لما كان العلم في كل ميادينه حسياً وذا ناتج ملموس، فقد اهمل كل مجال لا يستند الى واقع ملموس.ان الادراك الحسي هو اداة العلم الاولى، لكن كثيراً من غير المرئيات او السمعيات اصبح خاضعاً للتجريب. لقد حاول العلم ان يتخلص من مرحلة القلب وان ينتقل الى مرحلة الدماغ، على اساس ان الاول لا يمكن ان يكون مصدر فقه وادراك وعلى اساس ان الثاني هو بؤرة التفكير. والانسان له الكثير من الماهيات التي تضبط حياته وتتحكم بسلوكه في غير ما حاجة فيه الى اخضاعها للقياس.
لقد كانت مصادر المعرفة القديمة تعتمد القلب البشري مصدراً للحب والكره والحنان والعاطفة، لكن العلم الحديث أبعد القلب عن مثل هذه القيم والاعتبارات والصقها بالدماغ البشري، وحاول ان يجد لها حيزاً تشريحياً واساساً فسلجياً.
انك اذا قلت الآن: ان دماغي يكره فلان او يحب فلاناً، وان دماغي يحنو على فلان او يعطف عليه.. تكون قد اتيت شيئاً غير مستساغ لفظاً ومعنى، لكنك اذا قلت ان قلبي يكره ويحب ويحنو ويعطف.. كنت في ذلك الى القبول أقرب منك الى الرفض.
هذا هو نوع من الطلاق اللفظي بين لغة العلم ولغة الادب. وقد ادى القرآن الكريم هذا الطلاق اللفظي حين قال – لا تعمى الابصار ولكن القلوب التي في الصدور. فالقرآن هنا استخدم اللغة الادبية ونأى عن القصد العلمي لأن وسيلة التوصيل الادبية اقرب الى الناس من وسيلة التوصيل العلمية، فالقوب لا تعمى، والعمى هنا هو عمى البصيرة وليس عمى البصر، وشتان بين البصيرة والبصر، والبصيرة في العلم هي مجموع القدرة على تكوين منحنى الادراك وتحقيق الحالة الذكائية والفهم للامور التي تحيط بالانسان.
على هذا الاساس يجب ان يكون القلب ذا بصيرة، فكيف يكون القلب ببصيرة وهو ليس مكاناً فسلجيا للتفكير؟ انها تقريب لفظي لحالة الدفاع الوجدانية بعيداً من حالته العقلية.
نقترب الآن من موضوع الايمان. هل الايمان عمل عقلي ام قلبي؟ انه عمل عقلي يرتوي به الجسد وفيه القلب- فالقلوب العامرة بالايمان- قول غير دقيق علمياً لأن – العقول هي التي تعمر بالايمان فيصيب القلب منه نصيباً- ما المجالات التي ينشأ فيها ايمان الانسان؟
ان اول مجال واكبر مجال للايمان هو الاعتقاد بوجود الله، وبأنه الخالق والملجأ النهائي في كل صغيرة وكبيرة في حياة الانسان. ويأتي بعد ذلك التشعب في فهم الايمان وتقسيمه على الانسان وقدره من الوجود والكينونة.
لقد حاول العلم الحديث وفيه علم النفس المعاصر، ان يجعل الانسان سلطة فوقية لا تحتاج الا الى قدراتها للسيطرة على كل صعوبة تواجه الانسان نفسه، وحينما حاول كثيرون من الناس ان يتخذوا من انفسهم اوصياء على مقدراتهم، اخفقوا في مواجهة الصعوبات بحكم ما جبل الانسان عليه من ضعف وخوف.
ان ايمان العقل غير ايمان القلب. فكثيراً ما يستطيع المعالج ان يوغر قلب الآخر بكلمات وعظ والارشاد، لكنه سرعان ما لا يفشل، لان ايمان العقل لم يتحقق في صاحب القلب المؤمن. فالقلب من السهل ان يستدرج الى موقف حنون، لكن العقل عسير المنال في هذا الميدان.
