القسم الثالث
بدأ تخطيط المدن والعمارة الإسلامية منذ هجرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى يثرب (= المدينة المنورة) سنة 622م، الذي يصادف السنة الاولى من الهجرة، حين أصبح للمسلمين مدينتهم الأولى (= المدينة النبوية) التي تقع على بعد 400كم شمال شرق مكة المكرمة و150 كم شرق البحر الاحمر. وكانت تقع على طريق التجارة إلى الشام، وذات تربة خصبة ومياه وفيرة مقارنة بمناطق أخرى في الحجاز. وعلى هذا كان ليثرب بنية اقتصادية جيدة حيث توفرت فيها الزراعة والتجارة، بالإضافة إلى بعض الصناعات الحرفية مثل التعدين. كانت يثرب أيضا تتميز بتنوع ديموغرافي يمثله وجود عدة قبائل لليهود، كما كانت تفتقر إلى سلطة سياسية مركزية، قبل مجىء النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إليها؛ مما أدى استمرار الخصومات بين قبيلتي الاوس والخزرج من جهة، وبين اليهود أنفسهم، أو بين العرب واليهود؛ وتحولها إلى حالة دائمة فيها.
حين سيطر الإسلام على المدينة، كان أول تغيير يحدث فيها، هو ظهور السلطة المركزية المتمثلة بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كقائد أعلى للمدينة.
ومن أبرز نواة التغيير العمراني في المدينة المنورة،كان بناء المسجد النبوي في أرض في وسط المدينة أبتيعت للمسجد، ثم شقت طرق رئيسية تصل المسجد بالضواحي، فقد أشارت الروايات التاريخية إلى طريق يمتد من المسجد ويتجه غربا حتى يصل إلى جبل سلع، وطريق من المسجد يخترق منازل بني عدي بن النجار ويصل إلى قباء جنوباً، و طريق من قباء يتجه شمالا إلى البقيع. كانت الشوارع قياسية فقد كان عرض الشارع الرئيسي سبعة أذرع، والذي يتفرع منه خمسة أذرع والشارع الأصغر ثلاثة أذرع. غطيت شوارع المدينة في حينها بالحصى.
حين وصل المهاجرون إلى المدينة وهب لهم الأنصار بعض الأراضي الفارغة ليسكنوا فيها، وقد قسمت الأرض بطريقة قبلية حيث أن كل قبيلة أعطيت أرضا يخططونها كما شاءوا. وأنشأت هذه نواة لتخطيط المحلات السكنية طوال الحقبة الإسلامية حيث أن المحلة نفسها تقتطع لها أرض محددة ويقوم ساكنيها بتنظيمها كما يرون مناسبا. إلا أن بعض المباني العامة كانت تخطط مركزيا فقد روى جابر بن أسامة قال: لقيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) بالسوق في أصحابه فسألتهم أين يريد، فقالوا: اتخذ لقومك مسجدا، فرجعت فإذا قومي فقالوا خط لنا مسجدا وغرز في القبلة خشبة.
كانت تنظيم السوق بلا مباني حيث أن الأرض كانت تترك فضاء، ويأتي التجار ببضائعهم فيستخدمون موقعا يبقى لهم حتى آخر النهار ولكنه ليس محجوزا لهم دوماً، فقد تركت الأرض مشاعا حتى قيام الدولة الأموية.
بالإضافة إلى ذلك فقد اهتم الرسول عليه الصلاة والسلام بتوفير المرافق العامة حيث أقام الرسول عليه الصلاة والسلام خيمة بالمسجد لأجل التداوي، كما أقيمت دور الضيافة لاستقبال الوفود كان أهمها، دار الصحابي (عبد الرحمن بن عوف) واتخذت مواضع لقضاء الحاجات تسمى المناصع، واختيرت مواضع للذبح بعيدا عن السكان، وعين مكاناً لصلاة العيدين.
في نفس الوقت وبالموازاة مع البناء، قام الرسول محمد عليه الصلاة والسلام بإعادة تنظيم المدينة إداريا واجتماعيا، حيث أن أول عمل قام به، هو الموآخاة بين المهاجرين والأنصار والذي حقق الكثير من الأهداف، أهمها المساعدة على دمج المهاجرين في المجتمع الجديد وتقوية الأواصر بينهم وبين الأنصار والتأكيد على أهمية التكافل الاجتماعي.
