أيام معدودة لم تتجاوز أشهر ثلاثة هي أقصى فترة من الزمن كما يرويها كبار المؤرخين من العامة والخاصة عاشتها أم أبيها وروح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي بين جنبيه سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام، تلك الفترة التي لاقت فيها بنت محمد (ص) الويلات والظلم والاضطهاد والفتن وغصب الحقوق وسلب للإرث وانتهاك للحرمات وأنكار للوصية والعهود المأخوذة وعصيان لأوامر الله سبحانه وتعالى وكل ما قاله خاتم أنبيائه ورسله المصطفى (ص) وأوصى به المسلمون خاصة الصحابة للتمسك به من بعده بناءاً لأوامر الله سبحانه وتعالى حيث “وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى” – (3و4 النجم) .
فكان الرسول (ص) يعلم جيداً ما سيدور على بضعته الوحيدة ووصيه وخليفته المرتضى عليهما السلام من بعده وعلى يد اولئك الذين كانوا يتشدقون بصحبتهم لنبي الرحمة (ص) الذي كان يوصي بها (ع) في كل فرصة تسنح له تأكيداً على مكانة ومنزلة ومقام وعظمة وقرب فاطمة الزهراء وبعلها الامام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهما السلام من الباري سبحانه وتعالى ومنه؛ فكان وعلى مدى أكثر من ستة أشهر يقف فجر كل يوم على باب دار فاطمة (ع) وينادي بصوت عال يسمعه أهل المدينة كلهم آنذاك “الصلاة يا أهل البيت” ثم يتلوا (ص) آية التطهير “إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُم” – الأَحْزَاب:33(الحاكم في المستدرك عن أنس بن مالك برقم 4748).
عانت مولاتنا فاطمة الزهراء (ع) خلال حياتها القصيرة التي لم تتجاوز الـ 18 عاماً كل ما عاناه المسلمون، منذ شعب أبي طالب وحتى هجرتها الى يثرب ومؤازرتها الرسول الأكرم (ص) في مسيرته وجهاده وحتى وقوفها عليها السلام مع وصيه أمير المؤمنين الامام علي (ع) بعد رحلته (ص) وارتداد أكثر المسلمين وأثبتت بجدارة أنها المجاهدة والسياسية المحنكة والصابرة المحتسبة، حيث دافعت بخطبها أمام الطغاة عن الحق المتمثل بولاية علي (ع) وجابهت كل أنواع التحريف والتزوير والتزييف للحق والحقيقة والشريعة الالهية وسنن الرسول (ص) وما جاء به القرآن الكريم بعد أن بدأ القوم بذلك منذ أن رقد الرسول (ص) في فراش الرحيل الى جوار ربه وأعدوا ما أعدوا لـ”سقيفة بني ساعدة” وقدمت لذلك أغلى ما عندها .
جسّد طغاة القوم وقادتهم كل ما قاله رسول الله (ص) من قبل لأصحابه وهو آخذ بيد أبنته فاطمة (ع): “وأما ابنتي فاطمة، فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، ونور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبي… وإني لما رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي، كأني بها وقد دخل الذل بيتها، وانتهكت حرمتها، وغصبت حقها، ومنعت إرثها، وكسر جنبها، وأسقطت جنينها، وهي تنادي: يا محمداه ، فلا تجاب ، وتستغيث فلا تغاث ، فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية … فتكون أول من يلحقني من أهل بيتي، فتقدم علي محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة مقتولة، فأقول عند ذلك: اللهم العن من ظلمها، وعاقب من غصبها، وأذل من أذلها، وخلد في نارك من ضرب جنبها حتى ألقت ولدها…” – جاء في فرائد السمطين: ج 2 ص 34-35 والأمالي للشيخ الصدوق ص 99- 101 وإثبات الهداة: ج 1 ص 280 -281 ، وإرشاد القلوب ص 295، وبحار الأنوار: ج 28 ص 37 -39، وج 43 ص 172- 173، والعوالم: ج 11 ص 391 و392، وفي هامشه عن غاية المرام ص 48 والمحتضر ص 109، وجلاء العيون للمجلسي: ج 1 ص 186- 188 وبشارة المصطفى ص 197- 200 والفضائل لابن شاذان ص 8- 11، وتحقيق المحدث الأرموي.
