خاص: قراءة – سماح عادل
يهتم المخرج الفرنسي “رينيه كلير” بالمونتاج، ويقدر أهميته، ويحتفي بالمونتاج المحترف يخطف أبصار الجمهور، وقد رفض أن يخرج أفلام الحرب وقت حدوث الحرب، كما أنه اعتمد على موهبته ككاتب في مهنته كمخرج سينمائي، وهو يفكر في الجمهور أثناء عمله وكيف سيفهمه، كما يتعامل مع الممثلين بمرونة، ويحاول التقريب بين شخصياتهم وبين ما يمثلونه.
نواصل قراءة كتاب (قرن من السينما الفرنسية.. من خلال اعترافات مخرجيها)، تأليف “إيريك لوغيب”، ترجمة “محمد علي اليوسفي”، حيث يحتوي على عرض حوارات أبرز المخرجين في السينما الفرنسية. لنتعرف من خلال تلك الحوارات على السينما الفرنسية ورموزها واتجاهاتها.
رينيه كلير René CLAIR
“رينيه كلير” مخرج فرنسي، ولد في باريس سنة 1898. توفي سنة 1981. عمل ممثلاً في أفلام “فوياد” الصامتة، ومخرجًا مساعدًا مع “جاك دي بارونسيلي”. وكان عضو الأكاديمية الفرنسية، وألف كتاب “سينما الأمس، سينما اليوم ” 1971.
من أبرز الأفلام التي أخرجها:
(باريس التي تنام 1923؛ استراحة بين فصلين 1924؛ قبعة قش من إيطاليا 1927؛ تحت سطوح باريس 1930؛ المليون 1931؛ إلَيْنَا بالحرية 1931؛ الرابع عشر من تموز/ يوليو 1932؛ شبح للبيع 1935؛ زوجتي ساحرة 1942؛ حدث هذا غدًا 1943؛ عشرة هنود صغار1945؛ السكوت من ذهب 1945؛ جمال الشيطان 1949؛ جميلات الليل 1952؛ المناورات الكبرى 1955؛ بورت دي لِيلاَ- باب الليلك- 1957؛ الفرنسية والحب سكاتش 1960؛ كل ذهب العالم 1961؛ احتفالات لطيفة 1965).
سينما الأمس..
يقول “رينيه كلير” عن كتابه “سينما الأمس، سينما اليوم”: “كان من المفترض أن يكون عنوان الكتاب “سينما اليوم، سينما الغد” غير أنني وجدت في القول “سينما الغد” الكثير من الادعاء والتنبّؤ. وفي الواقع أتعرض فيه قليلا إلى سينما اليوم، السينما السابقة قليلا (وليست سينما اليوم تحديداً)، ولسبب أوضحه في الكتاب كما أعتقد: ذلك أنني لست مؤرخاً. ففي ما يخص سينما الأمس ليس هناك سوى انطباعات وملاحظات معمقة، بهذا القدر أو ذاك، أو مراجعة.
وبالنسبة إلى سينما اليوم، فهي تتطلب عملا نقدياً، وهذه ليست نيتي ولا دوري. أعتقد أنه من الصعب جدّاً الحكم على ما هو راهن ومعاصر في كتاب يعالج السينما من زاوية نظر تاريخية. لا يمكن للمرء أن يكتسب رؤية شاملة لأية ظاهرة فنية إذا لم يحقق الابتعاد الزمني الكافي عنها. ولهذا السبب ابتعدت عن إصدار الأحكام، وهذا لا يعني أنني ألوم وأشجب، بل كثيراً ما أميل إلى الإشادة ببعض الأشياء”.
وعن رأيه في السينما في الوقت الذي أجري فيه الحوار معه: “لا أحاكمها لأننا ما زلنا قريبين من الظاهرة، ولا نستطيع بعد معرفة أهميتها وتطوراتها. عندما أتحدث عن غريفيث أو ماك سينيت أو شابلن، أعرف عما أتحدث لأن التاريخ والزمن صفَّيَا جهودهم. بالنسبة للأمور المعاصرة، وهذا لا يخص السينما وحدها، بل يشمل الأدب أيضاً، كثيرة هي الأعمال التي تم الترحيب بها بحماسة ثم سقطت في النسيان، وربما خضعت للمحاكمة أحياناً، لتبرز إلى الحياة من جديد. لكنها في معظم الأحيان لا تبعث أبداً. فلو أخذنا أعمال مارسيل بروست لوجدنا أنها الأعمال المعاصرة الوحيدة تقريباً التي لم تخضع للنسيان، بل ما زالت في تقدم مستمر”.