كانت تأثير الرسول عليه الصلاة والسلام على تخطيط المدينة كبيرا جداً، واستمر هذا التأثير طيلة قرون طويلة حيث أن الكثير من المبادئ التي أعتمد عليها في تخطيط وإدارة المدن الإسلامية منذ ذلك الحين حتى نهاية القرن التاسع عشر كان يرجع في أساسه إلى هذا النموذج.
بعد توسع الدولة في عصر صدر الإسلام، أسست العديد من المدن أو القواعد العسكرية التي تحولت إلى مدن. أهمها: هي البصرة تعد مدينة البصرة القديمة أول مدينة إسلامية تُبنى خارج حدود جزيرة العرب، وكان بناؤها على الضفة الغربية لنهر شط العرب الذي يشكل ملتقى نهري العراق الشهيرين دجلة والفرات، وحدد المؤرخون موقع بنائها القديم في الموقع الحالي لمدينة الزبير في العراق، وبنيت البصرة قبل بناء مدينة الكوفة بستة أشهر. فقد خط الصحابي عتبة بن غَزوان هذه المدينة في سنة 14هـ/635م أثناء الفتح الإسلامي للعراق، بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب؛ لتكون داراً ومعسكراً دائماً للمجاهدين المسلمين المقاتلين في الفتوحات وعائلاتهم، فمصَّرها بعد أن وجد فيها مقومات العيش المناسبة للجند وعائلاتهم، وبنى المسجد ودار الإمارة والسجن فيها، وتولى المغيرة بن شعبة ولايتها عقب عتبة بن غَزوان، ثم تبعه أبو موسى الأشعري.
أما الكوفة فتعد ثاني مدينة بنيت في الإسلام بعد البصرة مباشرة بعامين، تمّ تأسيسها إبّان نهضة الإسلام الكبرى، حين كان المسلمون ينطلقون إلى الفتوحات، سنة 17 للهجرة، بعد أن فرغ المسلمون من تشييد البصرة قام الصحابي القائد سعد بن أبي وقاص بتشييد الكوفة ما بين سنة 15 و17 و19 هجرية حسب الاختلاف في الروايات التاريخية. ويذكر الطبري في تاريخه (أخبار العام 18هجرية) في سبب بنائها أن سعد بن أبي وقاص، بعدما فتح العراق وتغلب على الفرس الساسانيين في معركة القادسية، لم يجد أفضل من موقعها لحصانته بسبب طوبوغرافيتها وارتفاعها، بحيث لا يردها ماء الفيضان ولقربها من ماء الفرات ومن مدينة الحيرة العربية عاصمة العرب المناذرة في العصر الساساني.
وقيل لمّا فرغ سعد بن أبي وقاص من معركة القادسية ثم افتتح المدائن، حوّل الجيش إلى سوق حكمة، وبعضهم يقول: حولهم إلى كويفة دون الكوفة. قالوا: فأصابهم البعوض، فكتب سعد إلى عمر يعلمه أن الناس قد بعضوا وتأذوا بذلك. فكتب إليه عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه):” إن العرب بمنزلة الإبل لا يصلحها إلا ما يصلح الإبل، فارتد لهم موضعا عدناً، ولا تجعل بيني وبينهم بحراً. فأختار لهم سعد جانب الفرات بالقرب من الحيرة. فلما انتهى سعد إلى موضع مسجدها أمر رجلاً فغلا بسهم قبل مهب القبلة فأعلم على موقعه، ثم غلا بسهم آخر قبل مهب الشمال وأعلم على موقعه، ثم غلا بسهم قبل مهب الجنوب وأعلم على موقعه، ثم غلا بسهم قبل مهب الصبا فأعلم على موقعه، ثم وضع مسجدها ودار إمارتها في مقام الغالي وما حوله”.
