أول الكلام:
هناك دولتان جارتان من دول الشمال الأوربي المتقدم، هما السويد وفنلندا، وفي هذه الأخيرة تكون اللغة السويدية اللغة الثانية، وقد شهدت فنلندا تطوراً في جميع المجالات خلال العقود الأربعة الأخيرة، وتحسن اقتصادها والدخل القومي. كانت هناك جالية فلندية في السويد معظمها من لاجئي الحرب العالمية الثانية، وكان السويديون يتندرون على الفلندي بأنه “حصان عمل”، ورغم ما يبدو ظاهرياً من تهكم إلا أنه ينطوي على معنى إيجابي – مثل المديح العراقي- ذلك لأن الفنلندي جاد ومخلص ونزيه..
والأمر الذي أود ذكره هو أن السويد تصرف على التعليم بشتى مراحله بسخاء بيد أن الجارة فنلندا تصرف أقل بكثير ولكن التعليم في فنلندا هو الأرقى في كل أوربا ومستوى الطالب العلمي لشتى المراحل هو الأعلى طرّا في كل القارة العجوز! وحين تحرى السويديون السرَّ وجدوا أن المعلم في فنلندا محترم للغاية من قبل الدولة والطلبة وذويهم ناهيك عن الإنضباط المدرسي، على خلاف السويد فلا يحظى المعلم بالدرجة العالية من الاحترام أسوة بالجارة فنلندا، فالطلبة السويديون ينادون معلهم باسمه بل أكثر من ذلك ينادونه باسم التحبيب فإن كان اسمه على سبيل المثل “لارس” ينادونه “لاسّه” بمثل ما ينادى “علي” للتحبيب “عليوي”.. زد على ذلك فإن التلميذ السويدي لايتورع من أن يأكل ما فاته في فرصة الراحة ليكمله في الفصل والمعلم يشرح الدرس بينما التلميذ يقضم الجبس ويشرب المشروب الغازي!!
***
بقيت أتحاشى الكتابة عن “عيد المعلم”، فلا يمكنني أن أكتب عن المعلم ولا أذكر والدي وهو من أوائل خريجي دار المعلمين الابتدائية وأفنى عمره معلما ومديراً لأكثر من مدرسة طيلة اثنين وثلاثين عاما (عدا سني الفصل والاعتقال!).. هو معلمي الأول في البيت والمدرسة وفي الحياة..
أنه لم يحمل عصاً قط ولم يستعمل يده للضرب في وقت كان الآباء يسلمون أولادهم لشيخ الكُتّاب أو للمعلم مع حكمة بليدة: إلك اللحم وإلي العظم!
لا أنكر فضل معلمين أخرين أباة مخلصين أكفاء تفانوا في خدمة التعليم في شتى مراحله وغرسوا في أذهان طلبتهم العلم والأخلاق والمبادىء الوطنية فكانوا نِعمَ الغارسين لنعم الغّرس..لا أريد أن أذكرهم بأسمائهم خشية أن تخونني الذاكرة وأن أظلم البعض من حيث أريد التبجيل والاحترام لهم، فهم جنود مجهولون..
ويطيب لي أن أذكر حادثة مصورة لطائرة تركية انتظم ركابها في مقاعدهم، وحيث قرأ الربان (البايلوت) الأسماء اكتشف أن أحد الركاب كان معلمه في الابتدائية فسارع ليجلب له باقة وردة جميلة من المطار، وحين حلّقت الطارة حيّا الطيار بالمايكرفون معلمه ذاكراً اسمه في حين تقدمت المضيفة بباقة الورد للمعلم.. لكم أن تتصورا كيف كان شعور المعلم!
لا أريد أن أتكلم عن التعليم في العراق وتراجعه عقب اغتيال ثورة الرابع عشر من تموز في انقلاب 8 شباط 63، حيث اعتقل كثير من المعلمين وعذبوا من قبل طلابهم في الحرس القومي وكيف أهين علماء ومفكرو العراق من قبيل رئيس جامعة بغداد العالم عبد الجبار عبد الله واساتذة الجامعة وكيف عرف التعليم تسيباً بسبب اعقالات المعلمين والمدرسين، ومازلت أتذكر كيف اعتقل الوالد في الصف وهو يدرس من قبل الحرس القومي وكيف كُبل بالقيود على مرأى التلاميذ الذي انتابهم الذعر على معلمهم وهم يصرخون ويبكون!
لا أريد أن أتكلم عن حال المدارس في بلد النفط حيث زجاج نوافذ الصفوف مكسر واسلاك الكهرباء بارزة وكدت مرة أن أتكهرب لولا تنبيه الطلاب في مدرسة من أكبر ثانويات العراق وفي بغداد العاصمة تآكل السياج نتيجة سرقة طابوقه ولن أنسى يوم أطلت سخلة من الشباك!! وكيف حصل أن صارت ساحة المدرسة مطبخ لعرس مجاور للمدرسة وفق حق الجار على الجار!!
كل هذا يهون أنما أريد أن يكون التعليم حصرا على ألاساتذة البعثيين وينقل من لم يكن بعثيا الى مجالات أخرى من قبيل معمل الطابوق أو إداريين في المستشفيات او السجون.. وصارت كلية التربية مغلقة للطلبة البعثيين دون غيرهم!
وما أظن أن التعليم أسعد حالاً اليوم، فالتسيب بسبب العطل الدينية مخيف وينتج عنه تدهور في المستوى التعليمي كما ونوعا.. كما أن بنايات المدرسة وتجهيزاتها مزرية وفقيرة والشوارع المفضية للمدرسة تتحول البحيرات عند موسم الأمطار، فلا أعتقد أن في دولة معلولة بالفساد ونقص الكفاءات ..لا أعتقد تنتج تعليماً معافى.. فشيوع الشهادات المزورة وامتلاء التعليم بالدخلاء وسرقة الأسئلة الامتحانية أو تسريبها وشيوع التدريس الخصوصي أصبح ظاهرة يومية متدنية للغاية..
بيوم المعلم نهنىئ الأسرة التعليمية بكل مستوياتها متمنين أن يتحسن وضع المعلم ومحفزاته وأن يتحسن المستوى التعليمي الى المستوى المطلوب!!