19 ديسمبر، 2024 1:09 ص

” كان قد مضت عليّ شهور وانا اكتب التقارير حول بيع أصول الدولة العراقية في المزادات التي كانت تجري في صالات الفنادق التجارية ، وذلك على ضوء احداث خيالية ابطالها تجار دروع بشرية يُرعبون رجال الاعمال بأخبار عن الأطراف المبتورة من جهة ، ومسؤولون في التجارة الامريكية يؤكدون من جهة أخرى ان الوضع لم يكن سيئاً بالقدر الذي كان يبدو على التلفاز . ( الوقت الفضل للاستثمار هو حين يكون الدم لا يزال على الأرض ) ، هذا ما قاله لي بصراحة احد المندوبين في المؤتمر الثاني ل ( إعادة اعمار العراق ) في ( واشنطن ) العاصمة . لم تكن صعوبة إيجاد اشخاص يهتمون بالتحدث عن الاقتصاد امراً مستغرباً . فمهندسو هذا الغزو كانوا من اشدّ المؤمنين بعقيدة الصدمة ، وكانوا على يقين بأنه كان سيُعمد الى بيع البلد في المزاد العلني بتكتّم ، والاعلان بعدها عن نجاح الصفقة ، بينما يكون العراقيون منشغلين في تلبية حاجاتهم اليومية الملحّة ” ( نعومي كلاين ، عقيدة الصدمة صعود رأسمالية الكوارث )

في فيلم  ( Fred Clause ) لقطة عابرة لا علاقة لها بالسياق الدرامي يدخل شقيق ( سانتا كلوز ) فريد عن طريق الخطأ في ليلة الميلاد مدخنة لأحد البيوت اليهودية فيجد الأسرة تحتفل وتصرّ على ان يأكل المزيد من الكعك والبسكويت فيخبرهم منبهراً أنهم كرماء جداً ، رغم أن الفيلم طوال لقطاته لم يعرض عائلة مسيحية واحدة تحتفل في هذا الوقت من الليل .

ستأتي زوجة ( ترامب ) يوماً وتتحدث عن القيم والحبّ والمشاعر في إحدى الجمعيات النسوية التي يمكن أن يدعمها مال منظومة ترامب الاقتصادية . لكنها ستكون بالتأكيد كاذبة ، اذ لا توجد امرأة تملك شيئاً من القيم وبعضاً من الحب ّ وحسّاً من المشاعر يمكنها القبول ب ( ترامب ) . اذ هو المال . لذا ليس في العالم المنظور اعلامياً مُثل حقيقية .

من قال أننا بحاجة إلى غلبة عسكرية فقط فهو واهم ، هكذا وصل هؤلاء الناس إلى غاياتهم بالقوى الناعمة والوسائل القذرة لعقيدة الصدمة .

لذا فجميع من يتحدث عن البناء في ظل الشركات الأجنبية او عن القدرة المحلية للمنافسة فهو اما واهم او كاذب ، فالعالم لا تحكمه الاخلاق بقدر ما يتحكّم فيه المال ، الذي يتحول الى دم او الى خوف في حال انه غاب ولم يصب في جيوب السارقين الكبار ، الذين يتميزون بكونهم لا يشبعون مطلقا . هذه الشركات العابرة للقارات تلتهم كل وطن لا جدار حماية له . وقد اثبتت التجربة العراقية ان انضج الشركات الدولية حين مرّت بالعراق سرقت ورحلت فقط ، دون اثر العمار المدّعى ، كما اثبتت التجربة ايضاً ان الشركات المحلية كانت في كثير من الأحيان تنهض وتقوم على المال الحرام الذي تذروه الحكومات المتعاقبة في هواء الدمار والفساد ، او على كيان للصّ او قاطع طريق سابق ، وهو ما تفضلّ الحكومات التعامل معه دون التعامل مع الشركات التي لها نفس وطني .

في احد العقود التي شهدت حالتها بصورة مباشرة أيام الحكومة الاقتصادية المشتركة بين الاحتلال والأحزاب النفعية أخذت احدى الشركات الامريكية عقد هدم مبنى إدارة احدى المحافظات ، وهو مبنى عادي جدا وقديم ويمكن لأي مجموعة عمال عراقيين هدمه بسهولة فائقة ، لتقوم ببيع العقد على شركة إيطالية باعته بدورها لشركة سعودية قامت ببيعه لشركة عراقية في بغداد والتي باعته لشركة محلية في تلك المحافظة قامت هي الأخرى ببيعه لاحد المقاولين الذي قام ببيعه لمقاول ثانوي سلّمه لمجموعة من العمال العراقيين ، وأخذت جميع تلك الشركات الأموال دون ادنى جهد يذكر ! .

تبدأ الخصخصة من السفارة الأمريكية وتمرّ بالأحزاب التي عطّلت عن عمد الموارد الصناعية والبشرية وتنتهي بشعب تم تدجينه بالدين الزائف والإعلام والدم .

