فلنترك السياسة والدين جانباً ونحاول ان نتطرق الى جماعة اخوان الصفاء وخلان الوفاء ودورهم في تاريخ الفكر العربي الاسلامي، وكيف عالجوا بعض فصول الحضارة الاسلامية في الشمولية الحضارية، والقوة النشطة للانسان الفرد وهو يمارس نشاط حياته اليومية ،وكيفية تكامل الوجود البشري عن طريق الفكر والتعقل،لتحقيق الهدف الذي يربط بين افراد المجتمع في الحقوق .
أختلفت أراء العلماء والمؤرخين في تسمية الاخوان ومذاهبهم ذلك انهم عملوا جهدهم على تغطية حقيقة امرهم واسمائهم. اختلف المؤرخون في الرسائل وواضعيها فالقفطي ينسبها الى المعتزلة ، واخر ينسبها الى الحكَم القرطبي الاندلسي ومؤرخ ثالث يدعي انها تعود الى جماعة من فرق الاسماعيلية ،واراءُ اخرى كثيرة تنسبها لاخرين(1).
لكن المتتبع لتاريخهم يرى ان الجماعة نشأت كجمعية سياسية دينية في البصرة بعد استيلاء البويهيين على بغداد في سنة 334للهجرة ، وكان لها فرع في بغداد وهي تتكون من اربع طبقات هي: (2)
الاولى ،تكونت من شبان تتراوح أعمارهم بين خمسة عشر الى ثلاثين سنة ينقادون لاساتذتهم أنقيادا تاماً.
الثانية،تتكون من رجال تتراوح اعمارهم بين ثلاثين الى اربعين سنة يتلقون الحكمة الدنيوية من حكامهم.
الثالثة،تتكون من رجال تتراوح أعمارهم من اربعين سنة الى خمسين سنة ،وهم كما يسمونهم طبقة الحكماء.
الرابعة، تتكون ممن تجاوزوا الخمسين عاماً وهم الذين أرتقوا الى الطبقة العليا ،وصاروا يشهدون حقائق الاشياء كما هي كالملائكة المقربين. لكن الملاحظ ان الجمعية قد خلت من العنصر النسائي تماماً،ولم نلمس تفسيرُ لذلك ممن عاصرها او من المقربين لها..ولربما للعادات والتقاليد دور في هذا الخو النسائي منها.
ورغم تعدد طبقات هذه الجماعة وأهدافها الكبيرة،ألا ان التاريخ لم يدون لنا أكثر من خمسة أسماء كما ذكرهم المؤرخ ابو حيان التوحيدي وهم، ابو سليمان محمد البيستي المعروف بالمقدسي تلميذ الكندي الفيلسوف العربي المشهور ،وهو على الارجح منشىء رسائلهم،وابو الحسن علي بن هارون الزنجاني ،ثم ابو احمد المهرجاني المسمى بالنهرجوري،وابو الحسن العوفي، فريد بن رفاعة. ويؤخذ من كلام لابي حيان التوحيدي بأن هذا الاخير كان متهماً بمذهبه(3). ولا شك بأن أنضوى تحت اسم هذه الجمعية رجال من طبقات المجتمع المتباينة كما يفهم من رسائلهم ،وان سكت التاريخ عن ذكر ذلك.لقد قال بعضهم: لنا اخواننا من اولاد الملوك والامراء والوزراء والعمال والكتاب ،ومنهم طائفة من أولاد الاشراف والدهاقين والتجار والصناع والمتصرفين وامناء الناس،وقد ندبنا لكل طائفة منها واحداً من أخواننا لينوب عنا في خدمتهم(4).
لكن بعض المؤرخين يعتقدون ان الرسائل من صنع الفِرقة الاسماعيلية الباطنية بزعامة احمد بن عبدالله الاسماعيلي الذي يعود نسبه الى الامام جعفر الصادق. ويبدو من خلال الدراسة المقارنة بدأ الاعتقاد يميل الى انها من صنع الافكار الاسماعيلية ،وأنها من وضع دعاتهم (5).
