18 نوفمبر، 2024 12:47 ص
Search
Close this search box.

شهيد المحراب: مؤسس منهج الدولة

شهيد المحراب: مؤسس منهج الدولة

من له أن يراجع خطب ومواقف سماحة السيد محمد باقر الحكيم، بعد دخوله إلى العراق وقبل استشهاده، سيكون من الواضح أمامه سعي الشهيد الحكيم، لتأسيس دولة وفق قواعد واضحة، وما يميز ذلك أن ما طرحه الشهيد الحكيم آنذاك، لا ينطبق على تلك المرحلة وحدها، بل سيكتشف المراجع أنه مناسب تمامًا حتى للمرحلة الحالية بعد ١٨ عامٍ على ذلك الطرح.
واحدة من اولى وأهم الخطوات التي اتخذها عند دخوله العراق، كانت التخلي عن سلاح فيلق بدر، وهو الجناح المسلح الذي كان يتزعمه ويكافح به الديكتاتورية، وقتها أيضاً قرر تغيير اسمه، الى منظمة بدر، وتحويله الى منظمة تشتغل بالعمل السياسي والمجتمعي، إيماناً منه بأن السلاح يجب أن يُحتكر بيد الدولة، على الرغم من أنه في ذلك الحين كان أقوى من الدولة نفسها! وكان يمكنه أن يفعل ما يحلو له بفضل قوته وجماهيريته وحضوره، إلا أنه استثمر كل موارده لتعزيز نهج الدولة، وتثبيت أركان وفكر هذا المنهج..
من تنظيرات شهيد المحراب (قدس) ودعواته، كان وجوب أن يتم اختيار الحكومات، وان يحصر القرار داخل العراق، بأيد عراقية، لا غيرها، ولم يقبل بإملاءات الخارج، وهو لم يستثني من ذلك دولة أو طرفاً، إيماناً منه بأن الجميع يتعامل على أساس مصالح بلدانه، فإن لم نتعامل مع الجميع على أساس مصلحة العراق، فلا شك أن الآخر مستعد أن ينهشنا في سبيل مصالحه في حالة رضوخنا له، وهو بالتأكيد لن يبالي بمصالحنا إن كنا كعراقيين لا نبالي بها، بينما إن فعلنا، وتعاملنا مع الجميع على أساس مصلحة العراق، فلا بد أن يتفهم الآخرين ذلك، ويجدولوا مناهجهم على أساس هذا الواقع الذي يلقونه أمامهم.
عندما سؤل (قدس) عن شكل الدولة التي يرغب بها، أجاب: اننا نسعى لإقامة دولة مدنية، لأن لا إمكانية لتأسيس دولة إسلامية في العراق بهذا العصر، وذكر أيضًا أنهُ لا يريد استنساخاً لحكم اسلامي موجود في بلد ما، إنما يريد حكمًا يحترم القيم الإسلامية، احترامًا لهذا الشعب الذي يعتنق أغلبه الإسلام، مع احترام معتقدات بقية المكونات ودون أن يتم فرض أحكام لا يعتقدون بها عقيدياً، وكل هذا يجب أن يكون بلا تعد على حقوق الاخرين.
كان سماحته يشدد على احترام التنوع العراقي واعتباره كنعمة لا العكس، وقد وضع توصيات ليحترم العراقيون أحدهم الآخر، ورفض التعنصر والطائفية بين أبناء البلد الواحد، مثلما رفض فرض صيغة معينة على الجميع، وقال في عدة خطابات ما نصه: من حق الكوردي الاعتزاز بثقافته، كما من حق العربي، وكذلك من حق الشيعي مثلما السني، وحق المسلم كما حق غير المسلم، أما إلغاء الجميع وفرض صيغة واحدة واسلوب واحد ويقهر الاخرون، فهذا أمر غير مقبول!
أصر شهيدنا على وحدة العراق، ورفض أيٍ من محاولات التقسيم، أو التفكيك إلى دويلات أو ما شابهها، ورأى أن مصالحنا جميعاً تكمن في عراق موحد، وطرح الفيدرالية كضمان لهذه الوحدة، على عكس ما يتوهم البعض.
كان تركيز شهيد المحراب على اتباع هدي مرجعية النجف، يتضمن رسالة سياسية لعلها أهم من اعتبارها إرشاداً دينياً فحسب، لأنه كان متعمقاً باعتقاد هذه المرجعية، بالعراق، وكيف تؤمن به وخصوصيته، وما توليه من اهتمام به، مضافاً لمعرفته بايمانها بمنهج الدولة، وتعزيزها لهذا المسلك، وهو ما صار واضحا بشكل أكبر خلال السنوات اللاحقة حتى يومنا هذا.
ما يجب أن نوليه شأناً أيضاً، كان دعوته إلى التنظيم والمأسسة، لأن لا دولة ناجحة، لا تنظم صفوفها وتمأسس مفاصلها وأركانها، ولأن المأسسة والتنظيم، ركن مهم من أركان الديمقراطية الناجحة التي كان يرجوها القائد الخالد.
من أهم غاياته رضوان الله عليه، ثلاثة أمور كررها كثيراً: الحرية، الاستقلال، العدالة، وهن أمور أساس، ليشعر فيها العراقيون، بالعراق الجديد الذي حلموا به، هن أمور حرموا منها لقرون وعقود وسنين طوال، ولعلنا لا نختلف من أنهن أمور تحتاجهن أي دولة تريد أن تكون ناجحة حقاً، فلا دولة لا يشعر بها مواطنوها بكرامة الحرية، ولا دولة تنتهك ويتدخل بقرارها وشأنها كل من شاء دون استقلال وسيادة، وحتماً هي دولة فاشلة تلك التي لا تحقق العدل لشعبها و مواطنيها.
نتذكر سويةً خطابه الشهير الذي ذكر فيه إيلاء الأهمية على الكفاءة في الاختيار بدلاً من الانتماء الحزبي، وعدم اعتبار المواقع كغنائم للأحزاب! ونتذكر عدم ممانعته في أن يكون الوزراء من هذا الحزب أو تلك الجهة، ونتذكر تشديده في أن يكون اختيار الحكومة حينها محكوما بمحددات ثلاث مهمة هن : الكفاءة والمقدرة على القيام بمسؤولياتهم، و الإخلاص للعراق وشعب العراق وحده، بحيث لا يوالي أو يميل وزيراً ما إلى أي طرف غير العراق ومصالح العراق، ومحدده الثالث كان في تمثيل كل أطياف ومكونات الشعب العراقي فيها، بحيث لا يشعر أي مكون من نسيج الشعب، أنه مظلوم أو مغبون أو غير ممثل، ولتكون هناك مشاركة حقيقية لأبناء الشعب.
بلا شك، لا يمكن اختصار أفكار ومواقف شهيد المحراب، التي كانت تؤسس لمنهج الدولة في العراق، ومن يمكنه أن يراجع تلك المواقف، فسيجد أكثر بكثير مما سُرد هنا، و حين يراجع كل ذلك، فلا أعتقد أنه لن يلاحظ حاجتنا الماسة لسيادة تلك الأفكار حتى لحظاتنا هذه، وكيف لهذا المنهج أن يكون حلاً لمعظم أزماتنا التي نعاني ونتجرع فيها الويلات.

أحدث المقالات