في موضوع الخصخصة وبيع موارد النفط والكهرباء للشركات متعددة الجنسيات او الوحوش المحلية ليس من الصدفة ان نجد السيستاني والتيار المقتدائي والسنة العرب في الطرف الصامت . وعند ذكر الخصخصة وبيع موارد البلد الاقتصادية ليس من الغريب أن نجد أحزاب الدعوة والمجلس والحزبين الكرديين في الطرف البائع .

وقد قامت القنصلية في البصرة بالتدخل فعلاً والاستفسار من احد أعضاء مجلس محافظة ذي قار عن سبب رفضه لخصخصة قطّاع الكهرباء العراقي . في الوقت الذي نتذكر جميعاً ان رئيس الوزراء الحالي هو الذي قام فعلاً بخصخصة قطاع الاتصالات الحيوي في تجربة فاشلة ومرهقة تماما .

فيما لا يملك مكتب السيستاني – الذي تؤكد مصادر مهمة ارتباطه المباشر بقطاع النفط والطاقة عن طريق الشهرستاني الذي مثّلهم في تشكيل التكتلات الشيعية السياسية وتولّى بيع الثروة النفطية العراقية بثمن بخس دراهم معدودة – اية ردود فعل بحجم الخطر المحدق بالثروة المرتبطة بمصالح الجماهير التي جعلته الحكومة والإعلام الرأسمالي وليّاً فقيهاً لهم عمليا .

كما ينشغل مقتدى الصدر بتوافه المطالب الاناسياسية ، في الوقت الذي ستعاني قواعده المباشرة اشد النكال من كل خطوات الخصخصة وبيع أصول الدولة العراقية ، إذ هو وكوادره لا يجيدون التركيز على مطالب مفصلية في تغيير شكل وبنية العملية السياسية والاقتصادية كموضوعي قانون الانتخابات والخصخصة ، لا سيما وانهم كانوا جزءاً مهماً او غبياً في انهيار قطاعي الصناعة والخدمات عندما استلموا ادارتهما .

وفيما يذهب قادة الحشد الشعبي للذود عن حدود الوطن يرجعون لاحقاً ولا وطن فعلي لهم ، لانهم لم يجيدوا سوى القتال العسكري ، وقد فشلوا في الغالب في القتال الفكري ، والمرء باصغريه عقله ولسانه ، وسيدركون عندها ان ( داعش ) لم تكن سوى لعبة تأخذه عقولهم وإخوانهم من عشائر الجنوب بعيداً عن الذي يفعله اللاعبون الكبار في بغداد .

وقد رأينا كيف ان ( مشروع الخصخصة ) لقطاع الكهرباء اكبر حتى من الديموقراطية حين رفضته الكثير من مجالس المحافظات اصرّت الوزارة على الاستمرار فيه ، كما أصدرت لجنة الطاقة في البرلمان العراقي بياناً أعربت فيه عن اعتراضها على المشروع واستغرابها من بعض فقراته المبهمة . بل ان هناك احاديث عن ( مشروع لخصخصة قطاع المياه ) أيضا .

في احدى السنوات حين كنت اقرأ شريط الأخبار لإحدى القنوات وجدت ان مصر استدانت مبلغ ستمئة مليون دولار من احدى البنوك الدولية ، هو ما يساوي نصف قيمة انشاء محطة لإنتاج الكهرباء بقدرة أربعة وعشرين الف ميغا ، والتي تفوق الحاجة العراقية بالتأكيد . فيما حكومة المخادعين النائبة عن اخطبوط المال العالمي تأتي بعد انفاق المليارات من أموال وثروات العراقيين على ملف الكهرباء لتخبرهم انها ستقبض مال الإنتاج والتوزيع منهم ! ، وكأنما هي قد أنفقت المال سابقاً من جيب الأمين العام لحزب الدعوة او صدقت السيد عمار الحكيم او من مال السفارة الإسرائيلية في أربيل او من زكوات ظافر العاني . وعذرها انها عجزت عن إدارة هذا الملف ، فيما ان العاجز أولى به ان يستقيل ، لا ان يحيل عجزه الى مال من دمنا المتدفق على هذه الأرض .

لحظة .. فلنكن أكثر نباهة .. كل الحلول التي تطرحها الحكومة ما هي الّا علاجات متأخرة لمشاكل صنعتها سياستها الفاشلة .. وهي مقدمة لمشاكل أخرى تصنعها هذه الحلول ذاتها ..

من عهد امير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر : ( وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ فَإِنَّ فِي صَلَاحِهِ وَصَلَاحِهِمْ صَلَاحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ وَلَا صَلَاحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلَّا بِهِمْ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلَابِ الْخَرَاجِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلَادَ وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلَّا قَلِيلًا فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلًا أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ وَلَا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْ‏ءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَئُونَةَ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلَادِكَ وَتَزْيِينِ وِلَايَتِكَ مَعَ اسْتِجْلَابِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ وَتَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ ) .

أحدث المقالات

أحدث المقالات