18 ديسمبر، 2024 11:58 م

أضواء على كتاب الاجتهاد والتقليد( 26 )

أضواء على كتاب الاجتهاد والتقليد( 26 )

مسألة (5): الاجتهاد هو مَلَكَة الاستنباط أو القدرة الراسخة على معرفة جميع الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلية، سواء مارس ذلك أم لا. والأعلمية هي صفة من كان أقوى في المَلَكَة وأدق في النظر والاستدلال ولا دخل لسعة الاطلاع على المصادر في ذلك.

“من أدلتها التفصيلية”

———————-

س/ ما هي الأدلة التفصيلية؟

ج/ المُراد منها ما يشمل الأدلّة المحرزة والأصول العملية.

إن الأدلّة التفصيلية قرينة متصلة، على أنَّ المُراد من الأحكام هو الأحكام الشرعية التي قامت عليها الحجّة، سواء كانت مستنبطة من دليل محرز أو أصل عملي.

ويؤيد ذلك تعريفه (قدس سره) للفتوى حيث عرّفها في منهج الصالحين/ الجزء الخامس / كتاب القضاء ((الفتوى هي: بيان الأحكام الكلّية المستنبَطة من أدلّتها التفصيلية)).

والأدلّة التفصيلية بدورها ترجع إلى الكتاب والسنّة وهما المصدران الرئيسيان للتشريع الأسلامي.

إن لفظ الاجتهاد مصطلح فقهي، وهذا يعني أنه متأخر عن عصر التشريع، فليس من الصحيح حمل المعنى الاصطلاحي على لفظ الاجتهاد الذي قد ورد في بعض الروايات، بل لابد من الرجوع إلى الظهور العرفي في ذلك الوقت، فعلى سبيل المثال إن لفظ الاجتهاد كان له معنى معروف في زمن الأئمة، وهو يمثل مدرسة فقهية عند أهل السنّة، ومعنى الاجتهاد في ذلك الوقت، هو أن الاجتهاد مصدر من مصادر التشريع عند عدم وجود دليل من الكتاب أو السنّة, وهذا المعنى الذي كان يدل عليه لفظ الاجتهاد في ذلك الوقت مرفوض من قِبل الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
أمّا الاجتهاد بمعناه الاصطلاحي، فهو يختلف اختلافاً جوهرياً عن ذلك المعنى، لأن معنى الاجتهاد باصطلاح فقهاء الإمامية هي استخراج الحكم الشرعي من الكتاب والسنّة، وهذا المعنى صحيح ومحل إجماع عند كل مذاهب المسلمين، بل هو ضروري وإلا كيف يتسنى للمسلمين معرفة أحكام الشريعة؟

يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) ما مضمونه (أن أول مَنْ استعمل مصطلح الاجتهاد بمعنى استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة هو المحقق الحلي))(المصدر:دروس في علم الأصول الحلقة الأولى ) والمهم هو المعنى بغض النظر عن اللفظ والمصطلح، ويؤيّد هذا الكلام ما ذكره السيد الشهيد محمد الصدر (قدس سره)حيث قال ما نصه ((ومن هذه النصوص نعرف أن لفظ الاجتهاد لم يَرد في الكتاب والسنّة كصفة للفرد الذي يكون قوله حجّة. وإنما الوارد فيها ما عرفناه قبل قليل. فإن لم يكن الاجتهاد موجوداً في النصوص الشرعية الأصلية، وإنما هو مجرد اصطلاح سار عليه الفقهاء، اذن فلا حاجة إلى الاهتمام بتعريفه ومعرفته وترتيب الأمور عليه. نعم: هو اصطلاح فقهي جدير بالاحترام لوجوده في كلمات الفقهاء في مختلف الأجيال بل وفي مختلف المذاهب الإسلامية. الأمر الذي قد يشكّل لنا إجماعاً على وجوب تقليد المجتهد والرجوع إليه وعدم جواز الرجوع إلى غيره.

إلا إنَّ القدر المتيقّن من هذا الإجماع ليس أكثر من المفاهيم الواردة في النصوص التي سمعناها قبل قليل، ولا دليل على حجيّته أكثر من ذلك. وحيث أن مفهوم المَلَكَةَ العقلية لم يؤخذ في هذه النصوص إذن فقد يبدو أن الفرد قد يصبح قوله حجّة شرعاً بدونها. كما أن بذل الوسع في الاستنباط الوارد في التعريف الأول لم يوجد في النصوص، إذن فقد يبدو أنه لا حاجة إليه. إلا أن الصحيح ليس هو ذلك لمِا عرفناه من أن الفرد لا يكون عادة فقيهاً ولاً عارفا بالأحكام بشكلٍ متكامل إلا إذا حصلت له المَلَكَةَ كما أن المفهوم من قوله: نظر في أحكامنا وعرف حلالنا وحرامنا، أنه بذل وسعه في ذلك، وليس مجرد المرور العابر. إذن ينتج من ذلك أن المهم اجتماع كِلا التعريفين ليكون قول الفرد حجّة أمام الله عز وجل. فإنه بالرغم من أن بين التعريفين نسبة العموم من وجه لأن المَلَكَةَ قد تحصل للفرد من دون أن يكون ناظراً للأحكام. كما قد يكون ناظراً فيها من دون مَلَكَةَ. كما يمكن أن يكون ذا مَلَكَةَ وناظراً في الأحكام في الوقت نفسه.

والقَدر المتيقّن في جواز التقليد وحجيّة القول هو الأخير. وأما من حصلت له الملَكَةَ من دون أن يمارس النظر في الأحكام فيجوز تقليده نظرياً لأنه فقيه وعارف، ولكن ليس له قول معيّن ليمكن تقليده إلا بعد النظر والاستنتاج للأحكام. وأما من نظر في الأحكام من دون مَلَكَةَ، فإن كان على نطاق ضيّق وبدون خبرة مسبقة، فقوله ليس بحجّة. لأنه ليس بفقيه ولا عارف. وإن كان النظر على نطاق واسع، فهذا ملازم عادة مع صدق الفقيه والعارف فيترتب عليه الحكم بالحجيّة.))( المصدر:ماوراء الفقه ج1 ق1 )..انتهى

ومن خلال هذا الكلام يتضح أن مَنْ بلغ رتبة الاجتهاد، وحصلت له هذه المَلَكَة العقلية فإنه من أوضح مصاديق الفقيه والعارف، حتى مع عدم الممارسة، وهذا ما قاله السيد محمد الصدر (قدس سره) في هذه المسألة ((سواء مارس ذلك أم لا)) ((والأعلمية صفة مَنْ كان أقوى في المَلَكَة وأدق في النظر والاستدلال)) حيث إن الاجتهاد مَلَكَة، فهي تتفاوت في درجاتها من حيث القوة والضعف، وكما يُعبّر أهل المنطق أنها مفهوم مشكك .
وللحديث بقية اذا بقيت الحياة…