أما اصل التسمية أشتق من صفوة الاخوة المبنية على التعاون لبناء مدينة فاضلة روحانية وتسميات اخرى تزخر بها كتب التاريخ(6).
وبغض النظر عن اهدافهم السياسية والدينية ،نجد ما يؤثر عن أفراد هذه الجمعية أنهم ألفوا أحدى وخمسين رسالة.خمسين رسالة منها في مختلف الموضوعات العلمية والفلسفية،ومقالة واحدة جامعة لانواع الرسائل على طريقة الاختصار والايجاز،منها ثلاثة عشر رسالة في الرياضيات،وسبعة عشر رسالة في الطبيعيات، وعشرة رسائل في العلوم النفسية والعقلية،وعشرة رسائل في العلوم الناموسية الالهية والشرعية، وواحدة جامعة لكل الرسائل(7).
تدل هذه الرسائل على ان اخوان الصفاء أصابوا من الرقي الفكري حظاً كبيرًواقتبسوا اراءهم وعلومهم من جميع المذاهب والاديان وذلك انهم قالوا:”ان الشريعة دنست بالجهالات وأختلطت بالضلالات ولا سبيل الى غسلها وتطهيرها الا بالفلسفة العملية والنظرية ،وافردوا لها فهرساً وسموها رسائل اخوان الصفا وكتبوا فيه اسماءهم وبثوها في الوراقين ووهبوها للناس”(8). ولهم نظريتهم المعمقة في العلم والنشاط العقلي،فقالوا :
“ان النفوس لا تستطيع الارتقاء في مدارج معرفة الله معرفة بريئة من الشوائب الا بالزهد والاعمال الصالحة”(9). وحين عالجوا الرياضيات قالوا:ان الغاية المقصودة في الحساب والهندسة ارشاد النفوس والتوصل بها من المحسوسات الى المعلولات،وبحثوا في المنطق وفي الله والعالم والنفس الانسانية ،وحاولوا ان يوفقوا بين العلم والحياة وبين الفلسفة والدين(10).
ولا شك ان رسائلهم تمثل الحياة العقلية في ذلك العصر،كما تمثل الحياة السياسية ،فهي مرآة تنعكس فيها الحياة العقلية أنعكاساً مباشراَ.ورسائلهم أشبه بدائرة معارف فلسفية علمية جمعت كل ما يمكن تحصيله من الرجل المثقف ،وتعتبر مدخلا الى رسالة جامعة ،هي خلاصة العلم وغاية الغايات التي هدفت اليها الجماعة.
ولرسائل اخوان الصفا قيمة اخرى،هي قيمتها الفنية الخالصة ،فقد عني كتابها بألفاظها واساليبها عناية أدبية خاصة ،ففيها خيال كثير وتشبيه متقن،وألفاظ متميزة،ومعانٍ ميسرة،والسبب يعود الى أنها اتجهت الى جمهرة الناس للتعليم والتثقيف والمعرفة العامة.
ان احدى الميزات البارزة في هذه الرسائل هي عنصر الشمولية الذي يتميز به مفهوم الحضارة وهو العنصر الاول.وتنطلق هذه الشمولية من الضروريات والحاجيات التي يزاولها الانسان في نشاطه الاجتماعي ،وهي تشمل نتاج جميع القيم الفكرية والمادية للانسانية.ففي مجال الحضارة الفكرية او الروحية ،نجد مثلا الافكار الفلسفية والقيم الاخلاقية والجمالية والصور الفنية ،فهم يحثون على الاعتدال بين رغبة النفس الانسانية ومعرفة حقائق الاشياء،وبدونها يخرج الانسان من الدنيا دون معرفة بها وفائدة للاخرين ،لذا فمسئولية الفرد فردية لنفسه وجماعية لمجتمعه..وهذامالم يوافق السلطة .