وعن بداية عمله في السينما: “بمحض الصدفة. كنت صحفياً ولم أفكر في ممارسة عمل آخر غير الكتابة. اعتبرت نفسي دائماً كاتباً في حالة كمون. وحتى عندما جئت إلى السينما حدث ذلك باندفاعة قوية، وهو الأمر الذي كان يمكن أن يحدث في أي مجال آخر إبداعي، مثل الكتابة. وفي الواقع لم أعتبر نفسي مخرجاً قط، لسبب وجيه: فأنا لم أخرج إلا ما كتبته أنا. فبدلا من تأليف كتب فكّرت فيها، كتبت للسينما وأخرجت بنفسي ما كتبت. مرة واحدة لم أكن مؤلفاً لِمَا أخرجت، وقد حدث ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية، عندما أخرجت شريطا خيريّاً لصالح الصليب الأحمر، أثناء الحرب. كانوا آنذاك يعتبرونني بريطانيّاً تقريباً، لأني جئت من انجلترا. وعندما اندلعت الحرب كنت أعمل في انجلترا، ولما اتصل الصليب الأحمر بالإنجليز من أجل إنجاز فيلم خيري يعرّف بأعماله، طلبوا مني المساعدة. ولقد ساهمت بوضع واحد من اسكاتشات الفيلم. انزعجت من ذلك. يقال عني دائماً إنني أعمل بدقة مطلقة. والسبب بسيط؛ فالعمل الذي أصوره أكتبه قبل ذلك. وبعد كتابته أدرك طريقة إدارته على الحلبة، أو خارجها، أثناء الإخراج”.
الكتابة والإخراج..
ويضيف عن التميز بين الكتابة والإخراج: “أعتقد أنه لا يوجد فرق بين الإدارة السينمائية وولادة رواية أو مسرحية. لماذا تأتي الفكرة؟ كيف تتطور؟ لأنها تحظى بإعجابك من بين أفكار أخرى. أعتقد أن ظاهرة الإبداع الفني، مهما كان نوعها، ظلت من أغرب الظواهر التي يمكن تخيلها. لا يوجد تفسير. ولعلنا نجد ذلك، أحياناً، بالنسبة للمبدعين الكبار، عندما نطلع على تاريخ أعمالهم. حسناً، هذا يعتبر تفسيراً. لكنه، في نظري، تفسير في منتهى السطحية. لماذا تأثر فلوبير تحديداً بحكاية مدام ديلامار التي صارت مدام بوفاري؟ لا يمكننا أن نعرف المزيد حول ذلك”.
وعن رأيه في المخرجين السابقين قول: “بلا ريب، أول المخرجين الكوميديين الأمريكيين؛ أي مدرسة “ماك سينيت”. وهذا لا يعني أنني لم أعجب بأعمال أخرى، مثل أعمال “ستروهيم” التي تختلف كثيراً عما أقوم به. عرفت “ستروهيم”، وشابلن، قليلاً، في الولايات المتحدة الأمريكية. حافظت على بعض العلاقات مع أصدقائي ومساعديَّ في هوليود. وفي فرنسا تعرفت على المعاصرين لي. طبعاً آبل غانس، مارسيل ليربييه…”.
وعن الأفلام المهمة جداً يقول: “لن آتي بجديد إذا قلت إن أهم الأعمال في تاريخ السينما، كانت بتوقيع غريفيث، وشابلن، وايزنشتاين. ومن المعتاد ذكر “حمّى الذهب” و “المدرّعة بوتمكين”. وأنا لا أختلف مع هذا الرأي.
وفي فن يتطور بسرعة السينما يغدو من الصعب إدراك أهمية عمل من الأعمال، إذا لم نواكب ولادته. ولا شك أن شباب اليوم لا يستطيعون إدراك مدى الثورة الخارقة التي تحققت، على مستوى الدراماتورجيا، من خلال أعمال شابلن، وذلك مهما ترددوا على المكتبات السينمائية (فالمكتبات السينمائية هي بمثابة متاحف متحجّرة نسبياً، وفيها لا يمكن رؤية الأفلام كما في وقت ظهورها مع تأثير التواصل بجمهور المشاهدين).
