رئيس قسم الفلسفة/ كلية الآداب/ جامعة الموصل/ العراق
قديما قيل ” كل ما تدخره ليس لك”، فما نبقيهه لا نستفيد منه اليوم، ومن يعلم، قد لا نحيا لنستفيد منه غدا. وإذا عشنا للغد، فقد لا نكون قادرين على الاستفادة منه حقا، لأن هيولى الحياة المتغيرة في كل لحظة ليس لديها ثوابت، والصورة تتبدل مع تغير عناصرها المتحولة أبدا. فانت لا تنزل النهر الواحد مرتين لان مياها جديدة تجري من حولك ابدا… لا تراهن على غد لا تملكه، وربما لا يأتي، قال عمر الخيام:
غدٌ بظَهْرِ الغَيبِ واليومُ لي
وَكَمْ يخيبُ الظّنُّ في المقبلِ
ثم قال:
لا تَشْغْلِ البالَ بماضِي الزّمانْ
ولا بــــــآتي العَيْشِ قَبْلَ الأوانْ
واغنمْ من الحَاضِرِ لذّاتِــــــــــــهِ
فليس في طَبْعِ الليالي الأمانْ
ما نملكه حقا هو ما نستخدمه لا ما نقتنيه، وقد يتضاعف حين نشارك الآخرين به، كالفرح والسرور.
في جنازة رجل ميسور، ابقيت يده مفتوحة خارج النعش حسب وصيته، رسالة يقول بها إن من يرحل لا يأخذ معه شيئا ابدا.
وبلغة الشعر:
لا توحشِ النفسَ بخوفِ الظنونْ
واغنَمْ من الحاضرِ أَمْنَ اليقينْ
فقَدْ تَسَـاوى في الثَرى رَاحـلٌ
غداً، وماضٍ من ألوفِ السّنينْ
أجل فـالسعادة هي اللحظة… والدنيا كالحلم تمضي الأيام في حياة الحلم والعبور، ولا نستوعب أننا أيضاً راحلون، لا نستوعب حتى برحيل من عرفناهم شعلة حياة وأحلام متوقدة . يروى عن السيد المسيح عليه السلام انه قال: ” دعوا الموتى يدفنون موتاهم” !
اذا، ما دمنا عابرين للمكان ومؤقتين في الزمان… وإذا كان كل من عليها فان، فلماذا الصراعات والحروب والأطماع والحقد والتزييف والعدمية والغثيان؟
في المقابل، كان ابن عربي لا ينتشي بجمال ما يرى، بل بجماله الداخلي، لأننا نرى، كما نشعر، بقدر ما نعرف، وطوبى لمن كان لقلبه عيون. لذلك رقص ابن عربي منتشيا بوقع قطرات متساقطة من مزراب ماء.
لان ما نبحث عنه موجود في داخلنا، جنتنا الأرضية داخلنا، ولكننا في سعينا المحموم لا نرى الأقرب، وعيوننا دائما معلقة بالمدى البعيد.
ورغم أن كل ما قلته هنا يبدو بديهيا، ولكن ندر من اتعظ، فالإغراءات تعمي البصر والبصيرة. وعلى الاغلب نحن لا نتوقف عن الركض المجنون لنسال انفسنا؟ لماذا نركض؟
الحياة فن تجيده القلة، تعرف كيف تستمتع بما هو جميل فيها، وما أجمل كل ما فيها حين نعرف كيف نراه.. اعتصر السعادة من كل دقيقة، استكشف مواطن الجمال حتى في ما يبدو بعيدا عنه، فنحن باقون هنا لمدة محدودة، فالدنيا فانية.