وكان تأسيس الكوفة من الضرورات التي اقتضتها ظروف الحرب والفتوحات في زمن الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب؛ وذلك لأنّه لمّا وصل المسلمون إلى بلاد إيران بقيادة سعد بن أبي وقاص اقتضت الضرورة بأن تكون لهم نقطة وصل وربط بينهم وبين المدينة المنورة بدون حاجز بري كجبل مثلاً، أو مائي كنهر، ومعسكر قريب من ساحة القتال ومركز يؤوبون إليه إذا أرادوا، وقد أشار أبو حنيفة الدينوري في كتابه (الأخبار الطوال ) إلى هذه القضية بقوله:” وأقام سعد في عسكره بالقادسية إلى أن أتاه كتاب عمر، يأمره أن يضع لمن معه من العرب دار هجرة، وأن يجعل ذلك بمكان لا يكون بين عمر وبينهم بحر. بعد انتصار المسلمين في معارك القادسية والمدائن وجلولاء، فاختاروها لتكون قاعدة ومقرّاً للقيادة”.
وقد اتخذها الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه) عاصمة لحكومته بعد الانتقال إليها من المدينة عام35هـ/655م، وأخيراً استشهد الإمام علي ( كرم الله وجهه) في مسجدها في شهر مضان عام40هـ/659م.
أما الفسطاط فهي المدينة التي بناها الصحابي القائد عمرو بن العاص فى مصر حوالى سنة20هـ/ 641م. وتاريخ بناء الفسطاط غير متفق عليه فيقول البلازدرى انه بدأ بعد استيلاء المسلمين على بابليون، لكن غالبية المؤرخين يشيرون الى انه ابتدا بعد الاستيلاء على الاسكندرية. الفسطاط أصبحت عاصمة مصر لغاية سنة 750هـ/ 1349م عندما سيطر العباسيون على مصر.
لذا تعد مدينة الفسطاط أقدم المدن الإسلامية في مصر، فقد بناها عمرو بن العاص وفق طراز معماري يوافق ذلك الزمن الذي بنيت فيه. ويرجع المؤرخون سبب تسمية «الفسطاط» بهذا الاسم إلى أن عمرو بن العاص لما أراد التوجه لفتح الإسكندرية، أمر بنزع «فسطاطه» أي خيمته، فإذا بداخلها يمامة قد أفرخت، فلما عاد من الإسكندرية سألوه أين تنزل، فقال: «الفسطاط»، فعرفت تلك المدينة بهذا الاسم.
وتعرضت الفسطاط للحريق، حين جاء أموري ملك مملكة القدس الصليبية لغزو مصر، وقام الوزير الفاطمي (شاور بن مجير السعدي)، بإحراق الفسطاط سنة 564هـ/1169م، وكما يقول المقريزي عن تلك الحادثة: “فقد أرسل شاور عشرين ألف قارورة نفط، وعشرة آلاف مشعل نار، فرق ذلك فيها، فارتفع لهب النار ودخان الحريق إلى السماء، فصار منظراً مهولاً، واستمرت النار تأتي على مساكن مصر لتمام أربعة وخمسين يوماً”. ولما رحل أموري عن مصر، أخذ الناس يعودون إلى الفسطاط ويصلحون ما تلف منها، خاصة الجزء الغربي، الذي يقع ما بين جامع عمرو بن العاص، وشاطئ النيل.
وكانت الفسطاط مقسمة إلى أماكن، خاصة بالقبائل التي كانت تسكنها، حيث أخذت كل قبيلة في بناء مساكنها، وكان لكل قبيلة مسجدها الذي تصلي فيه الصلوات الخمس، أما جامع عمرو بن العاص، فكان مخصصاً لصلاة الجمعة، وصلاة العيدين، كما كان مقراً للوالي الذي يجتمع فيه مع قواده، وتقام فيه المحاكمات للفصل بين الرعية، كما كانت تقام فيه دروس العلم.
يعود تاريخ بناء القيروان إلى عام 50هـ/ 670م، عندما قام بإنشائها عقبة بن نافع. وكان هدفه من هذا البناء أن يستقر به المسلمون، إذ كان يخشى إن رجع المسلمون عن أهل إفريقية أن يعودوا إلى دينهم. تقع القيروان في تونس على بُعد 160 كم جنوب العاصمة تونس.