ولا يمكنهم إدراك أصالتها رغم أنها باتت من التراث العالمي في لغة السينما. ولكي أقدم مثلا شخصياً بسيطاً، فأنا أعرف بأن الشباب الذين يذهبون اليوم إلى السينماتيك لمشاهدة شريط “المليون” لا يجدون فيه سوى أوبيريت، وربما مجرد فيلم غنائي. ولا يمكنهم أن يعرفوا بأنها المرة الأولى التي يغني فيها الممثلون من دون أن يكونوا محترفي غناء، وأن الأصوات قد تم مزجها بطريقة لم يسبق لها مثيل في السابق، نظراً لكون السينما الناطقة كانت في بداياتها.
إنه لمن الصعوبة بمكان أن تجري مقارنة بين الأعمال. إذ يتطلب الأمر، استعادة نضارة الروح ومعايشة ولادة تلك الأعمال منذ ثلاثين أو أربعين عاماً. يمكنك أن تقول لي بأن الأمر نفسه ينطبق على الأدب. قد يكون ذلك، لكن مع فارق انعدام ظاهرة مهمة جداً في السينما: التقادم التقني وأساليب العيش. قبل الفونوغراف لم تكن توجد أية طريقة لمقارنة أساليب الكلام والغناء. وقبل السينما لم تكن لدينا أية طريقة لتصور سلوك الناس، ومشيتهم وجلوسهم… ومذ ذاك صرنا ندرك أن هناك فروقاً شاسعة تتجسد في طريقة التمثيل من عصر إلى آخر. وكثيراً ما نسمع المعلقين على الأفلام القديمة: “يا إلهي ما أكثر حركات الناس وما أسرعها!” سمعت ذلك في كل الأوقات. نحن أيضاً نقوم بمثل تلك الحركات؛ ولو أننا شاهدنا اليوم عرضاً يعود إلى بدايات سارة برنار لشعرنا بالاختناق. ولا شك أن الأمر سيبدو مضحكاً. لكن ذلك كان يدل على العبقرية آنذاك. لماذا؟ لأن طريقتنا في التمثيل لم تعد كذلك، بل تغيّرت”.
ويواصل: “وهذا ما ندركه من خلال التسجيلات القديمة… نعم. كانت هناك مصاعب في التسجيل غير المتطور بعد. وحتى التقنية كانت تتسبب في الإزعاج والاختناق. أتذكر المسرحيات الكبرى، ولا سيما المسرحيات الدرامية. وما زلت أستحضر “مونيه” و”سولي” اللّذيْن كانا مسنّيْن عندما كنت شاباً. واليوم قد يبدوان سخيفين. ويبدو أن تسجيلات الممثلين الكبار اليوم، سوف تلوح، بعد مرور خمسين عاماً، بشكل مغاير تماماً. ومن المؤسف أن السينما لا تلجأ إلى تسجيل أبرز الأعمال المسرحية، وأدوار الممثلين اللامعين.
إنه لمن المرعب حقاً أن تكون الظاهرة العظيمة التي عايشناها متجسدة في الممثل جيرار فيليب على خشبة المسرح، قد انتهت ولم يسجّل منها شيء. كان عرض “السيد” Le Cid مع جيرار فيليب في المسرح القومي بباريس مؤثراً جداً. ولأنني خشيت أن يكون ذلك بتأثير من الصداقة التي تجمعني بجيرار، فقد سألت عميد النقاد آنذاك روبير كمب، خلال الاستراحة: “قل لي، هل أنا مخطئ؟” ألسنا بصدد حضور حدث خارق؟ فأجابني:” لم يحدث شئ من هذا القبيل، منذ أيام مونيه ـ سولي” والحال أن هذه مجرد ذكريات، فمن المرعب أننا لا نملك أية وثائق حول مونيه ـ سولي، ولا “مدرسة النساء” لجوفيه، و “المضيف” لبارو. الوسائل متوافرة ولا تكلف الكثير. والحال أن مصاريف كثيرة تهدر من أجل أفلام رديئة. كل ذلك مجرد فتح قوسين حول إمكانية وضع السينما في خدمة المسرح”.
المرونة مع الممثلين..
