى ما أقوم به، وإن كنت أفضّل تفسير ذلك بصيغة تعود إلى ماك أورلان، أي “الفانتازيا الاجتماعية””.
وعن الرمزية في أعماله يقول: “أنا بالأحرى حسّي. أعرف أن أندريه بازان قد وضع كتيّباً حول الرموز التي قد تكون موجودة في شريط “طلوع النهار”، والحال أننا، أنا وجاك بريفير، لم نفكر في ذلك مطلقاً”.
وعن تقبّل أفلامه يقول: “بعض الأفلام لا تحقق أي نجاح، لأنها تعرض إما قبل الأوان، أو بعد فواته. أنا فخور بما جرى من كسر للمقاعد في قاعة الكوليزيه أثناء عرض “طلوع النهار”، تماماً كما حدث لدى عرض “أطلنطس” لجان فيغو، أو “قانون اللعبة” لجان رينوار. وهكذا أعتبر نفسي في رفقة جيدة. تعرف أن شريطي “دراما طريفة” لم يحقق نجاحاُ إلا بعد مرور عشر سنوات على ظهوره. ومنذ أن عرض على شاشة التلفزيون صار الناس يستوقفونني في الشارع للحديث عن الفيلم. أعتقد أنه يتوجب على النقاد محاكمة المسرح والسينما والرسم بكثير من التواضع. يمكنهم القول: “هذا رأيي” مع التلميح إلى أن البقية هي “وليس رأيي هو الحقيقة بالضرورة””.
وعن اهتمامه بالجمهور يقول: “طبعاً أهتم بالجمهور. إلا أن الشريط السينمائي ينتمي إلى الفن وإلى الصناعة في آن. ولا ينبغي إهمال هذا المظهر الأخير، مع تعاطيه بحذر. ففي المرات التي أردت فيها الاقتراب بقوة من الجانب الصناعي، لم أحقق نجاحاً. لابد من الاهتمام برأي الجمهور. ذلك أن ردود فعله كثيراً ما تُملي على المخرجين طريقة عملهم. إن الفيلم نفسه يمكن أن يثير نوعين من ردود الفعل. فإذا تم استقباله جيداً من قبل الجمهور، تنهال المدائح. وإذا رفضه الجمهور بات المخرج عرضة لكل الانتقادات، وربما الإهمال. ومع ذلك ليس النجاح هو ما يشكل المعيار الوحيد. فهناك نجاحات سابقة وقد تلي الفشل المؤقت، نجاحات أخرى”.
محدودية المواضيع..
وعن رؤيته لوضع السينما الفرنسية وقت إجراء الحوار وعن موقعه منها يقول: “موقعي خاص جداً. وهو يسمح لي بالتعبير عن الأسف الشديد، لأن الجمهورية لا تساعد الفنون بمقدار مساعدتها للملوك. هناك أفلام جيدة في فرنسا، لكنها، مع الأسف، ليست ذات اتساع ورحابة وطموح. المواضيع محدودة جداً: المثلث الشهير في حكاية حب (الزوج والزوجة والعشيق)، الاقتباسات البوليسية، أو النفسانية. وفي حالتي، قد يرون بأن “على مارسيل كارنيه أن يقدم مواضيع أخرى غير المواضيع البوليسية” وهكذا يدعونني إلى التوقف عن العمل. انه أمر يثير غضبي، إذْ لا توجد مواضيع ذات مرتبة عليا، وأخرى ذات مرتبة دنيا، وذلك في السينما كما في الأدب.
أنا شديد الحذر من الكتب التي توصف بأنها جدّية. إنها، بشكل عام، لا تحقق المتعة لقارئها. وهي غالية الثمن أيضاً، وقد تحصل على جوائز وتظل مع ذلك قليلة القراءة! في فرنسا لا يوجد مؤلفون وكتاب يدمنون السينما، وأقل منهم عدد أولئك الذين يتعاطون الاقتباس. أنا “الديكارتي”، لا أطيق نقل المتاعب إلى شاشة السينما. ومن المحزن أن الأفلام ذات الميزانية التي تتجاوز المليار هي أفلام بلا طموحات، مجرد حكايات عن قُطّاع طرق، أو فكاهات ساذجة. سياسة السينما حالياً لا تنتمي إلا إلى المطبخ!”.
وعن رأيه في التلفزيون يقول: “في عصر يتطلب رؤوس الأموال، لابد من التعاون بين التلفزيون والسينما. لكن هناك عنصرية. العرق الأعلى يتكون من مخرجي التلفزيون، أما مخرجو السينما فهم العرق الأدنى.
شخصياً لم أقدم أفلاماً سوداء بالمرّة. ومن المؤكد أنني أنجزت أفلاماً لا تخلو من الغنائية، وأخرى حزينة قد تحسب سوداء. لكن الأفلام السوداء حقاً، بالنسبة لي، هي تلك التي تعرض كائنات بشعة في مواقف بشعة. وهذا ما لم أفعله قط”.