يمتاز العاملون في قطاع الكهرباء عن غيرهم في العديد من القطاعات الأخرى بقدرتهم الواسعة على الاستجابة الفاعلة والسريعة لمقتضيات حالات الطوارئ العامة وتوفير مستلزمات مواجهتها المختلفة، فكان عملهم في ظروف استثنائية داعماً وعاملًا اساساً لتراكم خبراتهم في التعامل مع مثل هذه الحالات وتسخير ما هو متاح من تدابير أثناء أوقات إعلان الانذار أو حصول تهديدات عسكرية لاستهداف المرافق الاستراتيجية المهمة داخل العراق.
في أكثر من العقدين زمناً (١٩٨٠ – ٢٠٠٣) تعرضت الساحة العراقية الى تهديدات خارجية، نفذ الكثير منها واقعاً, كانت قد منحت لهؤلاء العاملين دروساً وتجارب ميدانية في تطويع الوسائل المتوافرة للتعامل مع أحداثها لضمان الحفاظ على الموارد البشرية والمادية أو تقليل الخسائر فيها ما أمكن.
من أولى الخطوات التي يلجأ اليها العاملون في المواقع المختلفة لقطاع الكهرباء هي عملية (الأخلاء) والتي تعني تفكيك المعدات والأجهزة الحاكمة الثمينة وتغليفها ونقلها من مواقعها في المحطات العاملة الى أخرى أمينة بهدف إبعادها عن احتمالات الضرر الذي قد يصيبها نتيجة القصف الجوي والصاروخي المعادي، يجري اختيار هذه المعدات على وفق التوصيات الفنية لتأمين عمل الوحدات التوليدية أثناء وقت فرض حالة الطوارئ حيث تجري عملية إعادتها الى مواقعها الأصلية بعد انقضاء الحالات الاستثنائية التي أدت الى إعلان حالات الانذار أو انتهاء العمليات العسكرية.
تقاس كفاءة القائمين على عمليات الإخلاء هذه على درجة تقدمهم في السباق الزمني لإنجازها وكذلك حجم المواد التي تم إخلاؤها وعديدها ونوعيتها، حيث يحتل عامل الوقت أهميته في مثل هذه الظروف حفاظاً على أرواح العاملين والحد من الخسائر المادية المتوقعة.
في بداية العام ١٩٩١ ومع تصاعد لهجة التهديدات العسكرية للعراق، آنذاك، وعند ورود الإشارة للبدء بعمليات الإخلاء للمواد الممكن نقلها من محطات التوليد العاملة (كنت حينها مديراً لكهرباء المنطقة الشمالية) وفي أثناء حضوري في موقع محطة ملا عبدالله الغازية (الواقعة ضمن حدود محافظة التأميم) بهدف تعزيز الاجراءات المطلوبة لإنجاز مهمة الاخلاء (المزعجة) وتكثيفها، شاهدت مجموعة من العاملين في هذه المحطة يتقدمهم المدير الفني لها منهمكين بتحميل ثلاجة كهربائية ثقيلة الوزن (مخصصة لأطعمة المناوبين) على ظهر إحدى الشاحنات المخصصة لإخلاء معدات المحطة ونقلها الى مواقع محددة خارج المحطة.. مازحاً استفسرت من مدير المحطة عن هذه الفعالية (إخلاء ثلاجة الأطعمة) ومدى أهميتها بالمقارنة مع المعدات والأجهزة الأخرى عالية الأثمان والواجب إعطاء الأولوية لها في عملية الاخلاء والنقل، فكان جوابه وبجديته المعهودة (نعم أستاذي مهمة.. ولكن وجدنا هناك حيزاً فارغاً متبقياً على ظهر شاحنة النقل فقررنا استثماره في إخلاء هذه الثلاجة المسكينة لإبعاد الضرر عنها بعد أن أكملنا تحميل المعدات التخصصية المشمولة بالأخلاء كافة)، قدرت، حينها، دافع الحرص العالي الذي يتمتع به هذا الموظف تجاه موجودات المحطة وجهوده الرامية إلى الحفاظ عليها (مهما كانت قيمتها) بسلوك عفوي وطني شجاع.
بالرغم من مرور أكثر من ٣٠ عاماً بقيت هذه الصورة تحتل مساحتها الذهنية لدي تستعرض دلالاتها أمامي في أحيان كثيرة عندما تكون المقارنة ضرورية في وصف ما تتعرض له حرمة الممتلكات العامة اليوم من محاولات مسيئة لها نتيجة الظروف الاستثنائية الراهنة التي حلت ببلادنا.