وعن كيفية اختياره للممثلين يقول: “ليست هناك معايير. أنجزت العديد من الأفلام مع جيرار فيليب. كتبت الأول مع سالاكرو، من دون تفكير في الممثل، وبعد أن تعرفت عليه صرت أرغب في مواصلة العمل معه، فألفتُ حكايتين لشريطين مع معرفة سابقة بأنه سوف يمثل الدور الرئيسي فيهما. وهناك مثال آخر، هو فيلم “Porte des Lilas” (حرفياً: باب الليلك، لكنه موضع في باريس) مع براسور الذي أوحى لي بالفكرة. وكان يريد إنجازه بمفرده. ومع ذلك فكرت مسبقاً في جيرار فيليب لأداء الدور الرئيسي. لكن، في أفلام أخرى، لم أكن أعرف لمن سأسند الدور. وهذا ما حدث بالنسبة لشريط “المناورات الكبرى” إذ حرت في إسناد الدور النسائي الأول، وبعد تجارب مع أفضل ممثلات باريس، استقر رأيي على ميشال مورغان.
في السابق عندما كنت أنجز أفلاماً من دون نجوم عمليّاً، لم تكن لديَّ فرقة، لعدم قدرتي على توفير المصاريف، بل مجموعة من الممثلين أعود اليهم كلما احتجت”.
وعن طريقة إدارته لهم يقول: “أفضل طريقة، في اعتقادي، ألا تكون هناك طريقة. عندما أكتب، تتكون لدي فكرة عن الشخصية. لكنها تخضع للتعديل أثناء التصوير، لأن الشخصية تصير ملموسة أمامك. وهكذا إذا كان لا بد من نصيحة أسديها إلى مخرج، فأنا أقول له إن أفضل طريقة لإدارة الممثلين هي ألا تجبرهم على فعل ما لا يستطيعون القيام به، بل أن تحاول تقريب شخصياتهم الملموسة من الفكرة المجردة التي في ذهنك، وفي ذلك تنازل متبادل. ينبغي التكيف مع الممثل تماماً كما نطلب منه بدورنا أن يتكيف مع الدور. وباستثناء ذلك فأنا أعمل مثل الآخرين، أي أنني أطلب من الممثلين تقديم عمل ذي قيمة. وإذا لم تسر الأمور على ما يرام، لا ألح كثيراً، بل أعود إلى محاولة تقريب الموضوع من شخصية الممثل”.
وعن تفكيره في الجمهور عندما يعمل في الإخراج يقول: “أعتقد أنّ مهنة الفرجة، المختلفة تماماً عن الرواية والشعر والرسم، تتطلب التفكير الدائم في الجمهور. وإلا فمن الأفضل للمرء تغيير مهنته. فهنا تكمن الأهمية والصعوبة، خصوصاً عندما يكون المخرج شاباً مبتدئاً. لا بد من التساؤل الدائم أثناء الإخراج: “حسناً ، ترى ماذا سيفهم الجمهور؟” ينبغي الحلول محله، وهذا أمر صعب جداً. لا بد من محاولة الاقتراب منه في معظم الحالات. وأعتقد أن هذا الأمر يأتي بالتعلم والخبرة. ومن الطبيعي أنني لم أفكر فيه عندما بدأت”.
ويجيب عن سؤال هل تعتقد أن بإمكان المرء أن يصير سينمائياً، هكذا فجأة، من خلال الارتماء في المعمعة: “في حالات نادرة، نعم. إذا توافرت الموهبة منذ البداية. غير أن إجادة المهنة تتم تدريجياً، عبر الاقتداء بالكبار والعمل معهم. وفي مهنة تحتوي على جانب تقني وتتوقف على فهم الجمهور، يغدو من الصعب إدراك ذلك منذ البداية. ويمكننا أن نستشهد بأمثلة من التاريخ. لقد بدأنا كلنا، إما تحت جناح أحد المخرجين أو كمساعدين له. ومن الخطأ دفع الشباب إلى الإخراج مباشرة، كما يحصل اليوم. فهل يمكن أن يعهد إلى طالب متخرج للتو في الكلية البحرية أن يقود بارجة؟ كما أن السينما تتطلب مصاريف. ومن الأفضل أن توفر للشباب فرص المساعدة في الإخراج، والمونتاج، وتعلّم قواعد المهنة”.
المونتاج القوي..
وعن مفهومة للتقنية في صناعة السينما: “يمكنني أن أجيبك ببساطة: لا أهمية مطلقاً. التقنية مثل الأسلوب… لا يمكن تعلمهما. هي في الواقع تعتمد على الحس السليم. يكفي التأمل والتفكير بعد الحصول على المبادئ الأولية التي بات يرفضها الكثير من المبتدئين. إن المونتاج، على سبيل المثال، هو ظاهرة خارقة حقاً. فهو يوفر لك إمكانية المرور من رؤية إلى أخرى في جزء من الثانية. ونحن في الحياة لا نلجأ إلى المونتاج.