يقول أبن قتيبة في (الامامة والسياسة ج1 ص19): إنّ أبا بكر تفقّد قوماً تخلّفوا عن بيعةٍ في دار علي وفاطمة (عليهما السّلام) , فأبوا أن يخرجوا , فدعا عمر بالحطب يريد منهم أن يبايعوا بالإكراه والقوة, وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقّنها على مَن فيها .
فقيل له: يا أبا حفص, إنّ فيها فاطمة !
قال: وإنْ
فوقفت فاطمة (سلام الله عليها) على بابها, فقالت: “لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضراً منكم ! تركتم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم ؛ لم تستأمرونا ولم تردّوا لنا حقّنا !” – تاريخ الخلفاء 1 / 12 للحافظ جلال الدين السيوطي.
كان لسيدتنا فاطمة (عليها السلام) موقف واضح من الخلافة, حتى إن بيتها كان عند جماعة السقيفة هو مركز المعارضة, حتى قال عمر في روايته لما جرى في السقيفة بعد أن ذكر أنها فتنة ولكنّ الله وقى شرها المسلمين, يقول: وإنّ علياً والزبير ومن معهما تخلّفوا عنّا في بيت فاطمة- الكامل في التاريخ ـ لابن الأثير 2 / 325 .
سجل بعض الصحابة أرقاماً فاقت حدّ التصور في الأحداث والانقلاب بعد الرسول (ص)، فكانوا مصاديق قوله (ص): “ليردنّ علي الحوض رجالٌ ممّن صحبني ورآني، حتى إذا رفعوا الي ورأيتهم اختلجوا دوني، فلأقولنّ: ربّ أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، انهم ارتدوا على أعقابهم القهقري”- (مسند أحمد: 5: 48)، وفي لفظ آخر:” ليردن علي الحوض رجلان ممن صحبني، فإذا رأيتهما اختلجا دوني”- (مسند أحمد 4: 20)؛ وتجاهلوا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جمع الأنصار عندما حضرته الوفاة “يا معشر الأنصار, لقد حان الفراق… الى أن قال: ألا إنّ فاطمة بابها بابي, وبيتها بيتي؛ فمن هتكه فقد هتك حجاب الله” – كتاب سليم بن قيس الهلالي / 31.
ففعلوا ما فعلوا ونكروا ما نكروا وانقلبوا على الحق والحقيقة وارتدوا على عهودهم ونكثوا بيعتهم أمام عشرات آلاف المسلمين في “غدير خم” وذهب قولهم “بخ بخ لك يا علي..” هواءً في شبك وكأن لم يقولوها مطلقاً، فأنكروا الوصاية لبعل الزهراء (عليهما السلام) دون فصل وغصبوا إرثها وسلبوها “نحلة فدك” رغم وقوفهم على حقانيتها عليها وأنها هدية ربانية إكراماً لما أنفقته أمها خديجة (سلام الله عليها) من مالها الوفير في خدمة نشر الاسلام ولم يكتفوا بذلك فقط، بل فعلوا فعلتهم الشنيعة حيث عصروها بين الباب والحائط رغم علمهم بوجودها خلف الباب بمقولته الشهيرة “وإن”، لينبت المسمار في صدرها الشريف ويكسروا جنبها، وأسقطوا جنينها، وأرعبوها وأرهبوها وأهل بيتها (عليهم السلام) وطرحوها مريضة الفراش وبقيت على هذه الحالة المأساوية حتى فارقت روحها الطاهرة جسدها نحو ربها في 13 جمادي الأولى سنة 11 للهجرة في عام رحيل والدها خاتم المرسلين (ص) في 28 صفر منه، ودفنت سراً وفق وصيتها ولا زال قبرها الشريف مجهولاً كما أوصت (ع) بذلك لآنها ماتت وهي واجدة ممن آذوها كما روته عائشة: “ماتت فاطمة وهي واجدة (غاضبة) عليهما (أبو بكر وعمر)” – كما جاء في صحيح البخاري عدة أحاديث منها 2862 وكذلك : ج 5 – ص 177 وصحيح مسلم: ج 1 (ملخص) – ص 589 دار السلام – رياض – السعودية وكتاب الإمامة والسياسة ج 1 – لابن قتيبة الدينوري تحقيق الشيري ص 31 .
بِنْتُ مَنْ أُمُ مَنْ حَلِيلَةُ مَنْ ويْلٌ لِمَنْ سَنَ ظُلْمَهَا وأَذَاهَا