كثيرا ما تجرأ بعضٌ من عراقيين موالين للولي الفقيه الإيراني، حبا به وإخلاصاً لراية الإمام المؤسس الخميني، ووفاءً لفضل الجمهورية الإسلامية الإيرانية عليهم بجعلهم حمَلة ألقاب الفخامة والمعالي، وأصحاب أحزاب ومليشيات وشركات ومصارف، فحاولوا تبصير السفير الإيراني، إيرج مسجدي، وقائد فيلق القدس، إسماعيل قاءاني، بطبيعة المواطن العراقي العنيدة، والمشاكسة، والمتذمرة من الحاكم العنيف المتكبر المتجبر، حتى لو كان إمامه ووليه الفقيه نفسه، ونصحوهما بحكم العراقين من وراء ستار، من بعيد لبعيد، وليس بالقوة الظاهرة المباشرة، وبترك شؤون البلديات والصرف الصحي والماء والكهرباء وتجارة الغذاء والدواء لوكلائهما الذين تأكد أنهم لا يقلون تفانيا في تحية العلم الفارسي عن قاسم سليماني واسماعيل قاءاني، ولكن لا حياة لمن تنادي.
فالمعمم الإيراني الآتي إلى السلطة بعد طول فقر ومذلة، وبحكم طبيعته المتوارثة، مصابٌ بعشقٍ جنوني مقيت للهيمنة والاستبداد والاستكبار والطمع والجشع، ولا يقبل بالاستحواذ على العنب، فقط، وبترك السلة للناطور.
وفي عراق نوري المالكي ثم حيدر العبادي فعادل عبد المهدي فمصطفى الكاظمي، أطبق الإيرانيون على الوطن وأهله بعنجهية فائقة، وديكتاتورية مطلقة، فامتلكوه كله، من بابه إلى محرابه، وحدهم دون شريك.
خذوا هذا المثال. لقد جرت العادة على أن سفير أمريكا، وهي أكبر دولة في العالم، وسفراء بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين، يطلبون من وزارة الخارجية الإذن حين يريدون مقابلة رئيس أو زير أو حتى رئيس حزب وقائد مليشيا.
ولكن، هل رأيتم في أية دولة تحترم نفسها سفيرَ دولة أجنبية يستدعي وزير ثقافتها إلى مكتبه في السفارة، بدون علم وزارة الخارجية، ولا بالتنسيق معها، لمناقشة أمر داخلي خاص من صميم شؤون تلك الدولة؟.
حصل هذا أمس حين “توجه وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي، حسن ناظم، إلى مكتب سفير الجمهورية الإسلامية الإيرانية لدى العراق، إيرج مسجدي، واستعرض معه مسألة صيانة طاق كسرى، والتعاون الثنائي في المجالات الثقافية والسياحية وإنتاج الأفلام السينمائية، الى جانب تشكيل لجنة ثقافية مشتركة بين البلدين”. وأشاد الوزير خلال اللقاء، بـ “عمق العلاقات الثقافية بين البلدين، ودعا إلى ضرورة تطويرها، وفتح آفاق التعاون في مجال السياحة والثقافة والآثار“. وبدوره قال مسجدي لقد “زرت إيوان المدائن عدة مرات، ولدينا مشاريع مع العتبات العراقية المقدسة”.
من هنا يمكن فهم الموقع الحقيقي لرئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، في مرحلة عراق ما بعد رئاسة دونالد ترمب وولاية الرئيس الأمريكي الجديد.
ومشكلة الكاظمي وليدة من كونه لاعبا رئيسيا من عهود رؤساء الوزراء السابقين، نوري المالكي وحيدر العبادي وعادل عبد المهدي، إلى درجة أن الحاكم بأمره في العراق، قاسم سليماني، كرمه، في العام 2016، بمنحه ثقته الكاملة، ووضعه على رأس جهاز المخابرات، وهو أهم أجهزة السلطة الإيرانية في العراق. ومن هنا لم يعد في إمكانه أن يخرج عن طاعة السفير الإيراني وقائد فيلق القدس الموكل بإدارة العراق، فيستعيد هيبة الدولة العراقية ، كا وعد، ويمنع أي احد من التدخل في شؤون الحكم العراقي، رغم أنه يحاول أن يُلبس نفسه ثوبَ الرئيس الحقيقي المستقل والقوي، ولكن بالأقوال والبيانات والتصريحات والوعود وحلف اليمين.
وحين ندقق في أسباب انتفاضة شباب تشرين 2019 نجد أن أهمها كان الفقر والبطالة وفقر الخدمات العامة في محافظات الوسط والجنوب التي كان الإيرانيون يبررون احتلالهم للعراق بأنه تعويض لأبناء الطائفة عن مظلوميتها، ودفاع عنها وانصافها، والحقيقة أنها أصبحت في عهد الهيمنة الإيرانية أكثربؤسا وأقل كرامة وعدالة.
وفي إطار الدولة وملفاتها المهمة الحيوية التي لا تحتمل المماطلة ولا تعويمها ولا خداع الجماهير بتبريرات مرفوضة مقدما، لم يحقق الكاظمي أيا من وعوده التي جاء من أجل تحقيقها، وفي طليعتها محاكمة قتلة المتظاهرين، ومحاسبة عادل عبدالمهدي ووزرتائه، والإطاحة بكبار الفاسدين المعروفين جيدا لدى عموم العراقيين، ثم ضبط سلاح الحشد الشعبي، إن لم نقل سحبه منه وتسليمه للدولة، وتحرير القضاء العراقي من سطوة الأحزاب والميليشيات، والإسراع في تخفيف أعباء كورونا الصحية والاقتصادية والأمنية عن كاهل المواطن الفقير، دون تأخير.
ورغم أنه كان في عهد الرئيس ترمب مهموما بتجازات المسلحين المحميين من الإيرانيين وغهاناتهم وعبثهم بأمن المواطن وهيبة الدولة فقد أصبح، بعد سقوط ترمب ودخول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، أكثر هما من قبل، وبلا ناصر ولا معين.
ومن آخر الإهانات التي تلحق بالدولة العراقية، بما لم تشهده حتى في عهود أسلافه الأربعة، أن آخر الأنباء المسربة من المنطقة الخضراء يتحدث عن عدم دعوة الحكومة العراقية للجلوس حول طاولة المفاوضات المؤكدة القادمة بين إدارة بايدن ونظام الولي الفقيه.
وسيُدعى مندوب عنها ليجلس في المقاعد الخلفية، مراقبا وليس محاورا، رغم أن الحوار لن يقتصر على الملف النووي الإيراني، وسيشمل ملفات أخرى، أهمُها الوضع العراقي، والتواجد العسكري الأمريكي في العراق، رغم وجود ضيوف آخرين محاورين وليسوا مراقبين يمثلون السعودية وإسرائيل ودولاً أوربية لم تكن مشاركة في مفاوضات 2015.
وهذا ما يرهن على أن إيران تعتبر جميع الملفات العراقية، صغيرها وكبيرها، شاناً داخليا إيرانيا لا لأمريكا ولا لغيرها حق التدخل فيه. وأمريكا هي الأخرى تنظر بواقعية إلى الموضوع، وتؤمن بأن العلاقة الأمريكية الإيرانية وحدها تكفي لحل ما يتفرع عنها من أمورٍ تخص حاضر العراق المظلم الحالي، وغده القريب، والآخر البعيد.