ذات يوم، كنت مع ابني الصغير في أحد أستوديوهات إبيناي، حيث كان يجري تصوير فيلم ايزنشتاين “رومانس عاطفية”. طلبت من عارض الفيلم أن يعرض جزءً من الشريط لأن ابني لم تسبق له رؤية ذلك. وفي إحدى اللقطات سألني طفلي، لماذا تحولت المرأة إلى كلب؟ وهذا يؤكد أن العين غير المتدربة لا تستطيع تبرير التقنية السينمائية.
لهذا السبب يتمكن المونتاج، بفضل مباغتاته وطابعه الاستثنائي، أن يحدث الكثير من المؤثرات المهمة والقوية. وهذا ما يتطلب عدم المبالغة في دوره، مع استخدامه بعناية فائقة. وأرى أن المونتاج الناجح هو الذي لا يكشف عمليات القطع ما بين اللقطات. أما اللجوء إلى المونتاج المثير (ولقد فعلتُ ذلك شخصياً) فليس أسهل منه: يكفي أن تكون هناك فوضى!”.
المرحلة الأمريكية..
وعن تأثير مرحلته الأمريكية ومغزاها يقول: “لم تكن حاسمة كثيراً، لأنني عندما ذهبت إلى الولايات المتحدة الأمريكية كنت مسيطراً على مهنتي. وبما أنني كنت قد شاهدت أفلاماً أمريكية كثيرة، لم أتعلم جديداً يذكر. أما ما وجدته مدهشاً في هوليود تلك المرحلة، فهو التنظيم. كنت معتاداً على طريقتنا الفوضوية التي تجعل المخرج مسئولا عن كل شيء من الكتابة إلى الميزانية. وهذا ما نواصل القيام به حتى اليوم: أي العمل الفردي. أما الأمر الصعب في هوليود، بالمقابل، فهو التوصل إلى التفاهم مع كل المسئولين الذين يشكلون آلة جهنمية هائلة. لذلك لم أنتج سوى أربعة أفلام في خمسة أعوام.
كان من الصعب التفاهم مع تلك الشركات الكبرى، إضافة إلى اندلاع الحرب التي استولت على نصف مواضيع الأفلام. ولم أشأ المشاركة في إخراج أفلام عن الحرب بينما الناس يقتتلون! وأدى ذلك إلى تقليص الخيارات. لكن بعد الحرب تحسنت الظروف وتيسرت المهام. وكان من الممكن إعادة التصوير من جديد إذا رأيت أن ما أنجزته طيلة ساعات لم يعجبني.
يضاف إلى ذلك أن هوليود تتمتع بتقنيات عالية وبحسابات استثمارية للإنتاج المتواتر. هناك تعلمت الكثير على مستوى التنظيم. كما تعلمت طريقة التصوير بفريقين، وقد نقلتها إلى فرنسا. فعلى سبيل المثال، نجد المخرج سيسيل ب. دي ميل، صاحب الأفلام الضخمة، لا يكترث بما يُصوَّر خارج الأستوديو. ولا يخرج منه قط. كان له مخرجان أو ثلاثة، لتصوير المشاهد المتعلقة بالمعارك والكباريهات وما إلى ذلك. بينما يظل هو مشرفاً على الممثلين النجوم ضمن الفريق الأول. هذه الطريقة طبقتها خلال تصوير أفلامي “جميلات الليل” و “المناورات الكبرى” واتخذت حينها مخرجاً مساعداً.
ومن الخطأ أن يتدخل المخرج في كل شيء. نعم، لا بد أن يشرف على الممثلين. لكن ما من حاجة إليَّ إذا كان الأمر يستدعي تصوير عصفور يطير من سطح إلى آخر، ولعل ذلك يتطلب يوماً أو يومين!
كان التنظيم المتسلسل ضمن تقسيم العمل، على درجة من الجودة في هوليود، بحيث لا يضطر بعض المخرجين الكبار، الذين احترمهم جيداً، إلى مراجعة المونتاج. إذ يُعرض عليهم الفيلم جاهزاً. وعندما أفعل العكس، يسألونني لماذا؟ إن المكافأة المالية هي نفسها، سواء راجعت المونتاج أم لم تراجعه!”.