ان اثنين من مرضى النفس يموتان بالانتحار في كل عينة دراسية موضوعة للنقاش- مريضاً شديد الايمان، ومريضاً فاقداً للايمان. لماذا؟
لان الاول اصبح قديراً مفرطاً في ارجاء كل عوق فيه الى القضاء والقدر والحتمية الى الحد الذي سلبت فيه ارادته وقدرته على اتخاذ ابسط قرار ممكن، ولأن الثاني اصبح آلهاً او متألهاً يحاول ان يجعل ذاته مركزاً لكل خطأ وخطيئة وصواب واخفاق في حياته في الوقت الذي لا يملك فيه ابسط ممكنات الحلول الالهي. لذلك نجد المنتحرين ذوي نسبة عالية في مجتمعات الانغلاق الديني- مجتمعات الفهم الخاطئ للدين- وفي مجتمعات التحرر النهائي من علائق الارتباط باله ودين.
ان اكبر هزة واجهت الايمان، هي النقطة التي اثارتها الفلسفة الملحدة والتي تقول ان العلم سيكشف كل شيء تدريجياً الى الحد الذي سنصل فيه الى ان ما كان موهماً لنا بانه قدسي ومستتر لم يكن كذلك الا انه مجهول.
ان هذه المقولة حطمت في المؤمن شيئاً اسمه – القناعة المرحلية- ان القناعة في مرحلة هي الاستراحة المطلوبة لليقين بالاشياء، واذا ظل الانسان مشدوداً بخيط الى معرفة كل شيء او الى معرفة آخر شيء، فانه سيمرض وسيقلق وسيكتئب وسيسقط الايمان وهو عدته الاساس في مواجهة الحزن.
من الجميل في العلم انه يعد بسلسلة ولا يعد بنهايتها. ولو سألت أي عالم من آخر سبب في مدركاته لقال لك- ان ما املكه سبب وليس آخر سبب. فالاسباب مسلسل ولا نهاية لها.
ان ما يقلق المؤمن هو خوفه من اكتشاف الله تعالى او خوفه من ان يكتشف ان لا اله لهذا الوجود، وخوفه من اكتشاف الله هو خوفه من الصدمة التي تنتمي بها أية قصة في الكون. كما ان خوفه من انعدام وجود اله هو خوف الخدعة العقلية. لكن الله سبحانه وتعالى هو احكم الحكماء حيث لم يجعل للسببية نهاية ولم يجعل لذاته كشفاً او انكشافاً مهما مورس عنصر التجريب- وما اوتيتم من العلم الا قليلاً- فالايمان المطلوب اذن هو ايمان القناعة بالممكن. ان الايمان هكذا هو اللجوء الى المتحقق وليس الاستعداء بالمخيلة ومجاوزة المعقول. ولكي يصير الايمان علاجاً يجب ان نسقط من حسابنا اعتبار الايمان محاولة اقناع لانه اقتناع لا اقناع.
ان المرض النفسي ناتج من الضعف الآدمي الداخلي في مواجهة الخارج، والايمان هو المقوي لهذا الضعف. والمريض، بل الانسان عموماً، غير مدعو الى ان يعرف باطن الله لكي يتفق مع نفسه على الرضا بالمقسوم والنصيب.
ان الله اكبر، ولانه كذلك، فان له حكمة لا تدركها العقول البشرية. ان لحاجة الانسان واعتراضه على محدودية حصته في المال والجاه والعافية دون سواه، هما السبب الكامن في نقص الايمان لديه.
لقد حاولت الفلسفات المنادية بمسؤولية الانسان ومسؤولية كونية، ان تعالج الانسان المريض لكنها جعلته يعيش في دوامة ويتخبط في دائرة الوهم.
ان الايمان الحقيقي لا يستدعي من ان يتقمص الانسان في مراحل ضعفه شخصيات الرجاء والوساطة الارضية، لان الله وحده هو القريب من كل انسان ولا وسيط بين الله والعبد.
ومرة اخرى، ندعو الى ان يكون الايمان معتقداً عقلياً لا اشباعاً قلبياً لان العقل المؤمن من اكبر من القلب المؤمن. فكثيراً ما تتغير اجواء القلوب لكن قناعات العقول القائمة على الفكر السليم لا يمكن ان تتغير.
[email protected]