والعنصر الثاني في رسائلهم هي القوة النشطة المبدعة عند الانسان ،وهذا العنصر هو الذي يفرق بين النشاط العادي الذي يقتصر على مجرد اعادة المعارف والعمليات اليومية لتهُذب وتنمي قدراته العقلية والمعرفية والكفاءة المهنية لتصب في مصلحة الناس الاخرين ومصلحتهم لتكمل الاجزاء الكلية للحضارة الانسانية(11)
والعنصر الثالث هو دور الفكر والتعقل في انجاز تكامل الوجود البشري،حين آولوا النشاط الجسماني والروحي للانسان ،ليثبتوا ان الهدف هو احراز فائدة اكبر والاستفادة من الصناعات المبتكرة وتطويرها لصالح الانسان والنفس البشرية. هذه العناصر الثلاثة التي بحثت فيها الرسائل أثبتت أهميتها في الدراسات الحضارية لابراز نظرية الكيان البشري واهمية الانسان في الوجود في السابق والحاضر..
ومن يطلع على الافكار الشمولية لهذه الجمعية يدرك انها جمعية علمية عقلية فلسفية على جانب كبير من الرقي العقلي والعلمي ،ولو ان الظروف السياسية مكنت لها من النهوض والظهور لكان بامكانها تغيير الحالة العلمية التي كان عليه الناس في القرن الرابع الهجري، والتي فلسفها الفقهاء بالرأي الديني الجامد دون تحريك حين لم يعترفوا بالصيرورة الزمنية التي جاءت بها الجمعية..ولو سمح لها بالعمل والنتشار لكان دورها لا يقل عن دور المعتزلة في الحركة العقلية، ولا اصبح العرب والمسلمين في مقدمة الركب الحضاري المنشود..الذي أسقطته اطماع السياسة الدينية ..ولازالت تعمل على اسقاطه الى اليوم..
بينما نلحظ ان الأوربيين حين كونوا الجمعيات العلمية نشطت أذهانهم من عقالها، وبدات تفكر في شئون الكون على اساس من الفكر غير المقيد،والعقل المتطلع الى المعرفة العلمية تحت البحث والتجربة..حتى حققوا مالم تحققه العصور السابقة فحولوا العلم القديم الى جديد . بينما ظل علماؤنا في العصور الوسطى يدرسون الظاهرة العلمية على غير ما جاء به النص الكريم الذي دعا الى البحث والنظر والتأمل في الكون ودراسته والبحث عن حقائق الاشياء مادية ومعنوية ” قل سيروا في الأرض فأنظروا كيف بدلأ الخلق” .
فجوبهوا بالرفض من قبل الحركة الدينية حين حصروا الحركة العلمية بما لا يخرج عن علوم الدين المبتكرة منهم وحين فسروا القرآن بما يوائم هوى السلطة ، والاكثار من الاحاديث النبوية المخترعة منهم ، ظناً ان الانصراف الى دراسة ما سوى ذلك انما هو مضيعة للوقت وصرف للانسان عن عبادة الله..فوقعوا في خطأ التقدير..نحن بحاجة اليوم الى كتابة قاموس علمي جديد قائم على ترتيب عقلي للعلوم والاداب والحرف وعلى رأس كل فرع مجموعة من الأكاديميين المتخصصين الذين يؤمنون بالفكر والحرية والتقدم ،وليس في رؤوسهم الماضي القديم..شرط ان تبعد العناصر الحكومية المتزمتة دينياً في تكوينه لحين الانتهاء منه..ثم مناقشته بالطريقة العلمية المعتمدة…ساعتها لربما يتكون لنا أمل جديد.
مصادر البحث
—————–
رسائل اخوان الصفاء وخلان الوفاء – طبعة بيروت ج1 ص5.
ابو حيان التوحيدي- الامتاع والمؤانسة ج2 ص6.
نفس المصدر السايق.
المقريزي –أتعاظ الحنفاء ص139.
عارف تامر –جامعة الجامعة ص15-17.
سعيد عاشور –دراسات حضارية ص5 وما بعدها.
القفطي – اخبار العلماء ص83.
رسائل الاخوان ح1 ص5.
القفطي –اخبار العلماء ص83.
10 – دايتر بيرمان- العناصر الحضارية ص10.