وعن أقرب أعماله إليه: “الأقرب… نعم. أحب أفلامي عن باريس. غير أن الأفلام التي أذكرها أكثر هي تلك التي طرحت عليّ مشاكل جديدة. بالطبع أتذكر شريطي الأول ووقوفي وراء الكاميرا لأول مرة. وتأتي بعد ذلك أول تجربة لإدخال الصوت على فيلم “تحت سطوح باريس” ولقد شوقني ذلك وأربكني لأنه كان تحولاً طريفاً! ولعلي أذكر أيضاً أول فيلم أخرجته في لغة غير لغتي، كان ذلك في انجلترا، ثم تلاه أول فيلم بالألوان. وبالفعل كلما واجهت مشكلة جديدة كان ذلك أكثر إثارة لاهتمامي”.
أفلام الحرب..
وعن نوعية الأفلام التي لم يقوم بإخراجها قط. مثل أفلام الحرب. هل يعود ذلك إلى أسباب شخصية، أم إلى أسباب ذات علاقة بالأخلاق، أو بالذوق يقول: “في سن الثامنة عشرة ذهبت إلى الجبهة، سنة 1917، لبضعة أشهر فقط. ولن أنسى ذلك أبداً. وكنت ملحقا بالصليب الأحمر لأنني رُفضت من الخدمة الفعلية. شاهدت القليل، لكنه كان كافيا لجعلي هلعاً، مشمئزاً من فعل الحرب. وصلت إلى الجبهة في أوج الاقتتال سنة 1917. ويا لها من بداية جيدة بالنسبة لفتى في الثامنة عشرة! لم تفارقني أهوالها. فكيف أعود إلى عرض الحرب بممثلين يضعون المكياج؟ كلا. إنها مسألة أخلاقية فعلاً. وباستثناء ذلك لم أرفض إخراج أفلام درامية. ومع ذلك فهي لا تناسب مزاجي. أُفضّل محاولة إضحاك الناس، وهي مهمة أصعب، في رأيي، وأكثر من ذلك، فهي نادرة جداً، كما يؤكد الواقع.
والحال أن السينما الفرنسية منذ بداية الفيلم الناطق، ولنقل منذ 1930، شهدت اهتماماً أبرز للمخرجين، بالأفلام الدرامية. وحتى الفترة الأخيرة لم يأتِ من يكمل مهمتي. أحزنتني هذه الملاحظة إلى حد القول: “يبدو أنني لم أقدم شيئاً ذا قيمة، ولذلك ما من أحد يرغب في تعويضي” وينبغي القول إن اختفاء الكوميديا والفيلم الهزلي ليس ظاهرة تقتصر على فرنسا وحدها، بل تشمل العالم أيضاً، باستثناء المرحلة التي تألقت فيها الكوميديا الأمريكية على أيدي لوبيتش، وليو ماكلاري، وكابرا… ونحن المخرجين، نعرف جيداً أن الكوميديا تعتبر أدنى قيمة دائماً.
لقد عدت مؤخراً إلى تصفح قائمة توزيع الجوائز فوجدت أن هناك خمسة أفلام كوميدية فقط، نالت الجائزة، وذلك من بين ثمانين فيلما مجازاً. ويبدو أنها ظاهرة أبدية، إذ تحدث عنها موليير في الماضي.
الناس يفتخرون بالدموع التي أراقوها، ويخجلون من الضحكات التي اقتُلِعتْ منهم. فالجمهور العادي، بعد خروجه باكياً من مشاهدة ميلودراما، يقول: “ما أجملها!” أما عند خروجه من أفضل فيلم كوميدي فهو لا يقول “ما أجمله!” بل يقول، في أفضل الأحوال: “كم هو طريف!” وكثيراً ما تسمع تعليقات من نوع “ياللغباء!” مع ضحك أكثر”.
وعن متابعته للأخبار السينمائية يقول: “كلا، لا أتابع ومنذ وقت طويل. لا أرغب إلا في رؤية أفلام تهمني؛ وهي ليست كثيرة. ولا أريد مشاهدة ما هب ودب. وقد أعتمد على المقالات النقدية مستخدماً حسي السليم. وأنا لا أرتاد قاعات السينما لأنني شعرت بالملل كثيراً في الأعوام الأخيرة. في البداية كان الوضع مختلفاً. ولعلها ظاهرة طبيعية. نحن كلنا هكذا. أقابل عدداً من زملائي في الأكاديمية الفرنسية، من الروائيين، وهم أيضاً لا يقرؤون الروايات بل أشياء أخرى. وأنا أذهب إلى المسرح أكثر من السينما”.